Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

منهجيتنا الاختزالية في تناول الفنون القولية

سعد الصويان

إنه لأمر مدهش حقا أن تثار قضايا في الشعر الجاهلي مثل مسألة الانتحال أو مسألة الصياغة الشفهية أو حتى مصداقية "أيام العرب" وحقيقتها التاريخية ولا يفكر من يناقشون هذه المسائل بالقيام برحلات ميدانية إلى بادية الجزيرة العربية ودراسة شعرها وأدبها لتعميق الرؤية العلمية حيال هذه المسائل. لماذا لا نستفيد من مناهج العلم الحديثة ونتبنى نظرة أوسع وأعمق وأكثر شمولية في تناولنا لقضايا الأدب الشفهي والثقافة التقليدية في مجتمعاتنا العربية من عصر الجاهلية وصدر الإسلام حتى العصور المتأخرة؟! المشكلة المنهجية التي نواجهها في دراستنا للقصيدة الجاهلية كنتاج أدبي هي أن الشعر الجاهلي في صميمه شعر شفاهي والمجتمع الجاهلي الذي نشأ فيه هذا الشعر كان مجتمعا أميا شفاهيا.

تتحاشى الثقافة العربية التعامل مع الآداب الشفاهية وتفتقر إلى منهجية واضحة في الدراسات الشعبية؛ هذا بينما نجد غيرنا من الأمم في العقود الأخيرة قد خطت خطوات حثيثة في مجال البحث عن طبيعة العلاقة والفروقات القائمة بين الشفاهي والكتابي في اللغة والأدب، والدور الذي قامت به الذاكرة قبل استخدام الكتابة ثم الدور الذي لعبته الكتابة في تحوير الأجناس الأدبية وما أحدثته من تحولات في طبيعة الأدب وسياقاته الإبداعية والأدائية، ناهيك عن العلاقة بين المبدع والمتلقي. وصار المختصون يتساءلون عن مدى تأثيرات الكتابة والقراءة على مضامين الأدب ووظائفه الاجتماعية وطرق إنتاجه ووسائل تداوله، وصاروا يولون أهمية خاصة للسمات الفنية والذهنية والنفسية التي تميز عصور الشفاهة عن العصور اللاحقة التي تفشت فيها الكتابة وحل فيها التدوين محل الذاكرة في حفظ النصوص الأدبية. ثم بدأ يتجه البحث مؤخرا نحو استكشاف وسائل المعرفة والإدراك عند الإنسان وبنية الذاكرة البشرية وطرق عملها والسبل التي تلجأ إليها المجتمعات الأمية في تخزين معارفها وتداولها وحفظها وتوريثها عبر الأجيال. وتشير الدراسات الحديثة في النقد الأدبي وفي علم اجتماع الأدب وفي الأنثروبولوجيا والفلكلور إلى أن التغير الحضاري والاجتماعي لا بد أن يصحبه، بطبيعة الحال، تغير في الأجناس الأدبية وفي وظيفة الأدب ومضامينه وفي دور الأديب في المجتمع وعلاقته بجمهور المتلقين. فأدب المجتمعات الرعوية يختلف عن أدب المجتمعات الريفية وأدب الحاضرة يختلف عن أدب البادية وأدب المجتمعات الأمية يختلف عن أدب المجتمعات الكاتبة.

ظل العلماء في الأمم المتقدمة منكبين على البحث والتنظير والأخذ والرد في هذه المسائل بينما عالمنا العربي ينعم بالغفلة عن هذا كله، علما بأنه أحوج ما يكون إلى ذلك، ليس فقط لغزارة وتنوع آدابه وأشعاره الشعبية وإنما أيضا لأن مثاله الأعلى في الأدب، وهو الشعر الجاهلي، هو أدب شفاهي. هذا يحتم علينا، كي نتمثل الشعر الجاهلي تمثلا صحيحا ونفهمه حق الفهم، أن نطّلع على النتائج التي توصلت إليها أحدث الدراسات العلمية عن طبيعة المجتمعات الأمية والآداب الشفاهية. إلا أن ما يعيق البحث العلمي عندنا في هذا الاتجاه هو أن الموقف الفكري العربي مدجج بالقناعات الأيديولوجية والتوجهات النخبوية والمقولات الجاهزة لإدانة اللهجات والآداب العامية والثقافة التقليدية بوجه عام على افتراض أن الاهتمام بالإبداعات الشعبية، خصوصا في الجانب القولي منها، يمثل معول هدم يهدد اللغة العربية الفصحى بكل ما ترمز إليه من موروثات وقيم روحية وقومية وفكرية توحد بين أبناء الأمة العربية والإسلامية. يرى هؤلاء أن الأدب العامي بلغته العامية جرثوم خطير يجب محاربته واجتثاثه وتسخير كل الطاقات للاجهاز عليه وسحقه ومحقه حفاظا على نقاء وصفاء أجوائنا الروحية والسياسية والفكرية. ومن هذا المنطلق تبذل جهود ومحاولات دائبة لطمس معالم الثقافة الشعبية وتطهير المجتمع من شوائبها وتعقيم الجماهير ضدها وتحصينهم بالجرعات اللازمة من الثقافة الرسمية الفصيحة. إن قصر التعامل مع الأدب عندنا على أساتذة اللغة التقليديين وانصراف علماء النقد والاجتماع والإثنولوجيا واللسانيات عن هذا الموضوع كرس النظرة الآحادية والمنهجية الاختزالية في تناول الفنون القولية على أساس أنها مجرد مادة لغوية دون التنبه إلى أهميتها كنتاج فني وكوثيقة لرصد الوقائع التاريخية وتسجيل الظواهر الاجتماعية. وأساتذة اللغة في مؤسساتنا الأكاديمية يحملون لواء المعيارية وشعارهم "قل ولا تقل" وهمهم تمييز "الخطأ" من "الصواب" دون بذل أي جهد لفهم اللغة كأداة اتصالية وسلوك إنساني ونشاط ذهني تتكشف من خلاله خفايا الطبيعة الإنسانية وديناميكية العقل البشري، كما تمليه المناهج الحديثة التي يسير عليها علماء اللغة بالمعنى اللساني العصري لهذا التخصص.

في المجتمعات الأمية، مثل مجتمع الجزيرة العربية في عصوره الماضية، يتضافر الأدب الشفهي مع بقية النشاطات الاجتماعية ويتقاطع مع مكونات الثقافة الأخرى بحيث يستحيل فصله عنها والنظر إليه كنشاط مستقل، كما هو الحال في الأدب المكتوب. تتعدد وظائف النص الشفاهي بحيث تشمل وظائف أخرى تساند وظيفته الفنية وتتعدى قيمته الجمالية. إنه أشبه ما يكون بمادة البترول الخام التي يمكننا أن نستخلص منها العديد من المشتقات إذا كانت لدينا معدات التكرير اللازمة، والتي تعني في هذه الحالة الأطر النظرية والأدوات المنهجية الملائمة. فهو نص أدبي ومادة لغوية ومصدر تاريخي ووثيقة إثنوغرافية تعكس جوانب الحياة المتعددة في المجتمع الأمي. ومن أجل إضاءة مختلف المستويات الدلالية والجمالية لهذا النص الشفهي والتعرف على وظائفه المتباينة لا بد من التطلع إليه من منظور أعم وإخضاعه لنظرة شمولية فاحصة تكسر قيود التخصصات التقليدية وتتضمن مزيجا مركبا من مناهج التحليل الأدبي واللغوي وكذلك مناهج التحليل التاريخي والاجتماعي والنفسي. ولا نقصد بذلك التقليل من شأن الأبعاد الفنية والجمالية للنص الشفاهي وإنما تسليط الضوء عليه من زوايا مختلفة للتعرف على وظائفه السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتعامل معه بالجدية التي تتناسب مع أهميته وخطورته كقوة فاعلة في المجتمع التقليدي. فلو أننا نظرنا مثلا إلى خطاب من خطابات بيريكليس Pericles، أحد قادة اليونان القدامى، فسوف نجد أن قيمته الأدبية تعزز وظيفته كخطاب جماهيري يقصد منه التأثير على المستمعين ودفعهم للعمل والتفكير في اتجاه معين. كذلك لو أننا نظرنا إلى قصيدة نظمها شيخ من شيوخ البادية أو فارس من فرسانها كمجرد نص أدبي فإننا نخطئ فهم القصيدة ونغمط قائلها حقه والذي لا يليق بنا أن ننظر إليه كمجرد شاعر وإنما شخص له مكانته ويتوسل بالشعر لتناول أحداث خطيرة ومعالجة أمور جليلة كإعلان الحرب أو تخليد النصر أو طلب الصلح أو الدفاع عن حق أو الحث على عمل ما، أو ما شابه ذلك.

إن كثيرا من القضايا النظرية والأسئلة الملحة في الأدب الجاهلي لن نتوصل إلى حلها إلا بالنظر إلى أدب البدو وثقافة الصحراء في وقتنا الحاضر عن طريق العمل الميداني الذي أصبح من أساسيات البحث العلمي في عالمنا المعاصر. لو تمكنا من دراسة شعر البدو في سياقه الأدائي ومحيطه الثقافي والاجتماعي لاستطعنا الإجابة على العديد من الأسئلة التي تدور حول طبيعة الشعر العربي القديم، وخصوصا فيما يتعلق بدوره السياسي ووظيفته الاجتماعية وكذلك طرق نظمه وأدائه وروايته وحفظه وتداوله كتراث شفهي يعتمد على الحفظ والرواية والسماع لا على الكتابة والتدوين. إذا كانت الدواوين هي الوسيلة الوحيدة التي تربطنا بشعر الجاهلية وصدر الإسلام فإن الشعر النبطي بشكله التقليدي الشفهي المتوارث في بادية الجزيرة العربية منذ القدم، والذي يمثل الامتداد الطبيعي للشعر الجاهلي، كان إلى عهد قريب شعرا حيا قويا لا يزال بعض رواته ومن عاصروا أحداثه وظروفه يعيشون بين ظهرانينا، كما أن القليل من فحوله لا يزالون على قيد الحياة. يتفق الشعر الجاهلي مع الشعر النبطي في أنه شعر شعبي ترعرع وازدهر على نفس الرقعة الجغرافية بين أبناء البادية وشعوب الصحراء العربية الذين تغلب عليهم الأمية ويعتمدون على الرواية الشفهية في حفظ وتداول معارفهم وفنونهم. المناخ الاجتماعي والبيئة الثقافية ومجمل الظروف الإنسانية والطبيعية التي أفرزت الشعر الجاهلي هي نفسها تلك التي أفرزت الشعر النبطي. إن جمع وتوثيق هذا الشعر النبطي كتقليد ينبض بالحياة ودراسته دراسة ميدانية على أسس علمية سوف تفتح لنا آفاقا رحبة للريادة العلمية والاستكشاف وسوف تتمخض عن ذلك مقتربات منهجية وأطر نظرية جديدة وسوف تتفرع عنها مواضيع تكون منطلقا لدراسات أخرى ويكون لها مردودات بالغة الأثر وبشكل قد لا نتصوره الآن على مجالات البحث الأخرى في حقول الدراسات الأدبية واللغوية والإنسانية والاجتماعية والتاريخية.

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>