الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري شاعرا

ما قاله وما قيل فيه

 

في صيف عام 1403هـ (1983م) بدأت العمل على مشروع جمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية الذي موّله مركز البحوث بكلية الآداب، جامعة الملك سعود. وكانت البداية في منطقة حائل والقرى والهجر المحيطة بها والمملوكة لمختلف فروع قبيلة شمر وبني رشيد؛ من الحفير إلى قنا وأم القلبان إلى الخبة إلى طويّة إلى الصنينا إلى جبة إلى ضرغط إلى النبوان، وأماكن أخرى عديدة.

ولم يكن البحث مقصوراً على الشعر، بل كنت أبحث عن كل ما له علاقة بالتاريخ القبلي والحياة البدوية والأنساب والوسوم والشيوخ والفرسان والعْقِدا والدلِلا(1) وأساليب الغزو وتقاسم الغنائم، إضافة إلى الديار والموارد والمراعي والحدود، وكل ما يمس حياة الصحراء وثقافة البدو وتنظيمهم الاجتماعي والاقتصادي، وقد أمضيت معظم الوقت مع قبيلة سنجارة الشمرية، خصوصاً فروعها الثلاث الرئيسية وهم الرمال والزميل والسويد.

وأثناء لقاءاتي مع العديد من الرواة لفت انتباهي أمران: الأول أن كثيراً من القصائد والسوالف والأحداث التي أسأل أولئك الرواة عنها كانوا يحيلونني بشأنها إلى رواة آخرين يقولون إنهم يقطنون في منطقة الجوف أو الهجر المنتشرة على خط التابلاين شمال المملكة، والأمر الآخر أن العديد من عْقِدا سنجارة وشيوخها المتأخرين الذين كنت أسأل عنهم وأتتبع أخبارهم قال لي الرواة إنهم أمضوا السنين الأخيرة من حياتهم بعد استتباب الأمن وانقطاع الغزو في معية الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر من ينتسبون إلى قبيلة الرمال مثل: هتّاش بن شريّان ومرعيد بن مطير وعبدالله بن جحفل وخاتم الجمّاش، وهو ما جعلني أتطلع إلى فرصة زيارة منطقة الجوف للسلام على الأمير عبدالرحمن ومقابلة الرواة الذين ذُكروا لي. وكان مما شجعني على ذلك ما أسمعه وما أعرفه عن عائلة السديري العريقة واهتمامها الأصيل بالتاريخ والشعر وعلوم العرب، وما سمعته من أن الأمير عبدالرحمن نفسه شاعر مجيد وراوية لا يشق له غبار، حتى قال لي رواة شمر إنه هو مرجعهم في المسائل الخلافية المتعلقة بالتاريخ القبلي والأنساب، قلت في نفسي لعلنا هو وأنا ممن ينطبق عليهم المثل: وافق شن طبقة.

ومن حسن الصدف أنه في عام 1404هـ (1984م) رتب قسم الدراسات الاجتماعية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود رحلة لطلاب القسم إلى سكاكا للاطلاع على المنطقة، وبحكم انتمائي للقسم وقع الاختيار علي، من ضمن أساتذة آخرين، لمصاحبة الطلاب، وأمضينا بضعة أيام هناك أقمناها في بيت الطلبة، ولم يكن الأمير عبدالرحمن موجوداً آنذاك ووجدنا إبنه سلطان وكيل الإمارة الذي ينوب عنه في غيابه، واستقبلنا هو العاملون معه في الإمارة استقبالاً لائقاً ولم يدخروا وسعاً في تسهيل الأمور لنا وإنجاح مهمتنا.

وعن سلطان بن عبدالرحمن السديري يقول سعد الجنيدل في كتابه بلاد الجوف أو دومة الجندل "شاب متعلّم حصل على شهادة الماجستير في الإدارة. يتسم بدماثة الخلق والحيوية، كريم المعشر. بعد سلامنا عليه في مكتبه دعانا إلى زيارته في منزله وأكد علينا في ذلك فذهبنا إليه بعد صلاة العشاء . . . كان مجلس وكيل الإمارة هادئاً، وكان يتحدث بأناة ورويّة ويتناول في حديثه كثيراً من المواضيع التي يقود بعضها بعضاً، وقد ساعده على ذلك ما يتمتّع به من ثقافة عالية وسماحة في خلقه وما أكسبه منصبه بحكم طبيعته من خبرات اجتماعية نتيجة لاحتكاكه المستمر بمختلف طبقات الناس وشتى قضاياهم".

ونظراً لضيق الوقت وانشغالي مع طلاب القسم لم أتمكن من إجراء الكثير من المقابلات أو مغادرة المدينة إلى مضارب البادية المحيطة بالمنطقة، كل ما تمكنت من عمله إجراء مقابلات مع رواة من الصلبة والفهيقات الذين تصادف وجودهم هناك لمراجعة الإمارة في بعض شؤونهم، كما تمكنت من التعرف على المنطقة ومن إقامة علاقات ودية مع بعض "رجاجيل" الأمير العاملين في الإمارة من قبيلة شمر والرولة والشرارات، وهي علاقات أتت ثمارها فيما بعد.

وفي صيف تلك السنة كنت قد رتبت الأمور وعقدت العزم للسفر إلى الجوف، وكان وصولي إلى هناك يوم الخميس وذهبت فوراً لمقابلة الأمير عبدالرحمن في مزرعته واستقبلني بهدوء ظننته في البداية فتوراً، ثم صار يتحدث حديث الخبير العارف عن شؤون الزراعة والتجارب التي كان يجريها في مزرعته على الزيتون والنخيل ومختلف أنواع الفاكهة، وحتى تربية ونتاج الإبل، وتطرق الحديث إلى قضايا المنطقة التعليمية والإدارية ومؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية ودار الجوف للعلوم والمكتبة، وانتقل الحديث إلى المسابقات والنشاطات الدورية التي تقام في المنطقة تحت رعاية الأمير لتشجيع الأهالي على أن يكونوا عاملين منتجين لتنمية مواردهم، وأذكر أن من أهم النشاطات التي استحوذت على الحديث ذلك اليوم سباقات الإبل التي تقام سنوياً في الجوف ومشروع تشجيع السدو والنسيج.

في الطريق من المطار إلى مزرعة الأمير تملكتني الدهشة والنشوة، كعادة الإنسان حينما يشاهد مناظر غير مألوفة لديه يراها لأول مرة؛ الكثبان الرملية، بيوت الشعر لجماعة الفهيقات، الإحساس بأنني أصبحت قاب قوسين أو أدنى من صوير والطوير ومليح وهديب وزلوم وقارة وميقوع وخوعا والشقيق ومغيرا وغيرها من الهجر والقرى التي كانت في الزمن الغابر، وحسب ما سمعت من الروايات التي سبق لي تسجيلها من رواة شمّر، مجرد موارد مياه يرتادها الغزاة والبدو الرحل.

حينما وصلنا المزرعة جلس الأمير يحدثني بلغة عصرية عن الزراعة والتعليم ومشاريع التنمية وتطوير منطقة الجوف، واهتمام الأمير عبدالرحمن بتطوير المنطقة وتنمية مواردها اهتمام أصيل بدأ منذ تولّى أمارتها، يقول الأستاذ سعد الجنيدل في كتابه عن الجوف يصف مقابلته مع الأمير سنة 1935هـ (1975م) "والأمير عبدالرحمن السديري له قدرة فائقة على التحدث عن التطورات التاريخية وتأثيراتها وعن ربط النتائج بأسبابها بأسلوب تاريخي جذاب، لا سيما ما يخص بلاد الجوف، وقد عيّن أميراً على هذه البلاد في وقت مبكر من شبابه، ووصل إليها أميراً في شهر رمضان سنة 1362هـ وما زال في هذا المنصب، فهو خلال هذه الحقبة قد عايش نمو هذه البلاد العمراني والاجتماعي مدة ثلث قرن من الزمان، ولا شك أن له أثراً ملحوظاً في تنمية هذا التطور وعناية في تطوير كل مرفق حيوي في هذه البلاد حسب مقتضيات الظروف ومناسبات الأحوال"، ثم يضيف الجنيدل "والأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري إلى جانب حنكته الإدارية وتجربته الطويلة يتحلّى بدماثة الخلق والكرم، وله باع طويلة في الشعر ويتميّز شعره بطول النفس وجودة الألفاظ وسهولة الأسلوب".

كان حديث الأمير ممتعاً ومفيداً، والمواضيع التي تطرق لها مواضيع حيوية، وقد أذهلني باطلاعه التام على مجريات الأمور وإلمامه بما يتم تداوله من لدن صناع القرار في العاصمة من مشاريع تنموية ورؤى مستقبلية للمنطقة ولكافة البلاد، لكن ليس هذا ما جئت أبحث عنه، الأمير يحدثني عن الحاضر والمستقبل وأنا أبحث عن الماضي.

بعد ذلك الحديث المستفيض عن شؤون المنطقة وتطويرها وتنمية مواردها بدأت جذوة الحماس تخبو في داخلي، ودعت الأمير على أن أعود للمزرعة في المساء لتناول العشاء وذهبت إلى غرفتي وجلست أرتب أوراقي وأرسم خط رحلتي بشيء من الفتور والإحساس بأن الماضي الذي جئت أبحث عنه ذَرَتْه رياح التغيير ولم يعد له وجود أمام تحديات الحاضر وطموحات المستقبل.

جاءني السائق بعد صلاة العشاء ليأخذني إلى لمزرعة، كنت أتوقع أنه سيقودني إلى نفس المكان الذي قابلني فيه الأمير على الغداء، لكنه أخذني إلى "الدكة"، وكانت المفاجأة، الدكة مجلس مفتوح وفسيح جداً يرتفع عن الأرض حوالي المتر، صممت في نفسي أن أقيس طوله وعرضه بالخطوات ولكن الفرصة لم تسنح لي لأنه لم يخل قط من الضيوف والوافدين، رأيت حشداً كبيرًا، معظمهم من وجهاء البادية وشيوخ القبائل إضافة إلى أعيان المنطقة ورجالات القصر والإمارة، حاولت أن أحصي عددهم لكنني أيضاً لم أتمكن من ذلك لكثرة الحركة وكثرة الغادين والرائحين. وهذه الدكة مشهورة ومعروفة تغنى بها الشعراء وبكرم صاحبها وبشاشته وسماحته وحسن استقباله وإكرامه للضيوف، فقد وصفها الشاعر سعود سالم الحربي في قوله:

    له دكّةٍ ملفى مسايير وضيوف // يشهد على ما اقول كل القبايل

    ما حطّ له ناسٍ على بابه وقوف // يجيه من له حاجةٍ ما يسايل

وقال فيها عبدالله محمد الغميز:

    ياراعي الدكّه تعيبه مراقيك // ما كل من هام المراجل وصلها

    حاولت اعبّر ما سمعته بطاريك // في مجلسٍ كل القبايل شملْها

    مفتوح بابك للمواطن يحاكيك // هذي بك الميزه ولا احدٍ فعلها

ويقول في الدكة أيضاً عبدالهادي المريزيق النصيري:

    له دكّةٍ صارت مِثَل للعرب دوم // بناه ابو فيصل ومكّن جداره

    تعنى لها الزوّار بالليل واليوم // تْسَلّم على اللي مجلسه بالصداره

    تلقى بها الاخبار وتلقى به علوم // وتلقى بها جَدْل الصحون بغزاره

    تلقى بها الضيفان والزاد مرجوم // غير الدلال اللي يزوّد بهاره

    ياما عطى المحتاج من رزق وهدوم // وياما كلوا عصم الشوارب بداره

جمع غفير من البشر شاهدتهم في دكة الأمير تلك الليلة، لم أكن أعرف أحداً منهم معرفة شخصية، لكن الأسماء التي ترددت تلك الليلة لم تكن غريبة علي، فقد سمعتها مراراً وتكراراً في السابق تَرِد على ألسنة الرواة من خلال السوالف والقصائد التي سجلتها من قبل، هؤلاء هم سلالة أولئك الأسلاف الذين كان لهم شأنهم ومكانتهم في التاريخ القبلي، رجال فحول يبهرونك بسمتهم وفصاحتهم ونبرات الصوت، طريقتهم في اللبس والجلوس وتعابير الوجه ولغة الجسد، كلها حركات موزونة موقّعة محاطة بالطقوس والمعاني والرموز، حتى ارتشاف القهوة ومناولة الفنجال والتحية والمصافحة والتقبيل وإشارات اليد المصاحبة للكلام تشاهدها وكأنك تشاهد حركات مسرحية في فيلم كلاسيكي.

كم كانت المفاجأة سعيدة والتجربة مدهشة بالنسبة لي، كنت أجلس قريبا من الأمير فانتهزت فرصة انشغاله بالحديث إلى أحد مساعديه لألتفت إلى الشخص الذي كان يجلس بجواري لأسأله ما المناسبة لهذا التجمع الكبير. نظر إلي الرجل بشيء من التعجب وتساءل: ألا تدري أن هذه عادة الأمير! فهمت منه أن الكثيرين يأتون من مضارب البادية ومن مختلف القرى والهجر لمراجعة الإمارة في شؤونهم، وإذا انتهى العمل في الإمارة وأغلقت الدوائر الحكومية قبل إنهاء حوائجهم والعودة إلى أهاليهم توافدوا إلى قصر الأمير وحلوا ضيوفاً عليه.

أما الأمير فقد لاحظت أنه في ذلك المجلس تحول إلى شخص آخر مختلف تماماً عن الشخص الذي عهدته في النهار، ذلك الرجل الذي أعطاني الانطباع في أحاديثه النهارية عن الثقافة والزراعة والخطة الخمسية بأنه ابن مدينة وحضري لا يعرف شيئاً عن البادية والبداوة، صار يصول ويجول ويشرّق ويغرّب في أحاديثه عن المغازي والنكايف(2)، وعن الموارد والمراعي والأنساب والوسوم(3) وسلالات الخيل ونجائب الإبل ونباتات الصحراء والقنص، وكل ما هب ودب. رجل يقرأ الصحراء ومتاهاتها كما يقرأ راحة كفه، لاحظت أنه كلما علت أصوات الحضور واحتدم الخلاف بينهم واختلف رأيهم حول شأن من شؤون البادية أو قضية من قضايا التاريخ القبلي لا يفض النزاع إلا كلمة منه تكون فصل الخطاب، ولم يكن ذلك استبداداً منه ولا استئثاراً بالرأي لأنه إذا عرف أن من بين الحضور من هو على علم بالمسألة أحال الأمر إليه، فإن كانت المسألة تخص قبيلة الرمال مثلاً أحالها إلى نوّاف بن طعيسان بن رمال من هجرة السادة، وإن كانت تخص قبيلة الشلقان أحالها إلى الكاسب بن عَبَكْلي الفالح من هجرة الفيضه، وإن كانت تخص الزميل أحالها إلى عبيد بن بايق بن ثنيان من هجرة أبا رواث، وهكذا. وإذا تشتتت الأهواء وتهدلت أغصان الحديث وتشعبت مسالكه بادر الأمير إلى شدّه ولمّه بأن يلقي ملاحظة هادفة أو يطرح سؤالاً مبطّناً فتعود للحديث انسيابيّته وترابطه.

ولم تكن تلك الجموع وأحاديثهم المتشعبة لتشغل الأمير عن تصريف شؤون الإمارة، فبينما هم يتحدثون ويهرجون ويمرجون ترى موظفي الإمارة رائحين غادين بأحاديثهم الهامسة في أذن الأمير أو أكداس من الأوراق تحتاج منه إلى شروحات أو تواقيع، تحسبه مع كل هذه المشاغل، إضافة إلى كثرة نهوضه وجلوسه للسلام على كل قادم جديد لن يكون بمستطاعه التركيز ومتابعة ما يدور في مجلسه من أحاديث ونقاشات، لكنه ما أن يلتقط أنفاسه ويستقر به المقام فيما يتخلل هذه الشواغل من فواصل راحة قصيرة حتى تجده يشارك في الحديث كما لو كان يتابعه كلمة كلمة، ولاحظت أن الأمير عبدالرحمن لا يستأثر بالحديث وإنما يترك الحديث للآخرين، لكنه يحاول من خلال مداخلاته أن يكون الحديث انسيابياً يتركز حول مواضيع مفيدة، وهو أبعد ما يكون عن التباهي والاستعراض الخطابي في المجالس، لكنه حينما يتطلب منه الموقف أن يبدي رأياً أو يدلي بحديث أتى حديثه مسترسلاً ومنطقياً ومتماسكاً، حججه قوية وحقائقه مؤكدة ومعلوماته موثوقة ودقيقة.

وقد لخص محمود عبدالله الرمحي في مقدمته لكتيّب من إعداد نوارة عرسان الدغمي عنوانه حب ووفاء، بمناسبة تقاعد الأمير عبدالرحمن من منصب الإمارة، ما يدور في مجلس الأمير في قوله "خمسون عاماً من البناء والعطاء سيذكرها أهالي منطقة الجوف آباء وأبناء، رجالاً ونساءً على مدى الأجيال، عايشته منها ثلاثين عاماً عرفته من خلالها الأب البار والأمير العادل والشاعر الفذ، مجلسه عامر بالأحبة يحرص عليه الأدباء، يستمعون إليه في حديث شيق مليء بالحكم ورجاحة الرأي، يودّون ألا ينتهي ذلك الحديث لما فيه من حكمة المجرب وبراعة الأديب"

مفارقة أخرى لاحظتها تلك الليلة، حينما كنت مع الأمير على الغداء كنا نتناول الطعام بالشوك والملاعق على الطاولة جالسين على الكراسي، أما حينما دعونا إلى العشاء في ذلك المساء دخلنا صالة لا يقل طولها على ما أعتقد عن ثلاثين متراً مُدت فيها الأسمطة والصحون الكبيرة في صفين متوازيين، كل صف فيه ما لا يقل عن خمسة صحون، وكل صحن يتسع لخمس ذبائح من الغنم أو جزور بالكامل(4)، وجلسنا على الأرض نأكل بأيدينا وكان الأمير بنفسه يخدم الضيوف الجالسين معه على الصينية ويقطّع لهم من اللحم بيده، وكان الخدم يقفون على رؤوسنا معهم طياس من حليب الخلفات(5)، وأذكر من المواقف الطريفة في تلك الليلة أن أحد الضيوف كان قصير القامة وكان جالساً إلى صينية من صواني النحاس المرتفعة من نوع "ام وكر" وكان على الصينية جزور بالكامل لم تُقَطّع حجبت الرؤية بينه وبين الشخص الجالس قباله على الجهة الأخرى من الصينية والذي كان يحاول التحدث إليه لكن الجزور حجبت عنه الرؤية فكان أحياناً يميل بجسمه يمنة أو يسرة أو يحاول مد عنقه ورفع جسمه على عقبيه ليرى ذلك الشخص الذي كان يحاول التحدث معه، مما كان مثار تندر الحاضرين وتعليقاتهم.

وفي صباح اليوم التالي، كان الأمير قد دعاني لتناول الفطور معه حيث كانت تنتظرني مفاجأة أخرى، رأيته في هذه المرة وقد تحلل تماماً من القيود الرسمية، كان يجلس لوحده هو وابن سعران، أحد رجاله، وشخصين آخرين من رجاله لا أذكرهما الآن، كان بسيطاً جداً ومتواضعاً جداً يتعامل مع هؤلاء الخدم ويداعبهم ويشاطرهم طعامه ويؤانسهم كما لو كانوا أبناءه وإخوانه، ولم يكن ذلك تصنعاً منه ولا رياء بل سجية وطبعاً، فهو أبعد الناس عن التصنع والافتعال في كل أموره وشؤون حياته، تشعر بذلك حالما تقابله ويشد يدك مصافحاً وتتفرّس ملامحه وتقاطيع وجهه وابتسامته العذبة التي لا تفارق محياه، كانت فرصة مواتية لأعرض عليه فكرة المشروع الذي أعمل عليه والهدف من قدومي للجوف وبرنامج رحلتي، وجدته من النوع اللمّاح الذي لا يجد الإنسان عناء في إقناعه وإيصال الفكرة إليه، فقد تفهّم على الفور قصدي وأبدى بعض الملاحظات وأدخل بعض التعديلات على برنامجي التي ثبت لي وجاهتها فيما بعد، وكانت سبباً في نجاح مهمتي، كما اقترح علي زيارة بعض الأماكن ومقابلة بعض الأشخاص والرواة الذين لم أكن أعرف عنهم، وقبل أن أتركه أوصى بي أحد رجاله ليوفر لي وسائل المواصلات والمرافقين وكل المستلزمات الضرورية للرحلة.

لم يكن ذلك آخر عهدي بالأمير عبدالرحمن، فقد تطلب مني مشروع جمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية أن تتكرر زيارتي للمنطقة، وكان في كل مرة يشملني بعطفه ورعايته وتشجيعه ويقدم لي كل ما أحتاجه من مساعدة، كما أنني، من باب رد الجميل، حاولت ما وسعني الجهد أن أشارك في النشاطات الثقافية لمؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية ودار الجوف للعلوم، وكلما توثقت علاقتي بالأمير عبدالرحمن وازدادت معرفتي به ازددت حباً له وإعجاباً بشخصيته وصدقه وشفافيته، قابلت في حياتي الكثير من الوجهاء والأعيان والمسؤولين الكبار، لكنه هو من بينهم نسيج وحده ومثالاً فريداً من نوعه، لم يكن المنصب بالنسبة له سلماً لتحقيق مطامح شخصية ولا وسيلة لتضخيم الذات والاستعلاء على الآخرين، لا هيبة المنصب الذي يتسنمه ولا عراقة الاسم الذي يحمله جعل منه شخصاً متعالياً، فهو أبعد الناس عن التباهي والتعالي والادعاء. الاسم والمنصب وما يتعلق بهما من امتيازات هي بالنسبة له نعمة من نعم الله تستحق الشكر أولاً، وهي بعد ذلك مسؤلية وأمانة ورسالة ينبغي تأديتها بكل التزاماتها وواجباتها على الوجه الأكمل، فهو لا يرى في المنصب والجاه والسمعة إلا عوامل مساعدة لفعل الخير ومساعدة المحتاج وخدمة الناس ورعاية مصالحهم.

الأمير عبدالرحمن رجل دولة بامتياز، كان يعي تمام الوعي دوره ومسؤوليته في تنمية وتوعية تلك المنطقة النائية التي آلت إليه مسؤولية إدارتها، وكان الشخص المناسب لأداء تلك المهام لأن منطقة الجوف كانت في الزمن الغابر مسرحاً للصراعات المريرة المتواصلة بين مختلف القوى المحيطة بها، خصوصاً بين ابن شعلان وابن رشيد، مما زرع بذور الفتنة والشقاق بين الأهالي، وجاء الأمير عبدالرحمن ليؤلف القلوب ويوحد الكلمة ويلم الشمل ويصلح ذات البين متسلحاً بالحلم والحنكة ورجاحة الرأي وبعد النظر، شعاره حزم بلا شدة ولين بلا تراخي، جعل من سلوكه المهذب وتعامله الراقي ومجمل أسلوب حياته وتصرفاته مثالاً يحتذيه الآخرون ويقتدون به ويتعلمون منه ويجارونه.

ولكي يصرف الأهالي عن خلافاتهم الداخلية حاول أن يشغلهم بكل ما هو مفيد ونافع، فشجع الحاضرة على مزاولة الأعمال التجارية والزراعية، كما شجع البادية على تنمية ثروتهم الحيوانية من الإبل والأغنام، إضافة إلى الأعمال اليدوية التي تشكل مصادر للدخل، مثل المشغولات الخوصية ومثل النطي والسدو التي تستعمل مواد خام من الانتاج المحلي من أصواف وأوبار الإبل والأغنام وتحوكها بنات البادية، وغيرها من المهن والحرف التقليدية التي شجعها الأمير مادياً ومعنوياً وشملها برعايته، ومعروف أن منطقة الجوف اشتهرت منذ القدم بصناعة العباءات الصوفية الجيدة وكذلك البسط والسجاد. وصارت تقام المسابقات والمعارض السنوية لمشغولات السدو وغيرها والذي تعرض فيه أجود المشغولات ويمنح الأمير القطع الفائزة منها جوائز نقدية.

ولتوضيح أهمية هذه المعارض والمسابقات السنوية، يكفي أن نشير إلى أنه في عام 1395هـ (1975م)، حضر افتتاح معرض السجاد أكثر من 3.000 ثلاثة آلاف شخص، يقول الشاعر عبدالهادي مريزيق النصيري مشيراً إللى معرض النسيج:

    عرض النسيج اللي عْرف كل عامِ // يامرحبا في كل زاير تحلاه

    بجهود ابو فيصل رفيع المقامِ // الجوف زادت نهضته واشرق ضياه

كما أصبحت تقام في المنطقة مهرجانات سنوية لسباق الهجن تقدم فيها جوائز تشجيعية وتفد إليها البادية من كل حدب وصوب وذلك بهدف تشجيعهم على استنسال السلالات الجيدة، كما جعل الأمير من مزرعته حقلاً للتجارب الزراعية وإدخال طرق وممارسات جديدة في الزراعة وتحسين الإنتاج وزيادته، وأدخل للمنطقة محاصيل وسلالات من الحبوب والفواكه والخضروات لم تكن معروفة من قبل، كل ذلك من أجل توعية الأهالي وتعليمهم الاعتماد على النفس ورفع مستوى الدخول وتحسين الأوضاع المعيشية لديهم.

ومن السنن الحسنة التي سنها لتشجيع الزراعة إقامة مسابقة سنوية للمزارعين وتنظيم حفل سنوي يقدم فيه الجوائز النقدية المجزية بنفسه للفائزين، ويتم التحكيم واختيار الفائزين بواسطة لجان متخصصة تزور المزارع وتقيّم اداءها وإنتاجها حسب الكمية ومستوى المحاصيل وجودتها ونوعيتها وتنوعها، ومن الأمور التي تأخذها اللجنة في الاعتبار مقدار المساحة المزروعة وحسن استغلال الموارد المائية وتنسيق المزرعة ومدى تجاوب المزارع مع توجيهات الأجهزة الفنية والخبراء، ولقد توصلت الجوف الآن إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل إنها أصبحت تصدر المحاصيل إلى بقية مناطق المملكة وإلى البلدان الأخرى.

كان الأمير عبدالرحمن حريصاً على أن لا تكون المنطقة بمعزل عن ما يحدث في المملكة من تنمية وتطور وتحديث على مستوى البنية التحتية، وكذلك على مستوى العنصر البشري والتأهيل، كان ذلك واضحاً من حثه للأهالي على تعليم أولادهم وبناتهم وبذله من ماله الخاص لإنشاء المؤسسات التعليمية والتثقيفية من أجل تهيئة الظروف وتوفير الفرص للمحتاجين وتشجيع الجميع على الانخراط في مضمار التعليم، ومع أن أول مدرّس على حساب وزارة المعارف لم يصل إلى المنطقة إلا بعيد وصول الأمير عبدالرحمن إلى المنطقة بأقل من سنة حيث كانت بداية التعليم النظامي هناك بداية متواضعة سنة 1363هـ (1943م) إلا أن المنطقة قطعت شأواً بعيداً في هذا المجال ووصل عدد الطلاب فيها إلى أرقام قياسية، وافتتح فيها العديد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية للبنين والبنات وصارت تعم كافة أنحاء المنطقة بما في ذلك القرى والهجر. ومن هنا أيضاً كان حرصه على تأسيس دار الجوف للعلوم التي شيد بناءها على مدخل مدينة سكاكا وتضم مكتبة تحتوي على الآلاف من الكتب والمراجع والدوريات، كما افتتح رياض ومدارس الرحمانية للبنين والبنات من أجل تشجيع العلم وإتاحته للجميع، وتضم مكتبة دار الجوف للعلوم كل ما هو متوفر من مراجع عن جغرافية المنطقة وتاريخها وما كتبه عنها الرحالة والمستشرقون وعلماء الأثار.

وحرصاً منه على توثيق كل ما يتعلق بتاريخ المنطقة وشمال الجزيرة قديماً وحديثاً قامت مؤسسته بنشر العديد من الدراسات عن طبيعة المنطقة وتاريخها وآثارها، علاوة على إصدار دورية ثقافية تحمل اسم الجوبة وأخرى مختصة في الآثار تحمل اسم أدوماتو، وهو الاسم القديم لدومة الجندل، ولم يكتف بذلك بل إنه هو نفسه أسهم في تأليف كتابٍ عن تاريخ المنطقة عَنْوَنَه الجوف: وادي النفاخ حيث كان أهالي نجد وشمال الجزيرة قديماً يسمون الجوف وادي النفاخ لشدة كرم أهله وكثرة ما يقدمونه لضيوفهم من الطعام الدي ينفخ بطونهم.

ويتميز تعامل الأمير عبدالرحمن مع أهل المنطقة في رفع الكلفة وإزالة كل الحواجز بينه وبين الناس كافة، صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم، وذلك رغبة منه في التواصل مع الجميع والاحتكاك بهم من أجل تفقد أحوالهم وبذل النصح لهم وإرشادهم لما فيه خيرهم، ومساعدتهم على مواكبة المستجدات والتكيف مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وكان في سلوكه وشخصيته نموذجاً يحتذى ومثالاً يقتدى به في رزانته ورصانته وهدوء طبعه وحبه للخير، دائماً يأخذ الأمور من جانب العطف واللين والشفقة وبالتي هي أحسن، يصف أحد الشعراء تواضع الأمير وتعامله الودي مع الأهالي في قوله:

    مبدا التواضع والتفاني مباديك // على العلا ممشاك في فهم وادراك

    في منهجك للخير هاديك واليك // ولا غرّتك في زود الانعام دنياك

    طبع المروّه والوفا ورث اهاليك // ياقدوة اهل الجوف في صايب ارياك

ويقول عبدالله محمد الغميز:

    نبكيك من لطفك وكثرة حسانيك // تصفح عن الجاهل وتدمح زللها

    يبكيك مظلوم يبى الحق يبكيك // يرجيك فكّة نشبته من عضلها

    تسمع كلامٍ منه ياخذ ويعطيك // حتّى تفهّم زلّته وتْعَدِلها

    السيرة الحسنه مْزِج دمها فيك // تهيأت لك لين دمك قبلها

    عفٍّ عفيفٍ متّزن في مماشيك // متمسّكٍ بحبال ربٍّ فتلها

ويقول صياح مناحي الورده:

    من جاه فَزّ وقام مثل الوزيرِ // يمد يمنىً واقف ما قصرها

    كلٍّ حِفِظ قدره كبير وصغيرِ // ما هو من اللي ضْعوف شعبه حَقَرها

    ياما عطى للشور من يستشيرِ // وياما هدى بالراي من يعتبرها

    وياما نصح بالزود راعى البعيرِ // ينزل خيار الارض منبت شجرها

    ويزرع بها ويحط قمح وشعير // وتنبت غلال وكل عامٍ بذرها

    ويحط بالاركان بيرٍ غزيرِ // ويسقي فياضٍ دوم ياكل ثمرها

    وعَمَر وحط الحوش ما له خشيرِ // ويذكر سنينٍ ماضياتٍ صبرها

وحينما نتحدث عن البذل والعطاء نجده كريماً سخياً لا يرد محتاجاً ولا يتوانى عن مساعدة من هو في حاجة للمساعدة، يعمل الخير لوجه الله ولذات الخير وليس للتباهي ولا لنيل المدح والتبجيل، ولشدة كرمه وطيب معشره لُقّب "عشير ضيفه"، لكنه مع جوده وكرمه كان شديد الحرص ألا يبدو عليه البذخ والإسراف حرصاً منه على تعليم الأهالي على الترشيد في الاستهلاك والاقتصاد في الانفاق وعدم التبذير والابتعاد عن التهور والتباهي الأجوف والمحافظة على الموارد والثروات. وقد ألمح الأمير إلى طريقة تعامله مع أهالي المنطقة وسياسته معهم وأسلوبه في تصريف شؤونهم في قصيدة له منها قوله:

    أرّثت بالجوف غرس ودار // ولا تشبّثت بتْجاره

    تجارتي صحبة الاخيار // هذا هوى القلب وشْعاره

    نبذل ولا نبدي الاعذار // في ساعة الكود صبّاره

    ما اقول قولٍ وهو ما صار // اللي مضى تكفي اخباره

وقد برزت هذه العلاقة الودية الحميمية بين الأمير وأهالي منطقة الجوف في الأشعار المتبادلة بينه وبينهم حينما تضطره الظروف للسفر والابتعاد عن المنطقة، يشتاق لهم ويخاطبهم كما يخاطب أهله وأولاده وإخوانه.

وقد شخص هذه العلاقة ولخصها الدكتور أحمد اللهيب في قوله "الذي لم أقرأه حسب اطلاعي المحدود في الشعر الشعبي الا لهذا الأمير هو الناحية السياسية الاجتماعية بينه وبين رعيته وهي المجتمع الذي هو أمير عليه، فهو يشكو من ألم فراق ذلك البلد وأهله إذا سافر عنهم ويرسل لهم القصائد العاطفية كأنما يرسل لأبنائه ولا يخص أحدا دون أحد . . . . ويجيبونه بالمثل، فأهل الجوف في مساجلات شعرية ودية مع أميرهم . . . .في حين أن كثيراً من البلدان مشغولون بالمساجلات الخلافية . . . والحق يقال أن هذه الناحية السياسية الهامة فريدة جداً . . . وهي فعالة ناجحة استطاع الأمير من خلالها أن ينتقل من قصر الإمارة ولغتها إلى عطف الأبوة وشفقتها". استمع إليه يخاطب أهل الجوف في قصيدة بعثها لهم مع سعد اللحاوي حينما كان في رحلة علاجية إلى أمريكا:

    ياللي تحظّرت للمسير // أوصيك لى جاك نشّادي

    من صوب عذفا وصوب الشير // إلى اسفل طْريف والوادي

    ومن حد تيما وحد صوير // سلّم على هاك الاجوادِ

    اللي لهم في دروب الخير // مسند ومصدر وميرادِ

وقد رد العديد من شعراء الجوف على هذه القصيدة من ضمنهم خلف العواجي الذي قال قصيدة منها هذه الأبيات:

    الكل يحمل لك التقدير // شِيّابنا هم والاولادِ

    حيثك بحالاتنا بصير // ومن شان مصلوحنا تْفادي

    وحيثك لْيا خنّقت بالبير // وصارت جماعات وافرادِ

    وغدى بها شايرٍ ومْشير // يصير شورك هو البادي

    لْكلّ ظرفٍ معك تقدير // أبٍّ حليمٍ وبُولادِ

وقد شكل النهج التطوري والتوجهات التنموية للمنطقة مواضيع شعرية جديدة لم تكن مطروقة من قبل في شعر المديح، بلورها شعراء الجوف وطوروها على شكل "موتيفات وثيمات" طعّموا بها قصائد المدح الموجهة للأمير عبدالرحمن يبيّنون فيها ما يبذله من جهود استثنائية في سبيل تطوير المنطقة للحاق بركب الحضارة والتنمية الشاملة المتكاملة، في هذه القصائد لا يكتفي الشعراء بمواضيع المدح التقليدية مثل الكرم والشجاعة، بل أضافوا لذلك تعداد المشاريع التنموية والتطويرية التي حظيت بها منطقة الجوف بقيادة الأمير عبدالرحمن، وهذا من المواضيع الجديدة التي دخلت في نسيج الشعر النبطي، يقول عيد ملفي القوس العتيبي:

    خلّيت صحرا الجوف جنّات وزهور // وتقدّمت صوب البنا والحضاره

    بجهودكم يامير والسعي مشكور // واصل مسيرتها بحسن الاداره

    علّى مبانيها وشيّد لها قْصور // وصلت الى القمّه وزاد ازدهاره

ويقول ندا نمش المطيري مشيداً بالمشاريع الزراعية والعمرانية التي حولت منطقة الجوف من صحراء إلى جنة غناء من المزارع والمباني، ويبيّن كيف استبدل المزارعون طرقهم القديمة في رَيّ حقولهم بواسطة السانية بالمضخات والمكائن الحديثة، أما البدو فقد استقروا وأسسوا مشاريع تجارية من بناء مضخات البنزين حتى فتح الدكاكين:

    كلٍّ يجي يم ابو فيصل لعنوانه // اللي ذِكَر خوّتِه ما هوب ناسيها

    الجوف كد كوّنوه وزانت اوطانه // الله يعز البلد ويعز راعيها

    ديرة سكاكا تفوز وتشكر احسانه // خمسينٍ سنينها ياخذ ويعطيها

    من يوم جاها وهي ترقص وفرحانه // تشدي هنوفٍ تزيّن عند غاليها

    جاها السديري وهي صحرا وعطشانه // وحط المزارع وطوّل في مبانيها

    البدو حطت لها شيشه ودكّانه // والحضر عقب السنا خلّت سوانيها

    واليوم عنده جميع الناس شبعانه // اللي بوسط البلد واللي حواليها

ويقول محمد بن منوخ بن دعيجا الشراري يمدح الأمير عبدالرحمن بمشاركته أهل المنطقة معاناتهم في السنين العجاف، ثم يشيد بسداد رأيه وحنكته الإدارية التي ساعدت في تطوير المنطقة وتحديث مرافقها وجلب المشاريع التنموية لها، ثم يختتم بتبيان حرص الأمير على النظر في شؤون الرعية والسهر على راحتهم:

    الخير معكم يابو فيصل عهدناه // بالمنطقه شواهده تفتخر بيه

    عانيت معنا يوم فيها معاناه // وشاركتنا صلف المعيشه وقاسيه

    وامضيت معنا مطلع العمر وصباه // شمعه ورا شمعه على الدرب تضويه

    وجّهتنا يوم ارتبك راينا وتاه // والباديه منا جهلها سطى فيه

    روّضت منّا راعي الذود والشاه // واستبدل الرجال غرسٍ يسقّيه

    وتواصلت صحراه بالمدن وقراه // من فوقي الوادي ليا هْديب حَدْريه

    خير الحكومه عمّنا وانت ترعاه // ولْيا سعيت بخير كنّك مسوّيه

    ياميرنا ياصاحب الجود والجاه // يامكرم اللافي وياعز عانيه

    يامن شكى منه آخر الليل مركاه // ثابت بمجلاسه ويلقاه ناصيه

ويقول صياح مناحي الورده الشراري متحدثاً عن مشاريع الكهرباء وسفلتة الطرق وتوسعتها:

    كل الهجر في مرتع الصيد غطّاه // غطّاه بالكهرب ظياها مواليع

    وعمّر بلادٍ زاد فيها قراياه // وكل الشوارع نظّموها بتوسيع

    وبنى قصور بالحجر زان مبناه // بطرقٍ علَمهن يوم وجهه مع الريع

    كم واحد يزرع على الارض واسقاه // ويثمر بقاعٍ طوّع الارض تطويع

    ياما وقف مع جانب الشعب واهداه // وعطى الجوايز والشهادات توزيع

وحينما يتحدث الأمير عبدالرحمن عن الجوف وأهلها ويخاطبهم في أشعاره لا يتحدث على أنه مجرد أمير ومسؤول تنتهي إقامته فيها وعلاقته بها بمجرد أن تنتهي مهمته، بل إنه يتحدث عنها ويخاطب أهلها كما لو كان واحداً منهم، وكما لو أن الجوف ديرته وبلده، وكما لو أنه ولد وترعرع فيها كواحد من أبنائها، نبت في أرضها وتغذى من تربتها كما تتغذى أشجارها ونخيلها المغروسة فيها. إنه يحبها ويشتاق لها كما يحب أي إنسان بلده وأهله، والأشعار التي قالها الأمير عبدالرحمن في الجوف قد تفوق ما قاله فيها أهلها الأصليون، استمع إليه يخاطب هتّاش بن شريّان بن رمال قائلاً إن قربه من الجوف وأهله بالنسبة له يعادل الجنة وبعدهم نار لا تطاق، ثم يتمنى لها السقيا ليعمها الخصب والخير والنماء:

    هيه ياللي نويتوا على المطراش // خبّروني عن الدرب وادلّه

    جسمي اللي على شوفكم يعتاش // وان رحلتوا تبيّن عليّ خِلّه

. . . .

    عندكم كن لي بالنعيم فْراش // وبعدكم صالي النار والمَلَّه

    خبروني عن الد ار ياهتّاش // وارفعوا لي صدى صوتكم كلّه

    جعل وبل الحيا لى نشا واهتاش // يسقي الجوف من بيط لمظلّه

    انحدر واعترض للجنوب وناش // من وديعه جنوبٍ ضفى ظلّه

    سيّل الارض واخطر على الادباش // باوّل الوسم واتلاه يتلن له

    شمّخ المزن تنثر عليه رْشاش // كل ما اقفى ثراه المطر عله

. . . .

    ربّعت واخصبت والجلوب تحاش // كل حيٍّ بغى حي يفطن له

    دارنا حبها من صميم الجاش // من نساها عسى الدار مثوىً له

ويخاطب قادي بن صحن الظلماوي طالباً منه أن ينقل سلامه لأهل الجوف، بدوهم وحضرهم ويمتدحهم في البيت الأخير بالوفاء وبكرمهم وحفاوتهم بالضيوف:

    ما توصل القول ياقادي // للدار واللي سكن فيها

    جملة هل الجوف والوادي // للحضر والبدو تهديها

    بلّغ سلامي بلا عْدادي // حاذور ليّاك تخفيها

دارٍ ورا العرق من غادِ // لو غبت ما نيب ناسيها

    دار بها الجود واجواد // غير الوفا الضيف يغليها

ومثل ذلك قوله يدعو للجوف بالسقيا ويبين حرصه على تتبع أخبارها حينما يكون بعيداً عنها:

    الدار عنها العلوم شحاح // وانا حريصٍ على الاخبار

    علمي بها والمطر ما طاح // عامين ما طاح فيها امطار

    الله كريمٍ وانا ملحاح // ينعم على ديرة الاخيار

    الحضر والبدو والفلاح // الجود فيهم ومنهم صار

مهما دققت وتمعنت وأجَلت النظر في قصائد الأمير عبدالرحمن فلن تجد فيها ما يتمناه لنفسه، فهو لا يريد شيئاً لنفسه، كل أمانيه وآماله وطموحاته تنصب على المنطقة وأهل المنطقة، ما فيه خيرهم وازدهارهم وراحتهم وسعادتهم.

ومن استقرائي لديوانه القصائد تأكد لي أن القصائد التي قالها الأمير عبدالرحمن في الجوف وأهل الجوف تفوق كثيراً في كمّيتها تلك التي قالها في الغاط وأهل الغاط وعائلة السدارى، وفي ديوانه فصل كامل عنوانه "الجوفيات" يحتوي على كم لا بأس به من القصائد التي قيلت في الجوف وأهل الجوف، وهل من دليل أقوى من ذلك على تعلقه بالمنطقة التي انتُدب ليكون أميراً عليها فتماهى فيها وتشرب حبها كأحد أبنائها واندمج مع أهلها وامتزجت مشاعره ومشاعرهم حتى أصبح واحداً منهم.

وللأمير قصيدة طويلة عصماء تبلغ ستاً وثلاثين بيتاً قالها بعد أن أمضى تسعاً وثلاثين سنة في أمارة الجوف، القصيدة أشبه بالسيرة الذاتية، ويتحدث فيها عن منطقة الجوف وحبه لها ولأهلها وعن حياته فيها وتفانيه في السهر على رعاية مصالحها، ثم يعرّج على الحديث عن سياسته في الإمارة وأسلوبه في التعامل مع الآخرين بالرفق واللين وحب الخير والحرص على أداء مهامه على أكمل وجه، ويتعرض في القصيدة إلى الدكة التي سبق لنا الحديث عنها، وعن ابن سعران الذي من مهامه القيام على شؤون الدكة والاعتناء بالضيوف الوافدين عليها وإكرامهم، ويقول إنه بنى دكته خارج القصر وعلى جانب السوق حتى لا يتهيب الغريب ولا يتردد الضيف في المجيء إليها ليستقبله الأمير بكل بشاشة وترحاب ويقضي حاجته. وهذه بعض أبيات من هذه القصيدة الجزلة:

    عاصرت دارٍ جعلها وبل سحّاب // خصّيتها مما بنفسي زياده

    أمضيت فيها لذّة العمر بحْساب // تسع وثلاثينٍ حسبت امتداده

. . . .

    بذلت فيها ما استطيعه وانا شاب // واليوم اشوف الشيب غطّى سواده

    والحمد لله شبت والجاه ما عاب // من عاب جاهه ما تسرّه عَضاده

    سعيت واستقصيت تقدير وحساب // وكظمت وادركت الحيا والجلاده

. . . .

    نطلب دروب الخير لو دونها حْجاب // النفس والشيطان صعبٍ جْهاده

. . . .

    ولي دكّةٍ ما صِكّ من دونها الباب // بنيتها في جانب السوق راده

    ابي ليا جا هاشل الليل ما هاب // يلقى بها مما يودّه مراده

. . . .

    يلقى بها من خيرة الربع شبّاب // قرمٍ يحظ الضيف رغبه وعاده

    يلقون ابن سعران بالضيف مِرْحاب // من غير طيب النفس جود وركاده

. . . .

    ويلقى بها العمسان من كيف شرّاب // بنٍّ يجينا في مواسم حصاده

. . . .

    ويلقى بها الوافد من الرزق ما طاب // ميسورنا ميسور عجلٍ نفاده

    نفرح الى منّه لفى الدار نبّاب // نعطيه حق الله وحق الوفاده

وعلى هذا المنوال له قصيدة تزيد عن سبعين بيتاً يسخر فيها من الذين يعاتبونه على جوده وسخائه ويشيرون عليه بالكف عن البذل والحفاظ على ثروته وادّخارها لنفسه وقت الحاجة حين المشيب، وفي القصيدة يتحاور مع نفسه التي، على عكس أولئك العذال، تحثه على السير في دروب الخير والابتعاد عن دروب الريبة وما يجلب الملامة، ثم يسرد أبياتاً من الحكمة تعكس شخصيته وتجربته الثرية في الحياة ونظرته العميقة للأمور التي جعلت منه شخصاً محنكاً عارفاً بطبائع الناس وشؤون الدنيا وحالاتها المتقلبة، وفي البيت السادس وما بعده يبيّن أن الإمكانات المادية والمكانة الاجتماعية مع الرجل البخيل والجبان لا فائدة منها وليست ناجعة، فهي أشبه بالرمح الذي كلّت حربته بحيث لا يفيد وطعنته لا تصيب مقتلاً من العدو. والشخصية القيادية لكي تكون مؤثرة تلزمها مؤهلات منها الكرم والشجاعة والرأي الراجح والدهاء وعلو الهمة والجد في العمل والاستقامة والنزاهة التي تصون العرض والسمعة الطيبة، لتبقى الصورة ناصعة في أعين الناس. ونختار من القصيدة هذه الأبيات الجميلة:

    أشوف لي ناسٍ وهو من غَشَمها // تصدّني عن نيّة الخير والطيب

    تقول جوّدها وجوّد حْزَمْها // دنياك لا تامن خطرها ولا الشيب

    احرص عليها والفْرَص من غَنَمْها // يحوش بالدنيا جميع المطاليب

. . . .

    نفسي تعاتبني وهو من كرمها // تقول حذراك انتبه ماقف الريب

. . . .

    ترى العفون عفون لو تحترمها // ما يصلحون ضيوف ولا معازيب

    أقل ما سنّ الرماح ودِجَمها // دِجْمٍ مع الانذال فيهن حراديب

. . . .

    ولا كل من سيّر جموعٍ حكمها // تطلع عليه الشمس عقب المغاريب

    ولا كل من خاصم خصومه خصمها // عصمات الاريا عند حصن المطاليب

    ولا كل من يزرع زروعٍ صرمها // ومن فضّل الراحه تهيّب ولا هيب

    ولا كل من حاول عقودٍ نظمها // وعلمٍ بلا عقلٍ دمارٍ بلا ريب

    أدنات ما قَظّ البيوت وهدمها // ومن لا يصون الدار يظهر بها العيب

. . . .

    عيني تقل دلوٍ تبتّت وِذَمْها // وقلبي كما الفطبول بين اللواعيب

. . . .

    ترى الرجال فعولها من هْمَمْها // وكل الدروب الى المراجل ظنابيب

    من جاد ساد ومن تدانى حرمها // ومن لا بنى مجده عَدَته المواجيب

لأتوقف هنا وألفت انتباه القارئ إلى أن مكانة الأمير عبدالرحمن السديري وقيمته وقدره تستند أولاً وقبل كل شيء إلى موقعه كرجل دولة وشخصية اجتماعية وقيادية لها وزنها، وليس الشعر بالنسبة له إلا مجرد عنصر مكمل وأداة من ضمن أدوات أخرى يلجأ لها ويوظفها لإنجاح بعض المقاصد وتوثيق بعض الأحداث وإيصال الرسائل وبث الآراء والقناعات، فهو لا يقول القصيدة ليطفئ جذوة الإبداع ولا ليحقق الشهرة ويحفر اسمه في عالم الشعر ضمن قائمة الشعراء، فليس هذا هدفه من قول الشعر، من هذا المنطلق جاء اهتمامه بالفحوى والمضمون على حساب الشكل والصورة الفنية، فأنت لا تلاحظ في قصائده التقيّد الصارم بالعمود الشعري التقليدي والاستهلالات الشعرية التقليدية من غزل وإركاب وبكاء على الأطلال، كما أنه لا يهتم كثيراً بالمحسنات البديعية ورسم الصور التخيلية والاستطرادات والأسلوب التراكمي، لكنه حريص في اختيار المفردة وفي نحت العبارة المعبّرة التي توصل الفكرة وتخدم المضمون وتعبر عنه بشكل واضح، لأن رسالته الشعرية رسالة سياسية واجتماعية قبل أن تكون رسالة فنية. هذا التركيز على الفحوى والمضمون أعطى لإنتاجه الشعري قيمة تاريخية توثيقية وجعل منه رصد للمحطات المهمة في سيرة حياته ومسيرته المهنية، كما لاحظناه في المختارات التي تطرقنا لها أعلاه. لذا جاء شعره صورة وسجلاً للطموحات والصعوبات التي واجهها في حياته العملية والمهام التي تقلب فيها والإنجازات التي تحققت على يديه، كل ذلك يعطي إنتاجه الشعري قيمة مستديمة مستقرة لا تخضع للأهواء الشخصية ولا لتقلبات الأذواق ولا تبدل الأمزجة من عصر إلى آخر، فمهما كانت ميولك الفنية ومهما كان ذوقك الشخصي فإنك حينما تقرأ هذا النوع من الشعر ستجد فيه على الأقل ما يفيد إن لم تجد فيه ما يروق لك، ستجد إنساناً يحاول من خلال الشعر أن يرسم خطاً بيانياً لنجاحاته وإخفاقاته وتطلعاته وعلاقاته ونظراته في شؤون الحياة وطبائع البشر، ستجد فيه توثيقاً لمرحلة من مراحل تاريخ هذه البلاد من خلال حياة هذا الإنسان، ولهذا السبب لم يكن من الممكن تناول شعره دون الحديث في الوقت نفسه عن حياته وسيرته الذاتية.

هذا يجعل من الصعب تحديد المدرسة التي ينتمي لها شعر الأمير عبدالرحمن السديري. فهو ليس شاعراً محترفاً يهجو ويمدح، وهو ليس من شعراء اللهو الرومانسيين والوجدانيين الحالمين، إذا كان لا بد من تصنيف الأمير عبدالرحمن السديري فإن أقرب مدرسة يمكن أن ينتنمي إليها شعره هي المدرسة الواقعية الذاتية، وإنتماؤه للمدرسة الواقعية لا يحدد مواضيع شعره بقدر ما يحدد طريقته في الطرح وأسلوبه في تناول المواضيع الشعرية، مهما كانت هذه المواضيع، ويعد إنتاجه الشعري غزيراً بمقاييس الشعر النبطي، فديوانه المطبوع القصائد بلغ عدد صفحاته (349) صفحة تطرق فيه للعديد من مواضيع الشعر وبمختلف الأوزان، من الهلالي إلى المسحوب إلى مختلف طروق الهجيني وشيلات الطار والمنكوس والسامريات والعرضات. ومع ذلك يبقى الطابع الغالب على شعره هو طابع الحكمة الذي تنضح به معظم قصائده، خصوصاً المراثي والوجدانيات. لكنه لا يتجشم الطريق إلى الحكمة كما يفعل شعراء الحكمة، فالحكمة عنده تأتي عفو الخاطر وعصارة تجربة ومعايشة حقيقية لمهام عظام وأحداث جسام، فحياته كلها جد وكد وعمل متواصل، لذا عرف النجاح والفشل وخبر الطرق المؤدية إلى كُلٍّ وبيّنها في شعره، حكمته حكمة الشيوخ الذين عركتهم التجارب وضرّستهم الحياة بحلوها ومرها ومباهجها ومآسيها، لقد عرف المرض العضال وجرب موت الأشقاء وفراق الأحبة ومآسي الحياة الأخرى ومنغصات العيش التي تذكرنا بضعف الإنسان، لكن الإنسان الطموح صاحب الهمة العالية لا يتخذ من هذه الصعوبات والمآسي عذراً للتقاعس والتخاذل عن أداء الواجب والسعي المشروع.

لا أقصد أن شعر عبدالرحمن السديري شعر خطب ومواعظ، ولا أقصد أنه شعر جاف يصدك عن قراءته والتمعن فيه، بل إنه، بالرغم من واقعيته وحكمته وجدية محتواه، شعر عذب الألفاظ سلس العبارة رقيق الحواشي تطربك أوزانه وقوافيه، وأثناء قراءتي لديوان القصائد توقفت كثيراً عند بعض المقاطع الجميلة التي تنضح شاعرية وتسيل عذوبة ورقة، مثل قوله في هذه الصورة البديعة لجمال الطبيعة ومباهج الربيع:

    سلامٍ احلى من حليب المصاعيد // في خايعٍ ماسوم وارضه مْجِدّه

    يشبع به الحاشي وسيله تراديد // وعشبه دماج وزايد البَرْد ضَدّه

    بين السمار وبين حزم الجلاميد // جنوبه الامحاص لاهه تحدّه

    نباته الروثه وسكّانه الصيد // تلقى الوحوش بجانبه مستهدّه

    يلقى به القنّاص شِرْد وملابيد // ويلقى به المشطون شيٍّ يودّه

    يسلي به الناظر ليا طالع البيد // ارضٍ سماح وسهلةٍ مجرهدّه

. . . .

    عذبٍ هواه ومثّلوه القواصيد // من طاب له طايب تهيّض وعدّه

ولا أعذب من قصيدة له يخاطب فيها حفيده ماجد جاءت قافيتها على حرف الجيم المجلجلة بالإيقاع والموسيقى الصاخبة العذبة التي تعبر عن القلق واضطراب المشاعر:

    وراك ياماجد تهضّم ومزعوج // كدّر مزاجي من تكدّر مزاجه

    يبكي ويرغمني على دروبه العوج // له حاجةٍ وانا ثمانين حاجه

    الطفل لا فالج ولا هوب مفلوج // عياه واجد مير يصعب علاجه

    ذكّر علي اتراح وافراح ومروج // جنات وانعامٍ عذيٍّ مداجه

    لكن قلبي بين الاضلاع مزروج // بمنشلشلٍ ولّع بكبدي سراجه

    ظليت اهظم الغيض واخفيه والوج // لولاه هيّضني بكثر اللجاجه

    ومن القوافي التي يطرب لها "الشياله" وعازفوا الربابة قافية العجز من قوله في إحدى قصائده الطوال:

    عنق المهاة اللي ذعرها التصاويت // تحيّلت بك حيلةٍ وادرِكَتْها

. . . .

    يوم التقيت بغايتك عقب ما اشفيت // وراك ما برّدت كبدٍ كَوَتها

    وراك من خشف المها ما تقاضيت // ترى الفْرَص مثل السحاب عْجَلَتها

. . . .

    وانت الذي في طورق الغي لك صيت // مثلك يعرف اسرارها وحْرِكَتها

ومن القوافي والأوزان الصعبة والجميلة معاً والتي تدل على قدرة الشاعر في تسخير القوافي واعتساف الأوزان لو أراد ذلك قوله في قصيدة وجهها لعلي بن عبدالمحسن الشايع:

    ياعلي قلبي تصدّع من علوّه // آه واويلاه من كثر البلاوي

    المروّه ما بقى عندي مروّه // دمّرت حالي كثيرات المكاوي

    ظربةٍ حصّلتها بالراس قوه // عقبها قلبي تفلّت به عراوي

    كلما عزّيت قلبي زاد سوه // ارتبك واهتز من أمرٍ سماوي

    وعلى نفس الوزن أيضاً هذه القصيدة يخاطب بها الشاعر المعروف نمر بن صنت العتيبي التي نلاحظ فيها صعوبة القافية، خصوصاً الشطر الأول المقفى على حرفي الراء والزاء:

    لو بغيت النوم عن عيني تبرّز // ما يطيق النوم من فكره يهزّه

. . . .

    ما يعوضك بالشرف ثوبٍ مطرّز // من تهاون بالشرف بالعمر عَزِّه

    ما يْسَدّ الريع بجلود تْخَرّز // والهيار ادنات ما شاله ودزّه

. . . .

    ما يصيب الرمح والقنطار ما انرَز // احذر الرمح الردي بالك تهزه

وله مساجلات أخرى مع الشاعر العاطفي نمر بن صنت العتيبي المعروف بأوزانه وقوافيه المتميزة التي قلما يستطيع الشعراء الآخرون مجاراته فيها، ومن هذه المساجلات قصيدة على وزن "المنكوس" مطلعها:

    عَن نِمِر ما عاد نسمع ولا جاني جواب // وش علامك يارفيقٍ تَعَرف الموجبات

    يذكرونك يافتى الجود مع تلع الرقاب // دلّهنّك واشغلنّك مزايين البنات

وإضافة إلى مساجلاته مع نمر بن صنت، كانت للأمير عبدالرحمن العديد من المساجلات والمراسلات مع شعراء بارزين، منهم إخوانه، وخصوصاً أخاه المرحوم محمد الأحمد، ومن الشعراء الذين كانت له معهم وقفات المرحوم مرشد البذال وعبدالرحمن العطاوي وعبدالله بن عون، إضافة إلى العديد من الشعراء الآخرين الذين كانوا في معيته مثل ناصر بن بليهيد، وغالباً ما تعتمد هذه المساجلات الشعرية على التعجيز والتحدي وامتحان القدرات الشعرية، خصوصاً فيما يتعلق بصعوبة الوزن والقافية والتلغيز واستغلاق المعاني والمضامين، لذا لا يقدم عليها إلا الفحول من الشعراء المتمكنين من أدواتهم الفنية والذين يستطيعون مجاراة بعضهم البعض في هذه المباريات.

ومن المواضيع التي شغلت حيزاً لا بأس به في ديوان القصائد موضوع المرثيات، رثى الملوك والأمراء وإخوانه وأفراد أسرته، لكن القصيدة الأبلغ أثراً في النفس والأكثر ملامسة للمشاعر الإنسانية والتي كان لها وقع خاص بالنسبة لي مرثيته في راشد بن صالح بن دماغ المري، أحد رجاله الذي سقط شهيد الواجب في مطاردة مثيرة لمهربي المخدرات شمال منطقة الجوف، كان الأمير عبدالرحمن يقود تلك المطاردة بنفسه وشاهد راشد يصاب ويسقط أمامه، وكان ذلك مشهداً مؤثراً وأليماً بالنسبة له فرثاه بأهزوجة على "طرق" الهجيني تذكرنا لغتها وصورها ووزنها وإيقاعها وجوها العام بتلك الأهازيج التي كان يتغنى بها الغزاة في عصر الفروسية والبطولات حينما يعودون من غزواتهم القبلية ويرتجلون أهازيج يحدون بها على ركائبهم ويشيدون بالبطولات التي حققوها في أرض المعركة ويترحمون على من سقط منهم دفاعاً عن رفاقه ويشيدون ببطولاتهم:

    لو درينا بالقدر خيره وشرّه // ما تركنا خصمنا يجهل علينا

    يوم صارت باوّل الهيّه مغرّه // ما ارهبتنا النار مع موتة حدينا

    ابو صالح عنده اللذات مره // والله انا بالسلامه ما اهتنينا

    الله اعطاه الشهاده له مبره // واشهد انّا دون حقّه ما انثنينا

    لو يشوف اللي جرى عقبه يسره // واجبه خذناه غصبٍ بيدينا

وبالمناسبة فإن هذه الحادثة تلقي بمزيد من الضوء على جسامة المسؤوليات وخطورة المهام التي كان على الأمير عبدالرحمن السديري أن يضطلع بها من واقع منصبه بوصفه أميراً لمنطقة الجوف التي كانت في بداية توليه لذلك المنصب منطقة حدودية نائية شاسعة الأطراف تمثل مرتعاً خصباً ومجالاً مفتوحاً لنشاطات المهربين والعصابات الخطيرة التي كان عليه أن يستأصل شأفتها ويضع حداً لها. هذا عدا ما سبق ذكره من الفتن الداخلية والخلافات المستعصية على الحل التي كانت تعصف بالمنطقة وتمزق نسيجها الاجتماعي وتعطل نموها الاقتصادي، ناهيك عما كانت تعاني منه المنطقة من آفات الجهل والتخلف والفقر، ولا أدل على نجاح الأمير عبدالرحمن في معالجة هذه القضايا وتعلق أهل المنطقة به وحبهم له من استمراره في منصبه لمدة خمسين عاماً ولم يتخلّ عن موقعه إلا بعدما كبر سنه واضطر إلى التقاعد برغبة منه طلباً للراحة.

وأود أن أختتم بإيراد قصة وقصيدة في مدح الأمير عبدالرحمن السديري سمعتها من عدة رواة من قبيلة السويد من شمّر ولم أرها منشورة من قبل.

في بداية تولي الأمير عبدالرحمن لمنصبه أميراً لمنطقة الجوف اجتاحت شمال المملكة عواصف رملية عاتية أثارت الغبار والأتربة وغطى التراب والغبار كل شيء مما أدى إلى هلاك العشب والشجر في المراعي وتبعه هلاك الزرع والضرع وحلال البادية، والبدو يسمون تلك السنة "سنة الغبار"، وكانت النتيجة أن معظم أبناء البادية ساءت أحوالهم ولم يجدوا حتى لقمة العيش التي تقيم أَوَدَهم ولا الزمل التي يستطيعون ركوبها للهجرة والانتقال إلى أماكن أخرى، ومن الذين ذهب حلالهم وطرشهم بدوي مسن يسمّى مطلق بن هزاع العميم فالتجأ هو وأولاده وعائلته إلى عبدالرحمن السديري الذي تكفل بإعاشتهم ورعايتهم لعدة سنين حتى تحسنت أحوالهم.

يقول الراوي: هذا مطلق بن هزاع العميم صارت احواله مصلّحه وهو بهالنفود ورحل زبن على السديري بعياله. قال: يالسديري أنا داخلٍ على الله ثم عليك عن عيالي لا يذبحهم الجوع. قال: زبنت وخاب طالبك.أما انا يدي ويدك مع الخويا واما اللي قاسمٍ الله للبيت يجيهم في بيتهم، ابطى عنده طال عمرك ورحل، بعد ست سنين ما ادري سبع سنين، ورحل وارسل له قصيده:

    راكب اللي كنّها الطير جايل // تسهيم شيهانٍ من الخم طاره

    ترعى ثلاث سنين بالقفر حايل // بالطول ما دورج باثرها حواره

    تلفي لشيّال الحمول الثقايل // تلفي لابو فيصل كمالَه وكاره

    يوم الدهور ومجدبات السحايل // صارت علينا مثل صيحة عزاره

    جينا تزبّنّا رفاع الحمايل // وصاروا لنا سورٍ ذِرِيٍّ جداره

    ياهل الصخا يامدركين النفايل // الزرع يطلع من مغاني بذاره

    أقولها صدقٍ صحيحٍ صمايل // رد الثنا للشيخ ما هي قْماره

    ياعل عمرك يافتى الجود طايل // يكفيك شرّ اللى تطاير شراره

    عساه يا جت من صدوق المخايل // ملكٍ يدرهش له عليكم مزاره

    عسى وطنكم يافتى الجود سايل // اللي يمين القصر واللي يساره

    ينبت بها الزملوق هول الهوايل // تلقى الزبيدي بيعوالي زباره

    نزعج لكم من غانمات الرسايل // بيضٍ تبنّى فوق قصر العماره

    قال العميم وباديٍ بالمثايل // حقٍّ عليّ ردّ الثنا بيخباره

    نزعج كلامٍ مع مناجيب حايل // نذكر ثنا شيخٍ ذِرِيٍّ لجاره

    ياما ذبحتوا من خروفٍ وحايل // كم حايلٍ بالفوس هِزّع فقاره

    تعطون سمحات الوجيه الجلايل // وابوك قبلك ما يهاب الخساره

    ياصْطام مصطورٍ عن الحق عايل // وامر الشريعه قايمٍ بيوقاره


 

(1) العْقِدا: مفردها عقيد، وهو قائد الغزو وزعيمهم الذي يأتمرون بأمره. الدلِلا: مفردها دليلة، وهو من يرشد الغزاة إلى الطرق وموارد الماء في متاهات الصحراء.

(2) النكايف: من "أنكف" أي عاد أدراجه من الغزو (لعلها من نكص، كما في قولنا: نكص على عقبيه).

(3) الوسوم: جمع "وسم"، علامة بالكي توضع على الإبل للدلالة على ملكيتها.

(4) الجزور: الناقة المذبوحة والمعدة للأكل.

(5) خلفات: جمع "خلفة" وهي الناقة الحلوب، ربما لأنهم يخلفون إبنها عليها لحلبها بعد الرضاعة

 

<< الصفحة السابقة  |  مقالات صحفية في الأدب الشعبي  |  أعمال قيد النشر  |  الصفحة التالية >>