Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

القهوة العربية: رمزية الفنجال وطقوس المنادمة

سعد الصويان

منذ أن دخلت القهوة جزيرة العرب وجد فيها شعراء البادية وفرسانها موضوعا شعريا ورمزا ثقافيا لا يقل أهمية عن الإبل والأطلال والمواضيع التقليدية الأخرى. جاءت القهوة لتحل محل ابنة الكرم في الشعر الجاهلي كرمز للفتوة والفروسية. كما وجد فيها الشعراء النبطيون موضوعا شعريا ربطوه بنظم القصيدة وروايتها. مثلما ارتبطت الناقة في مقدمة القصيدة كأداة التوصيل التي ستنتقل عليها القصيدة وتنتشر في أحياء العرب، كذلك ارتبطت القهوة بنظم القصيدة وانتشارها. إذا ما أحس الشاعر بجذوة الإبداع تتوهج في داخله  فإنه إما أن يشد على راحلته ويمتطيها ليجوب الفيافي والقفار وحيدا أو أن يوقد النار ويعد لنفسه قدحا من القهوة ليمنحه صفاء ذهنيا يساعده على نظم القصيدة.

إعداد القهوة العربية، مثل نظم الشعر، عمل يحتاج إلى التروي والمهارة والإتقان. حمس البن وسحنه، وما يتلو ذلك من عمليات أخرى تتعلق بإعداد القهوة، مهام تحتاج إلى ذوق وحذق "ذرابه". وبينما الشاعر منشغل بعمل القهوة فإنه في الوقت نفسه منشغل بنظم أبيات القصيدة. وحينما ينتهي من عمل القهوة يكون قد قطع شوطاً لا بأس به في النظم، فيكون قد حدد الوزن والقافية والمطلع والمواضيع التي سوف تتضمنها القصيدة. وحينما تصفو القهوة يبدأ في سكبها وتذوقها ثم يشرع في استعراض أبيات القصيدة ينقحها ويعدلها. عمل القهوة وطريقة إعدادها وسكبها تسمى عندهم "نوماس" لأنها تعكس ذوق الشخص ولباقته واتزانه؛ إنها مصدر فخر واعتزاز للشاعر تماماً كما هي الحال بالنسبة لنظم الشعر. لذا لا يستغرب أن يتفنن شعراء النبط في وصف القهوة ويخصصوا قصائد كاملة لهذا الغرض.

ومجالس القهوة هي المنتديات التي تروى فيها السوالف والأشعار، خصوصا مجالس الشيوخ والأعيان. كلما ضم مجلس من المجالس شاعرا أو راوية معروفا فإن الحضور سوف يتحلقون حوله يطلبون منه أن يتحفهم بما لديه. في مثل هذه المناسبة يجلس صاحب البيت خلف موقد النار ليبقيها مشتعلة ولينشغل بإعداد القهوة لضيوفه. وإلى يساره يجلس عادة أحد أبنائه أو أحد معاونيه الذي يناوله الحطب وآنية القهوة ومستلزمات إعدادها ويساعده في حمس البن وسحنه بالهاون، ثم سحن الهيل مع شيء من الزباد والزعفران والقرنفل الذي يضاف للقهوة بكميات قليلة لا تتعدى القبضة الصغيرة بين الإبهام والشاهد. ويجلس الضيوف مرتبين حسب مقاماتهم، بحيث يجلس الضيوف المهمين في الصدر عند موقد النار بالقرب من صاحب البيت، وهؤلاء هم الذين يبدأ بهم الساقي. أما الضيوف الأقل شأنا فيجلسون في طرف المجلس.

ومن إسهامات شعراء النبط استخلاصهم لما في إعداد القهوة من شعائر طقوسية ودلالات رمزية وإدماج ذلك في مقدمة القصيدة كجزء من أهم أجزائها. الحيز الذي تحتله القهوة في القصيدة النبطية لا يقل عن الحيز الذي تحتله الناقة في موضوع الرحلة، فوصفوا طريقة إعدادها من إضرام النار مرورا بحمس البن ودقه حتى سكب القهوة وتذوقها. ويسمّون القهوة "كيف" لما لها من تأثير على المزاج وشحذ الذهن. ويسمونها أيضا "مونّسِه" لأنها تجلب الأنس والبهجة وتساعد على كسر الحواجز بين المعزّب والضيوف الذين يبتهجون لرؤية النار تضيء ظلمة الليل، وسماع قرقعة الفناجيل وإيقاعات الهاون التي تطرد وحشة الصحراء، وشم رائحة دخان الغضا الزكية، وشم رائحة البن وهو يحترق، ورائحة البهار وهو يسحق في الهاون، ورائحة الدلة وهي تفوح. كل هذه أحاسيس تبعث على النشوة والأنس والكيف والتبسط وانطلاق اللسان بالكلام والسوالف والشعر الجميل. وكثير من الشعراء يفتخر بنجره الذي يتجمع على صوته الضيوف من مسافات بعيدة. الهاون الذي لا يفتر صوته والنار التي لا تنطفئ علامتان من علامات الكرم البارزة.

يشكل إعداد القهوة وتقديمها جزءا مهما من طقوس الضيافة في الصحراء ومراسيم الاحتفاء بالضيوف ومؤانستهم. إذا رأى الرجل ضيوفا خف إليهم ليحييهم ويدعوهم إلى بيته. وحالما تبرك رحائلهم "يَحَرْث الوجار ويِطِعّ النار" ويبدأ "يَحَمْس وْيِدِقّ"، ليعد لضيوفه فنجالا من البن طيب المذاق يشبه في جمال لونه الأشقر الخضاب على معصم فتاة جميلة، فنجال "يِقِعْد الراس ويَطِرْد النعاس". ومن مكملات الرجولة حذق صنع القهوة وتقديمها. يتطلب الحمس تركيزا وحذرا حتى لا تحترق حبات البن، ودقات الهاون ينبغي لها أن تكون موقعة وعالية ليسمعها الضيوف من مسافات بعيدة. وتقديم القهوة لا يقل خطرا عن إعدادها. إذا "زْهَبَت الدله" يمسكها الساقي بيده الشمال ويرفعها إلى أعلى ليسكب منها القهوة في فناجيل الصين الصغيرة التي يمسكها بيده اليمنى (حذاري من تقديم الفنجال أو تناوله باليد اليسرى!). وتنسكب القهوة من الدلة في الفنجال على شكل خيط حريري رفيع يشبه في رقته ودقته خيط العنكبوت، وإذا اندلق من ثعبة الدلة ووقع في قاعة الفنجال يصدر خريره صوتا عذبا ينهيه الساقي بنقرة خفيفة على الفنجال من رأس ثعبة الدلة. وما ينسكب من القهوة ينبغي ألا يزيد عن قطرات قليلة لا تكاد تغطي قاعة الفنجال. ومن العيب أن تقدم للرجل فنجال البن مملوءا لأن في ذلك، كما يقول تشارلز داوتي، إهانة له وتحقيرا وكأنك تقول له خذ هذا ياهذا اشربه وانصرف سريعا من هنا، أو كما تقول العامة "تِقَذْرَف".

ويتضح لنا مدى تغلغل الطقوسية والرمز في إعداد القهوة العربية وتقديمها بمجرد مقارنتها بالقهوة التركية أو الأمريكية. بينما تتولى النساء في البادية جميع عمليات الطبخ وإعداد الطعام للضيوف نجد أن إعداد القهوة مقصور على الرجال فقط ومن شبه المحرم على النساء الاقتراب من أدوات القهوة، دع عنك إعدادها، أو حتى تناولها.

إضافة إلى الموقع المتميز الذي يحتله موضوع القهوة في بناء القصيدة النبطية فقد خصصت بعض القصائد للقهوة كموضوع مستقل يستحوذ على أبيات القصيدة كلها، مثلها مثل الخمريات. ويختلف إلى حد ما شعراء الحضر عن شعراء البدو في طريقة تناولهم للقهوة كموضوع شعري. نجد الشاعر محمد العبدالله القاضي والشاعر محمد بن مسلم والشاعر ابراهيم بن جعيثن، كنماذج من شعراء الحضر، يتناولون القهوة من زاوية فنية بحتة تقتصر على الكيفية والخطوات التي يتم بها إعدادها، وينتهي الأمر بالشاعر الحضري أن يشرب قهوته لوحده وهو ينظم قصيدته. وقصيدة القاضي في القهوة جميلة لكنه في النهاية يقدمها هدية لعيون فتاة حسناء. لم يتمكن شعراء الحضر أن يستخلصوا من القهوة معنى إنسانيا ورمزا اجتماعيا. أما الشاعر البدوي فإنه وجد في القهوة لغة شعرية جديدة استطاع توظيفها لترسيخ بعض القيم الأساسية التي تتطلبها حياة الصحراء. يقدم الشاعر البدوي الفنجال الأول من الدلة إلى من يستحق المركز الأول من الشجعان والكرماء الذين يجمعهم مجلس شيخ القبيلة. لكنهم يصرفون الفنجال عن الجبان الذي لا يرافقهم في الغزوات. اللئيم والنذل والذليل والجبان والبخيل لا يستحقون الفنجال. وأكبر إهانة يمكن أن توجهها للرجل هي أن تعيّره بأنه "مْعَقّب الفنجال"، أي أن هذا الرجل إذا وصله الساقي يتجاوزه ولا يناوله القهوة لأنه ليس من الرجال الذين يستحقون الفنجال. "ما يستاهل الفنجال" في عرف البدو إلا الرجل الشجاع الذي يحمي الظعينة ويدافع عن الذود ويرعاه في مواطن الخطر حيث يجود العشب، الذي يغزو ويعود بالكسب من القبائل الأخرى، الذي يرهب بصوته الأعداء إذا اعتزى أو انتخى على فرسه في وسط المعركة، الذي يكر مع أول المهاجمين ويحمي ساقة المنهزمين، الذي ينقذ في حومة الوغى الرفيق الذي قُتلت راحلته أو "تَرَدّت" ويفرّق عنه الأعداء، الذي يقطر رمحه دائما من دماء الأعداء. وقبل هؤلاء جميعا الرجل الكريم الذي تتكدس أكوام الرماد أمام بيته عاليا كنثيل البئر المحفور.

والفنجال عندهم له شأن خطير. فإذا كان في صفوف الأعداء فارس يخشون بأسه صبوا فنجال قهوة في مجلس الشيخ أمام جموع القبيلة وقالوا "هذا فنجال فلان، من يشربه؟" وشرب الفنجال بمثابة تعهد والتزام بملاقاة الفارس المذكور في الميدان وقتله، لذا لا يقدم على قبول هذا التحدى إلا شجعان القبيلة وفرسانها المعدودين. وبعدما يعود الفرسان من المعركة توقد النيران وتعد القهوة ويقدم الفنجال الأول للفارس الذي يستحق ذلك بفعله وبلائه في المعركة. وهذا ما قصد إليه شليويح العطاوي في قوله بعد ما انتصروا في كون طلال:

يامسوّي الفنجال خزز مدوخ // وعدّه لابن صلال والجلاوي

من هذه المعطيات علينا أن نفهم قول عمرو بن كلثوم:

صَدَدْتِ الكأسَ عنا أم عمروٍ // وكان الكأسُ مجراها اليمينا

وقول الآخر:

إن كُنْتِ ساقية المدامة أهلها // فاسقي على كرمٍ بني همّام

وأبا ربيعة كلها ومُحلما // سبقا بغاية أمجد الأيام

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>