الصفحة الرئيسية   |   العنوان   |   السيرة النية   |   المواد التدريسية   |   الأعمال المنشورة   |   مشاريع بحثية   |   مقالات صحفية بالعربية
 
مقالات صحفية في الأدب الشعبي  |   محاضرات عامة   |    ديواني   |    أعمال قيد النشر   |    مراجعات أعمال د. الصويان

Home | Contact | Curriculam Vita | Courses Taught | Publications | Research Projects | Newspaper Articles in SaudiDebate
Newspaper Articles on Folk Literature | Public Lectures | Anthology | Work in Progress | Reviews of Dr.Sowayan's Works

 

 

الصحراء العربية

 ثقافتها وشعرها عبر العصور
 

 Arabian Desert : Its Culture and Poetry

 

 

سعد العبدالله الصويان
 


المحتويات

توطئة: الشفاهي والكتابي في اللغة والأدب

الخلل المنهجي في دراسة الشعر الجاهلي

النص الشفاهي والنص الكتابي

تداخل الشفاهي والكتابي

الكتابة والكلام

الشعر الجاهلي ونظريات الأدب الشفهي

نظرية الانتحال

نظرية الصيغ الشفهية

العمل الميداني عند العرب

محدودية الذاكرة

طبيعة العلاقة بين الشعر النبطي والشعر الجاهلي

العلاقة الأدبية

العلاقة االتاريخية

أوجه أخرى للعلاقة

وقع الحافر على الحافر

الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون                                        

أجناس الشعر البدوي في المقدمة

الشعر البدوي في المقدمة وقضايا التحقيق

الشعر الهلالي والشعر النبطي

نظم القصيدة

الفيض والتدفق

نحت المعاني وترويض القوافي

تجسيد المعاناة الشعرية

الليل والمرقب

صب الصوت

الرواية والتداول

استقلالية النظم عن الرواية

الاركاب

مجالس الشعر

وظيفة الشعر

تدوين الشعر الجاهلي والشعر النبطي

تداخل التاريخ والأسطورة

سالفة القصيدة

آليات التحول الأسطوري

موثوقية المادة الشفهية

شعر القلطة (الوصف)                                                    

النزول إلى الملعبة

استراتيجية اللعب

المربّط والمعوسر

من مرحلة الخشونة إلى مرحلة التجديد

شعر القلطة (التحليل)                                                   

الرد والنظم

الرمز في شعر القلطة

الارتجال في الشعر العربي

نماذج من القلطات ومناسباتها

البداوة والبدائية                                             

نقد النموذج الخلدوني للبداوة

استئناس الإبل وظهور البداوة

البعير والفرس: القوة المزدوجة

أيديولوجيا القبيلة

البدو والحضر                                                        

النموذج المحلي

التكامل الاقتصادي

المشهد السياسي

صراع الرموز                                                          

الغرس والذود

الإبل كمركّب ثقافي وموضوع شعري

انحسار البداوة وتقلّص دور الإبل

ثقافة الصحراء                                                  

الكرم والشجاعة

نوستالجيا البداوة

الأوضاع القبلية                                                       

الحل والترحال

سالفة وقصيدة للشاعر رضا بن طارف الشمري

المناخات والأكوان

الغزو                                                          

الحنشلة والمعيار

الغزو

الغزو والإبل

من حايف إلى عقيد: شليويح العطاوي نموذجا

سلوم العرب                                                          

قواعد الاشتباك والتدابير السلمية

الثلاث البيض

الخوي

القضاء العرفي                                                            

الإجراءات والمرافعات العرفية

الكفالة والدخالة

الوجه والحشم

الحق للقوة

المراجع

 

 


 

توطئة

الشفاهي والكتابي في اللغة والأدب

المشكلة المنهجية التي نواجهها في دراستنا للقصيدة الجاهلية كنتاج أدبي هي أن الشعر الجاهلي في صميمه شعر شفاهي والمجتمع الجاهلي الذي نشأ فيه هذا الشعر كان مجتمعا أميا شفاهيا. إنه لأمر مدهش حقا أن تثار قضايا في الشعر الجاهلي مثل مسألة الانتحال أو مسألة الصياغة الشفهية أو حتى مصداقية "أيام العرب" وحقيقتها التاريخية ولا يفكر من يناقشون هذه المسائل بالرحلة إلى بادية الجزيرة العربية ودراسة شعرها وأدبها لتعميق الرؤية العلمية حيال هذه المسائل. لقد آن لنا الأوان أن نستفيد من مناهج العلم الحديثة وأن نتبنى نظرة أوسع وأعمق وأكثر شمولية في تناولنا لقضايا الأدب الشفهي والثقافة التقليدية في مجتمعاتنا العربية من عصر الجاهلية وصدر الإسلام حتى العصور المتأخرة، خصوصا فيما يتعلق بمسائل النقد الأدبي وقضايا الشعر الشفهي، قديمه وحديثه، فصيحه وعاميه (26 صفحة).

 

الشعر الجاهلي

ونظريات الأدب الشفهي

النتائج التي يقود إليها تطبيق نظرية الصياغة الشفهية على الشعر الجاهلي لا تختلف كثيرا عن نظرية الانتحال في أنها تلقي بظلال كثيف من الشك حول حقيقة وجود الشعراء الجاهليين وحول مصداقية الشعر الجاهلي وموثوقيته التاريخية، وفي الزعم بأن هذا الشعر الذي نطلق عليه مسمى الشعر الجاهلي لا يعود أصلا إلى العصر الجاهلي وإنما إلى عصر التدوين الذي ابتدأ مع بداية القرن الثاني للهجرة. ولكن على الرغم من اتفاق النظريتين في النتائج التي توصلتا إليها فإن كلا منهما يعزو ذلك إلى أسباب مختلفة. ترى نظرية الانتحال أن الرواة الإسلاميين تعمدوا بوعي وعن قصد انتحال هذه الأشعار ونسبتها لشعراء جاهليين يحدوهم إلى ذلك دوافع عديدة مختلفة، أهمها الدوافع الدينية والسياسية والقبلية والشعوبية. أما أصحاب نظرية الصياغة الشفهية فهم يرون أن ما حدث هو نتيجة حتمية تعود أساسا إلى طبيعة النظم الشفهي كما حددتها النتائج التي توصلت لها نظرية الصياغة الشفهية oral formulaic theory التي استحدثها العالم الأمريكي ميلمان باري Milman Parry من خلال الأبحاث التي أجراها على الشعر الملحمي في يوغوسلافيا ثم طورها من بعده تلميذه ألبرت لورد Albert Lord وروج لها في كتابه The Singer of Tales. تطبيق نظرية الانتحال أو نظرية الصياغة الشفهية على الشعر العربي تقوم على تقويض جهود اللغويين العرب في دراستهم وفهمهم لطبيعة هذا الشعر وتفترض عدم إدراكهم لخصائصه الشفهية (31 صفحة).

 

طبيعة العلاقة بين الشعر النبطي والشعر الجاهلي

لا نأتي بجديد إذا قلنا أن هنالك علاقة وثيقة تربط الشعر النبطي بشعر الجاهلية وصدر الإسلام. فلقد أثير هذا الموضوع من قبل وتطرق إليه العديد من الباحثين. غير أن ما كتب في هذا الصدد حتى الآن لا يعدو إيراد بعض الأمثلة والخواطر العابرة التي لا تفي الموضوع حقه من الدراسة والتحليل ولا تتجاوز بنا مستوى الشواهد إلى مستوى الرؤية الكلية الشاملة. حينما نتفحص عن كثب علاقة الشعر النبطي بالشعر العربي نجد أنها ليست علاقة مسطحة ذات بعد واحد وليست من البساطة بالقدر الذي يتصوره البعض. إنها موضوع شائك الدروب كثير المنعطفات تحكمه قوانين متشعبة لا بد من لم شتاتها كي يتسق النقاش وتتضح الرؤية وتستقيم طرق البحث. ولا يمكن أن نترجم شعورنا البديهي بتلك العلاقة بين الشعرين النبطي والعربي القديم ونبلوره من مجرد حدس وإحساس إلى أفكار منتظمة ومقولة متكاملة ما لم نكون صورة ذهنية واضحة لهذه العلاقة وما لم نتمثلها على أوجهها المتعددة ونحدد معالمها المختلفة. يمكننا أن نميز بين نوعين من العلاقة بين الشعر النبطي والشعر العربي القديم؛ علاقة أدبية وعلاقة تاريخية. العلاقة الأدبية علاقة مصطنعة مبنية على المحاكاة الشعورية والتقليد الواعي ويختص بها المتعلمون من شعراء النبط ممن لهم اطلاع على كتب الأدب ودواوين الشعر العربي التي تأثروا بها مباشرة وحاولوا محاكاتها والسير على نهجها. أما العلاقة التاريخية فإنها أعمق من كونها مجرد علاقة تشابه معان أو تطابق صور، إنها علاقة طبيعية عضوية أساسها النسب اللغوي والفني وقوامها الاستمرارية التاريخية والثقافية بين مجتمعات الجزيرة العربية من العصور القديمة حتى الآن، كما سيتبين لنا بشكل واضح ومفصل في ثنايا الفصول اللاحقة (32 صفحة).

 

الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون

من أجل إثبات علاقة الشعر النبطي تاريخيا ولغويا بشعر الجاهلية وصدر الإسلام وانحداره منه مباشرة لا يكفي أن نورد بعض الأمثلة على التشابه والاتفاق بينهما في الأشكال والمضامين. لا بد لنا أيضا من تحديد المحطات التي مر بها الشعر في الجزيرة العربية في مراحل تحول لغته من الفصحى إلى العامية، وأن نتتبع هذا التحول من خلال الشواهد الشعرية. لقد حاولت في موقع آخر أن أقدم طرحا متكاملا وصيغة نظرية شاملة لهذا التحول اللغوي، بما في ذلك إثبات أبوة الشعر الجاهلي للشعر النبطي وتفسير الفارق اللغوي بينهما ورسم المسار الذي سلكته لغة الشعر في بادية الجزيرة العربية في طريق تحولها من النظام الفصيح إلى النظام العامي (صويان 2000: 93-110). سوف أقتصر في هذا الفصل على مناقشة الآراء النظرية والشواهد الشعرية التي أوردها ابن خلدون في مقدمته وأهميتها في عملية الربط التاريخي واللغوي بين الشعر النبطي والشعر العربي القديم (23 صفحة).

 

نظم القصيدة

من التقاليد المتوارثة عند شعراء النبط أن يستهل الشاعر قصيدته بعدة أبيات يصف فيها مشقة النظم ويعبر عن رأيه في الإبداع الشعري ومفهومه له. وتكوّن هذه الافتتاحية جزءاً لا يتجزأ من البنية الفنية والنسيج الكلي للقصيدة، كما هي الحال بالنسبة للمقدمة الطللية أو الغزلية أو الرحلة (Kurpershoek 1994: 34-5). وعن طريق استقراء نصوص هذه الافتتاحيات وتحليل مضامينها نستطيع أن نستخلص آراء الشعراء النبطيين وممارساتهم في نظم قصائدهم. وسوف نحاول في هذا الفصل عن طريق الأمثلة أن نفسح المجال أمام الشعراء أنفسهم ليعبروا لنا عن وجهة نظرهم فيما يتعلق بقضايا الإبداع والمعاناة في نظم الشعر. وسوف نرى أن مقتضيات الوزن والقافية والموسيقى الشعرية والبحث عن المعاني المبتكرة والصور البديعة وكذلك تثقيف القصيدة وتحبير أبياتها وتجويد حبكتها الفنية ونسيجها الكلي يتطلب من الشاعر وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً ويجعل من النظم عملية شاقة تحتاج إلى قدر من التروي والتدبر. ولا يختلف الشاعر النبطي في ذلك عن الشاعر الجاهلي، أو حتى الشاعر الأمي عن من يستطيع الكتابة. كلاهما يستغرق منه نظم القصيدة جهدا ووقتا قد يصل إلى أيام، وهو دائما عمل شاق مستقل عن الإنشاد وسابق عليه (Sowayan 1985: 91-100). والشاعر الذي يعي تمام الوعي ويدرك تمام الإدراك رسالته الفنية ودوره الاجتماعي يحاول جاهداً أن يخرج بعمل فني رائع يرضى عنه جمهور المستمعين ويثبت مكانته بينهم كشاعر مبدع. وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام لا يختلفون في هذه النظرة عن شعراء النبط المتأخرين، ولا حتى عن شعراء القبائل في اليمن (28 صفحة).

 

الرواية والتداول

مثلما يتفق شعراء النبط مع شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في تشخيصهم لعملية النظم وفي تأكيدهم على أنها عملية مرهقة وبطيئة تستغرق وقتا طويلا قد يصل إلى أيام، فهم كذلك متفقون على أن الأداء والرواية والتداول عمليات تتلو عملية النظم وأنها عمليات مستقلة تعتمد على الحفظ والاستظهار وأنه ليس للراوي الحق أن يدعي لنفسه نصا ليس من نظمه وإبداعه هو شخصيا. ومما يؤكد على هذا التمايز أن لدينا في اللغة العربية مصطلحين دقيقين يدلان على ذلك، وهما مصطلح "شاعر" ومصطلح "راوي"، ولدينا مصطلح "نظم" ومصطلح "رواية" و"إنشاد". وهناك أناس لا يستطيعون قول بيت واحد من الشعر لكنهم اشتهروا بقدرتهم الخارقة على الحفظ ورواية القصائد التي قالها غيرهم من الشعراء. وقبل انتشار التقييد والكتابة اعتمد من يفتقرون لموهبة الحفظ من الشعراء على مثل هؤلاء الرواة لحفظ قصائدهم من الضياع وبثها بين الناس (34 صفحة).

 

تداخل التاريخ والأسطورة

من الدلائل التي ساقها أصحاب نظرية الانتحال للبرهنة على عدم صحة الشعر الجاهلي هو أن الكثير من الروايات القصصية المتعلقة بهذه الأشعار تتسم بالطابع الأسطوري والخيالى. لكن الشعر الجاهلي لا يختلف في ذلك عن الشعر النبطي الذي مع ذلك لا يراودنا الشك في صحته. اشتباك الأسطوري والخيالى مع التاريخي والواقعي في المجتمعات الأمية بطريقة قد يصعب علينا أحيانا فكها لا ينفي وجود التاريخي والواقعي في هذه المجتمعات. كل ما هنالك أنه تقع على عاتق المختصين محاولة إيجاد المنهجية العلمية الملائمة للفرز والتمحيص. وعليه فإن تحول حياة امرؤ القيس، أو أي من الشعراء الجاهليين، من واقعة تاريخية إلى أسطورة خيالىة، بحكم ما تقتضيه آلىات التداول الشفهي، لا تنفي بالضرورة وجود ذلك الشاعر كما يدعي طه حسين وغيره من المشككين بالشعر الجاهلي (28 صفحة).

 

شعر القلطة

(الوصف)

ما نبسطه أمام القارئ في هذا الفصل من وصف لشعر القلطة وما نقدمه في الفصل اللاحق من تتبع وتحليل ليس إلا محاولة لاستكشاف هذا الموروث الشعري من الداخل واستشفاف معايير نقدية ومقاييس فنية منبثقة منه ومؤسسة عليه. إننا لن نستخدم القلطة كحقل تجارب لنظريات جاهزة ومقولات مسبقة. ما نقوم به هنا محاولة أولية لبلورة نظرية نقدية تستوحي بنيتها وتستمد مصطلحاتها من القلطة كإبداع قولي وفن أدائي وأداة للتعبير والفاعلية السياسية والاجتماعية. لذا سوف نعول كثيرا على إيراد الشواهد الشعرية والإفادات القولية من الشعراء والمتذوقين لشعر القلطة باللغة المحكية التي عبروا عنها بها لنطلع القارئ على ما لدى هؤلاء من ثروة في المصطلحات النقدية والأدبية التي تنم عن وعي وإدراك لمتطلبات العملية الإبداعية ومقتضياتها، والتي يمكن تطويرها لتشكل الأساس لنظرية نقدية نابعة من معطيات الفن ذاته. كل ما سأفعله في الصفحات التالية هو إفساح المجال أمام شعراء القلطة المبدعين والمتذوقين الواعين لهذا اللون الشعري لإسماع أصواتهم والتعبير عن رؤاهم ولملمة ذلك وتنسيقه ليشكل منظومة نقدية متكاملة تتسق وتتآلف مع الطبيعة الحقيقية لشعر القلطة وما يتميز به فعلا من وسائل إبداعية خاصة وتقنيات فنية فريدة تميزه عن شعر النظم. وسوف نتوسع في الحديث عن شعر القلطه في هذين الفصلين نظرا لندرة الدراسات التي تتناول هذا الجنس الشعري (29 صفحة).

 

شعر القلطة

(التحليل)

قلنا إن تأليف القصيدة في شعر النظم يسبق إنشادها وأن الرواية عملية مستقلة عن النظم تقوم على الحفظ والاستظهار. أما في شعر القلطه فقد رأينا ي الفصل السابق كيف أن عملية النظم تندمج مع الأداء بحيث تكون لحظة الأداء هي لحظة الإبداع. إلا أننا لاحظنا أن الارتجال في شعر القلطة أمر مختلف تماما عن الارتجال في الشعر الملحمي الذي قامت عليه نظرية الصياغة الشفهية، وأن شعر القلطة لا يحفظ ويروى مثل ما يحفظ ويروى شعر النظم، بل غالبا ما ينتهي وينسى بمجرد الانتهاء من أدائه. سوف نزكز في هذا الفصل التحليلي على أهم الفروق بين شعر القلطة وشعر النظم من حيث الشكل والمضمون ومن حيث الوظائف الاجتماعية والسياسية، كما سنحاول رصد انتشار المبارزات الشعرية في الثقافة العربية وتتبع الجذور التاريخية لهذا الجنس الشعري في الأدب العربي (31 صفحة).

 

البداوة والبدائية

يصور النموذج الخلدوني البداوة العربية التي تقوم على رعي الإبل وكأنها مرحلة بدائية مضادة للحضارة وسابقة لها، وربما أنه كان في ذلك متأثرا بالصورة السلبية التي بلورتها نقوش وكتابات الحضارات النهرية في بلاد الرافدين عن أهل الصحارى العربية التي كانت في صراع لا ينقطع معهم. ومعلوم أن الكتابة، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحضر، ظهرت أول ما ظهرت لدى حضارات وممالك الهلال الخصيب التي استفادت منها في حسم صراعها الثقافي والأيديولوجي مع البدو لصالحها. ولقد ظلت ولا تزال الثقافة العربية تتبنى هذا النموذج الخلدوني المنحاز ضد البداوة بالرغم من أن الدراسات الأنثروبولوجية والأركيولوجية الحديثة لا تدعم هذا الموقف (33 صفحة).

 

البدو والحضر

في تتبّعنا لتاريخ العلاقة بين البدو والحضر ومحاولة تفسير الصراع بينهما نجد أنفسنا، بحكم ثقافتنا المدرسية وتنشئتنا الكتابية، نتبنى دونما نشعر موقفا ذهنيا ومعرفيا لا يختلف في بنيته وتكوينه عن موقفنا تجاه الأدب الشفهي واللهجات ونتقمص دوما ودونما وعي منا وجهة النظر المدنية/الحضرية المنحازة ضد البداوة وثقافة الصحراء والمجتمع القبلي ومجمل نتاجه الثقافي والفني. لقد آن لنا أن نتخطى هويتنا الحضرية في كتابتنا للتاريخ ودراستنا للمجتمع وأن نتجاوز تحيزات الكتابة ونحاول فهم الثقافة الشفهية البدوية فهما حقيقيا من داخلها ووفق شروطها هي حتى نتمكن من رؤية العالم بعيون بدوية. علينا أولا أن نفهم حقيقة البداوة لا كضد للحضارة ورمز للفوضى والدمار وإنما كثقافة متكيفة لاستغلال مناطق إيكولوجية وموارد طبيعية غير متاحة للحضر ولا تتواءم مع طبيعة الحياة المدنية، بعدها علينا أن نعيد تقييم علاقة البدو مع الحضر ونفهم طبيعتها من وجهة النظر البدوية والحضرية على حد سواء. تغلُّب الثقافة الكتابية على الثقافة الشفهية يعني في نهاية المطاف انحسار البداوة وتراثها الشفهي أمام الزحف المدني المدجج بالتكنولوجيا والأيديولوجيا وأدوات الكتابة. تكاد البداوة تختفي من الوجود وهي الآن تحتضر وتموت ببطء كما يموت البعير، ومع ذلك فإننا لم نبدأ بعدُ محاولة استكشاف حقيقة العلاقة الإيكولوجية بينها وبين الحضر، والتي تقوم على التكامل والتعاون مثلما يشوبها التوتر والصراع (30 صفحة).

 

صراع الرموز

تحتل النخلة في نفس الحضري ذات المكانة التي تحتلها الإبل في نفس البدوي. إلا أن انتماء البعير إلى عالم الحيوان يجعله أقرب إلى الإنسان من النخلة التي تنتمي إلى عالم النبات. يتفوق البعير على النخلة في وظيفته الرمزية المحملة بالمعاني والدلالات مما حوّله من مجرد كائن حي إلى مركّب ثقافي بالغ الأهمية، كما يشهد على ذلك تغلغله في الموروث الشعري العربي، فصيحه ونبطيه، وبالثقافة البدوية عموما بشكل لا مثيل له بالنسبة لأي كائن آخر. إضافة إلى منافعها العملية وفوائدها المادية تحتل الإبل حيزا كبيرا وعميقا في ذهنية ابن الصحراء ومخيلته مما له بالغ الأثر في طريقة تفكيره وفي توجيه نظرته للأمور وتصوراته للكون من حوله (34 صفحة).

 

ثقافة الصحراء

رغم التمايز بين بدو الجزيرة وحضرها في أنماط الإنتاج ظلت توحدهم ثقافة الصحراء بكل قيمها ومثلها وتصوراتها وكل رموزها المتغلغلة في مجتمع الحضر ومجتمع البدو على حد سواء. البداوة والحضارة في الجزيرة العربية ثقافتان فرعيتان لثقافة أعم وأشمل، ثقافة الصحراء التي تُشكل سكانها وتلون تفكيرهم وسلوكهم مثلما تشكل الغابة سكانها أو مثلما تشكل المناطق الجليدية سكانها. ثقافة الصحراء تسكن الموروث اللغوي والشعري لأبناء الجزيرة العربية. النسيج الخيالي في الشعر العربي بصوره ومجازاته واستعاراته مستمد من البيئة الصحراوية ومؤطر بروح البداوة ونظرتها التي تشكل مادة لا تنضب للاستلهام الشعري وتهيمن على رؤية العربي وتتغلغل في تكوينه النفسي والوجداني. ومهما حاولت الحضارة بمنظوماتها الفكرية والأيديولوجية أن تضرب سياجا بين العربي وبين البداوة فإن لغته وشعره لن يسمحا له بالانسلاخ منها تماما (35 صفحة).

 

الأوضاع القبلية

إن كانت الكثير من الدراسات السابقة ركزت على الاستفادة من الشعر العربي، جاهليه ونبطيه، كمرجع تاريخي وجغرافي فإن هذه الدراسة تطمح إلى أن تبين أهميته كمصدر للدراسات الثقافية والاجتماعية. ولا بد من التأكيد على أهمية الربط بين الدراسات الثقافية والدراسات الأدبية لأن كلا منهما يشكل مادة تساعد على فهم الآخر وتَـمَـثُّـله على صورته الصحيحة. إذا كان الشعر انعكاسا لواقع الحياة الطبيعية والاجتماعية فإن تفسيره يتحول في نهاية المطاف من مجرد عمل لغوي إلى عمل ثقافي متكامل، إلى رصد إثنوغرافي شامل لثقافة المجتمع الذي أنتج هذا الشعر، ويصبح الحديث عن مضامين الشعر وصوره ومعانيه حديثا عن مضامين الثقافة ومركباتها ومكوناتها، مادية وعقلية ونفسية. لذا فإننا لن نتوقف في مقارناتنا بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي عند حد المقارنة الأدبية واللغوية بل سوف نتعدى ذلك لنعقد مقارنات في الفصول اللاحقة بين ثقافة العصر الجاهلي وثقافة العصور المتأخرة. على هذا الصعيد من الرؤية والفهم يتضافر الشعر الجاهلي مع الشعر النبطي ليشكلا مادة إثنوغرافية واحدة وتتآلف القصيدة النبطية مع القصيدة الجاهلية لترسمان صورة متكاملة لثقافة الصحراء العربية على مر العصور، وسيتبين لنا أنه مثلما أن الشعر النبطي يمثل امتدادا طبيعيا للشعر الجاهلي فإن ثقافة الصحراء العربية في عصورها المتأخرة تمثل امتدادا طبيعيا لثقافة المجتمع الجاهلي. من هذا المنطلق فإنه بقدر ما ننادي بدراسة الشعر النبطي من أجل فهم أعمق للشعر الجاهلي ننادي كذلك بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة في الحقب المتأخرة من أجل إضاءة جوانب لا زالت تخفانا في الحقبة الجاهلية. دراسة مجتمع البدو وثقافتهم ولغتهم وأدبهم هي وسيلة من أهم الوسائل لفهم حقيقة الأدب الجاهلي والحياة الجاهلية. النتائج التي نتوصل إليها عبر هذا الطريق ستهدينا وتنير لنا سبل البحث عما كانت عليه الحياة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام. سوف يتضح لنا مدى إمكانية سد الثغرات المعلوماتية في أي من الحقبتين عن طريق اللجوء إلى ما هو متوفر من معلومات عن الوضع في الحقبة الأخرى (37 صفحة).

 

الغزو

يختلف الغزو عن المناخ الذي تطول مدته ويهدف لاحتلال المراعي والموارد في أنه يستهدف نهب الإبل ويقصد منه الكسب السريع. إنه نوع فريد من أنواع الغارات الخاطفة متخصص في نهب الإبل مع الحد الأدنى من الخسائر في الأرواح، إنه قرصنة برية. ويرتبط الغزو ارتباطا وثيقا مع الإبل ويشكل معها موضوعان متداخلان من مواضيع النسج الكلامي، شعرا ونثرا، الذي يشغل به البدو وقتهم. والإبل بطبيعتها موائمة لأن تكون أداة لعمليات الغزو وهدفا لها في آن واحد. لولا قدرة الإبل على قطع المسافات الطويلة لما استطاع الغزاة أن يشنوا غاراتهم البعيدة، ولولا قدرة الإبل على الجري السريع لما استطاعوا نهبها وسوقها بالسرعة التي تمكنهم من الفرار بها من أهلها الذين لا يدخرون جهدا في محاولة استنقاذ إبلهم (34 صفحة).

 

سلوم العرب

غالبا ما نتبنى دونما نشعر وجهة النظر الحضرية وتحيزاتها ضد القبيلة ونردد أنه حالما تضمحل سلطة الدولة فإن الفوضى تحل محلها ويبدأ البدو أعمال السلب والنهب ويغيرون على القرى ويفرضون عليها الأتاوت. إدانة هذه الأوضاع وشجبها أقرب إلى أقلامنا من محاولة فهم الآليات التي تحركها والظروف التي تستدعيها والمنطق الذي يحكمها. علينا دوما أن نتنبه إلى هذه التحيزات ضد البدو وأن نتجاوز التابوهات التي تغلغلت في أذهان الحضر من خلال طبيعة حياتهم المستقرة ونظمهم التعليمية وبلورتها الكتابة على شكل نصوص ومدونات تتراكم عبر العصور مما يمنحها البقاء والاستمرارية والقوة الأخلاقية والمرجعية. فمثلما أن نظام التعليم الكتابي عند الحضر لا يرى في اللهجات البدوية إلا أنها لغة مكسرة لا تلتزم بقواعد الفصحى التي صاغها النحويون وعلماء اللغة، كذلك فإنهم لا يرون في نظام البدو القضائي والسياسي إلا مظاهر العنف والفوضى والتمرد واللاشرعية والخروج عن نصوص القوانين المكتوبة والشرائع السماوية التي صاغها الفقهاء والقضاة الشرعيون ورجال الدين. وقد سبق لنا القول في حديثنا عن لغة الشعر النبطي وأوزانه أن هذه اللغة والأوزان، مهما بدت لنا في ظاهرها فوضى غير مقننة، فإنها محكومة بقواعد، مثلها مثل الفصحى. إنها سلوك إنساني، والسلوك الإنساني كله محكوم بنظام، إلا أن اكتشاف هذا النظام يحتاج إلى أدوات منهجية وأطر نظرية. ومثلما يمكن توظيف المنهج العلمي لاكتشاف القواعد اللغوية يمكن توظيفه أيضا لاكتشاف القوانين الاجتماعية التي تحكم الوضع السياسي والاجتماعي في وسط الجزيرة والصحراء العربية والذي نصفه دائما بالفوضى (36 صفحة).

 

القضاء العرفي

بحكم اختلاف النمط الحياتي بين البدو والحضر أصبح لكل منهما نظرته المختلفة في الحياة والكون من حوله. لا يقتصر الفرق بينهما فقط على أن الاقتصاد البدوي اقتصاد رعوي والاقتصاد الحضري اقتصاد زراعي وتجاري، بل إنه، إضافة إلى عدم التوافق بين الذهنية الشفهية الترحالية وبين الذهنية الكتابية المستقرة، يتعدي ذلك ليشمل الفرق بين التنظيم القبلي والتنظيم المدني الذي تغذيه الكتابة والنصوص المقدسة. ومثلما أن الدولة على الصعيد السياسي تعتبر مرحلة متطورة من التنظيم يتجاوز التنظيم القبلي ويلغيه، كذلك على المستوى القانوني تعتبر الشريعة التي تستمد مرجعيتها من النصوص المقدسة تجاوزا للقضاء العرفي الذي يستمد مرجعيته من العادات والتقاليد العرفية ومن السوالف والسوابق والنصوص الشفهية. ومثلما تختلف الأسس الشرعية التي يستمد منها الشيخ في القبيلة سلطته عن تلك التي يستمد منها الأمير في الحاضرة سلطته، كذلك تختلف المرجعية المعرفية الشفهية التي يستند عليها العارفة عند البدو عن تلك المرجعية المعرفية الكتابية التي يستند إليها القاضي والفقيه عند الحضر (50 صفحة).

 

قهر الصحراء

في هذا الفصل، كما في غيره من الفصول، نتعامل مع الشعر الجاهلي والشعر النبطي علي أنهما يمثلان إرثا أدبيا واحدا يعبر عن حس جمالي مشترك وعن رؤية كونية مشتركة ويعكس استمرارية ثقافية ممتدة لم تنقطع عراها من عصور الجاهلية حتى عصورنا المتأخرة والتي لا زال البعض منا يتذكر بعض ملامحها. ليس عندي أدنى شك بأن الشاعر الجاهلي لو قابل شاعرا نبطيا فإن كلاهما سوف يفهم ما يقوله صاحبه ويطرب له ويؤمّن على مضمونه حتى لو أعيته لغته إلى حدٍّ ما، وهي لن تعييه كثيرا لأن الفروق في غالب الأحيان لا تعدو أن تكون فروقا في طريقة لفظ المفردة، وهذا أمر من السهل تجاوزه وبسرعة. وقد سبق لي أن افترضت أن الشنفرى أو عروة بن الورد لو قدر لهما وبُعثا في القرن الماضي أو ما قبله لما وجدا عنتا في أن يمتطي أحدهما ذلوله ويستجنب فرسه ويمدّ غازيا مع شليويح العطاوي والا ساجر الرفدي، ولاستمتعا بمحادثة هؤلاء الأعراب ولاستعذبا مقارضتهم الشعر ولاستحسنا شعرهم وفضلوه على كثير مما يفال الآن من شعر بالفصحى.

قصة البداوة، قصة درامية طويلة استمرت في جملتها لمدة تربو على ألفي سنة، إنها قصة كفاح البدوي منذ مرحلة استئناس البعير، أي قبل العصور الجاهلية، وحتى العصور المتأخرة ليقهر الصحراء ويتعايش معها ويألفها كما تألفها الوحوش. لو دققنا النظر في الأدب البدوي، شعرا ونثرا، من عصر الجاهلية حتى العصور المتأخرة، لوجدناه في معظمه توثيقا لهذه المغالبة المستمرة والكفاح المتصل بين الإنسان والطبيعة الصحراوية والذي يتم التعبير عنه بطرق مختلفة وبصور مبطّنة. هذا الصراع يتجلى بصورة أوضح في أشعار الصعاليك الذين استحقوا بجدارة لقب ذئاب الصحراء لتفوقهم على من سواهم في قدرتهم على تحدي بيئة الصحراء والتكيف معها حتى توحشوا واستوحشوا وأصبحوا قادرين على البقاء فيها والعيش كما تعيش الذئاب والوحوش. وبصرف النظر عن تاريخية هذه الأشعار و"السوالف" التي تدونها كتب الأدب والتي هي أقرب إلى نسج الأساطير فإنها تعكس الشعور الجمعي المختزن في اللاوعي والذي يتم التعبير عنه مشفّرا ومرمّزا في الموروث الشعري. ليتغلب الإنسان على الصحراء كان عليه أن يتماهى، ولو شعريا، في طبيعتها الفطرية بحيث يعد نفسه جزءا مندمجا ضمن صيرورتها الوجودية ونسقها الكلي، ويصور الشعر هذا التماهي، الذي يشكل هاجسا مجردا في اللاوعي، بشكل مادي وملموس وذلك من خلال مخالطة الشاعر، أو قل الإنسان، لوحوش الصحراء ومعايشتها ومعاشرتها ومخاطبتها وكأنه واحد منها، مع شعوره الذي لا يفارقه بإنسانيته، لأنه حتى حينما يلتفت الشاعر إلى رسم مشهد صحراوي يستعرض فيه معرفته بحيوانات الصحراء ويستطرد في وصف سلوكها وطباعها فإن  هذا في الواقع إسقاط لاواعي لقضية إنسانية تتعلق بحياة الفرد في مجتمع القبيلة وبيئة الصحراء (31 صفحة).

 

 أنثروبولوجيا | فلسفة | الفكر الاجتماعي | أساطير ومرويات شفهية من شمال الجزيرة العربية