Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

الأسهم: وجهة نظر غير

 

سعد الصويان

حينما كانت يدي الصغيرة تمسك بعصا المسوقة خلف بعارين السواني في منحاة فلاحتنا بعنيزة، لم يكن ذهني المحدود (بحكم السن والبيئة) يتصور آنذاك أن الحال سوف يتبدل وأنني سوف "أجدع المسوقه" واستبدلها بمقود سيارة ليكزيس، أو بلوحة المفاتيح التي ترقص عليها أصابعي الآن لأسطّر لكم هذه الكلمات. ياله من بون شاسع بين ما كنا فيه بالأمس وما نحن فيه اليوم. لم يكن ذلك بالزمن البعيد، فأنا لست شيخا هرما فانيا بل إنني ما زلت أتمتع بكامل قواي العقلية والنفسية والجسدية، وقوى أخرى أُحجم عن ذكرها. لا أعرف بالتحديد متى كان ذلك لأنني لا أعرف بالضبط سنة ولادتي. حينما دخلت المدرسة وأصبح من الضروري تحديد تاريخ الميلاد سألت جدتي عن ذلك فقالت لي: "ظْنيت ياوليدي يوم بقرتنا تجيب عجيلتها الصبحا". وهذا فرق آخر بين الأمس واليوم، بالأمس لم نكن نعرف تواريخ ولادتنا واليوم الكل يعرف ذلك. لم أكن طالبا مجدا، بل كنت لعّابا شقيا أحب الكعابه والنبّاط والقلبان والمطايير وأمقت الكتب والدفاتر. ولكن في السنة التوجيهية كنت قد بدأت أدرك أن هناك عالما آخر غير عالم عنيزة بشوارعها الترابية وبيوتها الطينية وخلطات الفليت DDT التي كنا نسكبها بغزارة على فروة الرأس لقتل القمل والصيبان. لذا قررت أن أصم المقررات صما لأحصل على معدل عالٍ يؤهلني للبعثة والهرب إلى بلد لا يوجد فيها غبار ولا ذبان. وفعلا حصلت على ما كنت أريد. ولا تسل عن الصدمة الحضارية التي واجهتها حينما وصلت إلى أمريكا. دعني أورد لك مثالا واحدا فقط والذي هو بمثابة أول لقطة تلتقطها كامرة ذكرياتي لأمريكا: حطّت الطائرة في مطار نيويورك وركبت الباص من المطار إلى البلد للذهاب إلى الملحقية التعليمية. وكان من ضمن الركاب جندي أمريكي عاد لتوِّه من الجبهة في فيتنام واستقبلته صديقته في المطار. ركب الإثنان معنا في الباص وحانت مني التفاتة فرأيته يضمها بشوق ويقبلها بحرارة. صعقت وانتابني خوف شديد من أن يراهما "النوّاب" فيقبضوا عليهما ويقبضوا علي معهما ظنا منهم أني شريك لهما في الجريمة. فما أن توقّف الباص عند أول إشارة ضوئية حتى نزلت منه هاربا وتركته لهما، عمَلا بمبدأ: ابعد عن الداب وشْجِرْتَه.

أمضيت سنوات طويلة في أمريكا أسدح واردح، وأحيانا أدرس. عدت بُعيد الطفرة الأولى والتي أذكر أنها كانت ما زالت حديث المجالس آنذاك. حكايات لا تصدّق. أناس رفعتهم إلى القمة وأناس حطت بهم إلى الحضيض. تخلخُل القيم، فُقدان التوازن، تبدُّل المعايير، ضجَر، ملَل. هذه بعضٌ من سمات تلك الحقبة. ما لفت انتباهي وأثار حقا استغرابي حينها هو أن أكبر المستفيدين من الطفرة كانوا هم أكثر الناس تبرما وشكوى وتبجّحا. بالمقابل كنت أرى أمامي مشاريع عملاقة تنهض: جامعة الملك سعود، المستشفى التخصصي، مطار الملك خالد، كبري الخليج، طريق الرياض القصيم، بنك التسليف العقاري، محطة التلفزيون، وهلم جرا. ركبت سيارتي وذهبت إلى عنيزة لأبحث عن بيت الطين والفلاحة ومنحاة السواني. لم أجد لها أثرا البتة. دهمها العمران والطرق المعبدة والرشاشات المحورية. حينما كنت في التوجيهي قبل الابتعاث كنا وزملائي لا نجرؤ على الكلام ولا قول أي شيء توهُّما منا أن الآذان والمايكرفونات مغروسة في الحيطان والبيوت والشوارع. حتى حينما نستمع إلى نشرة الأخبار من إذاعة لندن كنا "نْقَصّر على الرادو". بعدما عُدت من أمريكا وجدت الناس يجادلون ويناقشون بجرأة وصراحةٍ أخذت مني بعض الوقت لأعتاد عليها. ليضجر من يضجر، وليشكو من يشكو، لكن البلد تتطور، تتقدم، تنمو وتزدهر. هذا ما رأيته. شيء آخر لفت انتباهي. لم تعد صفة سعودي تعني بالنسبة لقائلها مجرد الخضوع والامتثال للسلطة، بل أصبحت تعني التمتع بمزايا وحقوق، ليس أقلها الأمان والكرامة والرخاء ورغد العيش.

توفّر الأمان والكرامة والرخاء ورغد العيش هو ما يوحّد الناس ويشكل قوة الجذب والاستقطاب نحو المركز ويساعد على مقاومة التبعثر والتشتت والخروج عن المسار. متى ما توفر الرخاء المادي والاستقرار الاقتصادي توفر الاستقرار السياسي وزاد الحرص على وحدة الوطن وأمنه ومصلحته. الفقر والخوف والكبت، كلها آفات تعثعث في جسد الوطن وتوهن الحس الوطني. الطفرة الأولى وحّدت مشاعر الناس وأنستهم خلافات الماضي، قبلية كانت أو إقليمية أو طائفية، وضخت فيهم إحساسا جديدا وشعورا قويا بالانتماء والأخوة والمواطنة. صار الكل يقولها بقناعة وبملء الفم وبلا تردد ولا حرج: أنا سعودي. فقد حقق الوطن من القفزات والإنجازات ما جعل الجميع يفخر به ويحرص عليه. حتى أشد المنتقدين للوضع القائم لم يكن يقصد من النقد استبداله بغيره بقدر ما كان يطمح لإصلاحه لتمديد فترة صلاحيته ومدة بقائه قناعة منه بأنه لا يوجد بديل أفضل.

الكل مجمعون أننا على مشارف طفرة ثانية. إذا أردنا أن نستفيد حق الاستفادة من هذه الطفرة التي تطرق الأبواب علينا أن نعود بالذاكرة إلى الطفرة الأولى لاستقراء أحداثها لرصد السلبيات والإيجابيات وأخذ العبر والدروس. حمّى الأسهم من أحد أهم أعراض هذه الطفرة الثانية مثلما كانت حمّى العقار أحد أهم أعراض تلك الطفرة الأولى. في غياب الرقابة والتنظيم والترشيد تحولت تلك الحمى العقارية من عرض طارئ إلى مرض عضال فتك بالكثيرين وسقط فيه من الضحايا ما لا يعد ولا يحصى. ضاعت أرصدة وفُقدت عقول وتهدمت بيوت وأناس زُجّ بهم في السجون وضمائر بيعت بأبخس الأثمان. أقول هذا دون أن أنكر الإيجابيات وما تحقق من إنجازات نحن الآن نرفل في نعمها السابغة.

لتجنب سلبيات الماضي لا بد من استحداث ما يكفي من الآليات التي تكفل حقوق المستثمرين في سوق الأسهم، خصوصا الصغار منهم، وترشيد العملية برمتها وإدارتها بشكل سليم يضمن تعظيم المكتسبات للجميع وعدم سقوط ضحايا، أو على الأقل تخفيف الأضرار المحتملة وتقليص الخسائر إلى الحد الأدنى الممكن. لا نريد لسوق الأسهم أن تتحول إلى ساحة حرب وقرصنة "يفغّص" فيها الأقوياء الضعاف و"يلهطون" مدّخراتهم ويتركونهم صفر الوطاب إما عن طريق المكاتب الوهمية وإما عن طريق التلاعب بالسوق والتحكم في عمليات العرض والطلب واحتكار المعلومات المهمة وتسريب الشائعات المضللة. وأنا هنا لا أريد أن أبدو متشائما أو كمن يحذر من مغبة الأسهم والمساهمات، بل على العكس أرى أن تسارع الدولة إلى التخصيص وطرح أكبر عدد ممكن من الشركات والمؤسسات المالية والمنشآت الاقتصادية للاكتتاب العام وأن تستقطب أكبر عدد من المواطنين وتيسر لهم عمليات الاكتتاب في هذه المساهمات وتشجعهم على ذلك. التخصيص والمساهمات خطوات فعالة نحو توسيع القاعدة الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروة على الناس من خلال ما يجنونه من عوائد وفوائد على الأسهم، وفي المشاركة الشعبية في تمويل مشاريع التعمير والبناء، وفي خلق طبقة وسطى تحفظ التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي. المساهمات هي التي تجعل المواطنين يحسون بالشراكة الاستثمارية، وتجعلهم يشعرون بأنهم شركاء يربطهم مصير اقتصادي مشترك، وهذا مما يؤلف فيما بينهم ويوحد رُؤاهم وأهدافهم وينمي فيهم حس المواطنة، ويخفف من حدة الاختلافات القبلية والإقليمية والطائفية. والمواطن الذي له مصلحة يجنيها من ازدهار وتطور البنى التحتية والمؤسسات الاقتصادية والمنشآت العامة سوف يكون أكثر حرصا على عدم المساس بها وجلب الضرر لها، وفي حمايتها ضد المخربين والمستهترين. حينما يكون المواطن شريكا في هذه المؤسسات والمنشآت فإنه سوف يكون حريصا على سلامتها ويحافظ عليها مثلما يحافظ على ممتلكاته الخاصة. هذه إحدى الوسائل العملية والفعالة لتطبيق المقولة المعهودة "الوطن ملك للجميع" على أرض الواقع.

التخصيص وتدشين سوق الأسهم عندنا يعد مؤشرا على تحول اقتصادي هام وعلى بداية عهد جديد وعقلية جديدة في الاستثمار. لقد بدأت الدولة ترخي من قبضتها على مفاصل الاقتصاد ومصادر الدخل القومي وتمنح الفرصة للمواطنين لمشاركتها في تحمل هذه المسؤولية وإدارة هذه المؤسسات وتمويلها، وهذه بداية التحول من اقتصاد ريعي ومن دولة رعاية اجتماعية welfare state إلى اقتصاد رأسمالي حقيقي. والشراكة الاقتصادية هي الخطوة الأولى نحو الشراكة السياسية. وهناك ناحية أخرى لا بد من التنبه لها، وهي أن الاستثمار في الأسهم يرفع من وعي المستثمرين وثقافتهم الاقتصادية لأن الاستثمار في الأسهم يتطلب من المستثمر الحصيف أن يتابع عن كثب نشاطات مختلف الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي ينوي الاستثمار فيها، وهذا يقوده بالتدريج إلى التعرف على الوضع الاقتصادي العام وعلى الناتج القومي وفائض الميزانية والدين العام وغيرها من المسائل الاقتصادية التي تهم الوطن والمواطن.

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>