الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

اللغة

لغة الشعر النبطي والكتابة

الأصوات اللغوية والمقاطع 

التغيرات الطارئة على لهجات وسط الجزيرة

 

سوف نكرس هذا الفصل والذي يليه للبحث في لغة الشعر النبطي وأوزانه لنرى إلى أي مدى يتفق هذا الشعر مع الشعر الجاهلي في قضايا اللغة والعروض وكيف نفسر ما بينهما من اختلافات على هذا الصعيد ونردها إلى عوامل التغير الطبيعية التي تمر بها أي لغة حية في مسيرتها التاريخية عبر الزمن. سوف يتضح لنا من خلال هذين الفصلين أن الاختلاف بين شعر الفصحى والشعر النبطي في اللغة والعروض محكوم بقوانين مطردة ومتسقة إلى حد كبير مما يؤكد علاقة النسب القوية وأن اللاحق منبثق من السابق ومتولد عنه.

 

لغة الشعر النبطي والكتابة

يقسم علماء اللغة ميادين بحثهم إلى أربعة فروع رئيسية هي علم الأصوات وعلم الصرف وعلم النحو وعلم الدلالة. وعلى الرغم من تداخل هذه الفروع فإن كلا منها يشكل تخصصا قائما بذاته له مباحثه وقضاياه. لذا فإنه يصعب علينا بالنسبة للغة الشعر النبطي، أو أي لغة أو لهجة، الإلمام بجميع هذه الفروع لأن ذلك يتطلب الكثير من الوقت والجهد ولا يمكن الإحاطة بها كلها في فصل واحد، بل ولا حتى في كتاب كامل. الذي يهمنا هنا هو طريقة النطق، أي الجانب الصوتي من اللغة الذي يحدد النظام المقطعي الذي تقوم عليه إيقاعية اللغة والأوزان في الشعر النبطي. وحتى داخل هذا الفرع من فروع علم اللغة لا بد لنا من تضييق دائرة البحث زمانيا ومكانيا لنكون أكثر تحديدا. حينما نسلط مجهر البحث اللغوي على لهجات المناطق والقبائل المختلفة التي ينتشر فيها الشعر النبطي نجد أنها رغم ما يبدو لنا من تجانس لغة هذا الشعر لا تخلو من اختلافات في النطق نلاحظها ما بين حقبة زمنية وأخرى وما بين بقعة مكانية وأخرى. ولو حاولنا الإلمام بهذا الموضوع من جميع جوانبه عبر حقب التاريخ المتتابعة وبين كل المناطق والقبائل لطال بنا البحث وتشعب. لذا سوف يتركز حديثنا في هذا الفصل على القضايا الأساسية المشتركة في صوتيات لغة الشعر النبطي التي يتشكل منها البناء المقطعي والتي تشكل قاسما مشتركا بين لهجات مختلف القبائل والمناطق في وسط الجزيرة العربية.

أصوات اللغة وطريقة النطق ترتبطان ارتباطا مباشرا بالكتابة. الحديث عن الأصوات اللغوية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الكتابة وكيفية تدوين النصوص العامية، بما في ذلك نصوص الشعر النبطي. لذا رأينا أنه من المناسب قبل الخوض في المسائل الصوتية أن نبدأ بالحديث عن الطريقة الإملائية الملائمة لكتابة الشعر النبطي بالشكل الذي يساعد على قراءته قراءة سليمة.

من المشاكل التي تواجهنا حينما نحاول تدوين الشعر النبطي ونقله من أفواه الرواة إلى صفحات الكتب كتابة هذا الشعر بطريقة تتفق مع نطقه السليم. فالخط العربي ابتكر لكتابة العربية الفصحى لذلك يرى البعض أنه غير مناسب تماماً لكتابة اللغات الدارجة واللهجات المحكية التي فيها من الحركات والأصوات ما لا يستوعبه الخط العربي بصورته الحالية. ولقد تنبه بعض علماء اللغة والصوتيات في العالم العربي إلى ضرورة ابتكار أبجدية صوتية عربية على غرار الأبجدية الصوتية العالمية International Phonetic Alphabet (IPA) المتعارف عليها في بلاد الغرب. ومن الجهود العربية الرائدة في هذا المجال مقالة الدكتور خليل محمود عساكر "طريقة لكتابة نصوص اللهجات العربية الحديثة بحروف عربية" المنشورة سنة 1955 في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومقالة نجيب إسكندر "صناعة المعاجم والجدول الهجائي الكامل" المنشورة سنة 1980 في مجلة مجمع اللغة الأردني، ومقالة عبد العزيز السويل "نحو ألفبائية صوتية موحدة: اقتراح لعلماء الصوتيات العرب" المنشورة سنة 1986م في مجلة كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

والأبجدية الصوتية تعني إفراد رمز كتابي مستقل لكل صوت لغوي بحيث تعبر الرموز الكتابية تعبيراً دقيقاً عن الأصوات المنطوقة سواء في اللغة الفصيحة أو اللهجات. ولقد ظل الباحثون العرب يعتمدون بحكم الضرورة على الرموز اللاتينية المستخدمة في IPA في تدوين نصوص اللهجات العربية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور السويل في مقالته السابقة الذكر:

إن دراسة اللهجات المحكية أصبحت أمراً واقعاً تحتمه ظروف مجتمعاتنا الراهنة، وهي دراسة يجب أن تتم بلغتنا لا بلغة أجنبية وعلى من يريد معرفتها أن يقرأ عنها بهذه اللغة وإن لم يكن من أهلها فواجبه تعلمها. أما إن كان القارئ من أهلها والعالم من أهلها فكتابتها بغير العربية غير وارد أصلاً. وإذا اتفقنا على ضرورة كتابة دراسات وأبحاث اللهجات العربية بلغة عربية فليس من المعقول رصد نطقها بحروف لاتينية خاصة وأن لغة البحث قابلة لاستيعاب ذلك، بل قد تفوق اللغة اللاتينية بهذه المقدرة. ولا ينكر أحد أهمية دراسة المأثورات الشعبية من أشعار وحكم وأمثال وأساطير وحكايات شعبية. وتلك بالفعل مواضيع دراسات مكتوبة باللغة العربية ولكنها تعاني من ضبط الشكل وصعوبة تحديد النطق مضافاً إلى ذلك اختلاف لهجات القراء مما يفسد على الكاتب فكرته بل يعقد مهمته. وليس إلى ضبط نطق هذه اللهجات من سبيل إلا الاتفاق على ألفبائية صوتية. (السويل 1986: 235).

ثم يضيف الدكتور السويل قائلاً:

لقد أصبح على العربية أن تساير العصر وتنهض بمطالب الحياة العلمية التي تقوم على الدقة والوضوح. ولسنا نطالب هنا بإبطال الألفبائية العربية بل نقترح ألفبائية صوتية مساندة لها ربما اقتصر استخدامها على المجالات العلمية التي تقصر الألفبائية الأصلية عن الوفاء بها. وليس هذا بدعا أو جديدا فمعروف أن الألفبائية العربية لم تكن بصورتها القديمة منقوطة ولكن علماء العربية استحدثوا التنقيط للتمييز بين الحروف المتشابهة في صورتها والمختلفة في لفظها. وذلك لما اتسع الأمر وزاد الدخيل وقل الحس اللغوي عند متكلميها، غير أن ما نقترحه الآن ليس بحجم ولا بتأثير ذلك التعديل الذي استحدثه الأوائل وجعلوه جزءا لا يتجزأ من الحروف الهجائية نفسها. ومن يدري فلعل الحاجة تدعو إلى شيء من ذلك في المستقبل. ومثال آخر هو ما اقترحه الخليل بن أحمد عندما ابتدع العلامات الخاصة بالحركات. فقد فتحت هذه الإضافة آفاقاً عظيمة لم يكن للكتابة العربية أن تعايش كل عصور التطور التي مرت بها اللغة لولاها. ولكن أقرب مثال لما نقترحه الآن هو علم التجويد. فقد استخدم علماء التجويد رموزاً معينة للتدليل على الظواهر الصوتية المختلفة كالإمالة والتفخيم والترقيق والوقف وغيرها. (السويل 1986: 238).

ويورد السويل في مقالته بعض الشروط والمواصفات التي يرى ضرورة توفرها في الأبجدية الصوتية العربية. وأهم هذه الشروط أن تكون الرموز الصوتية المقترحة متطابقة مع الأبجدية العربية الموجودة الآن قدر الإمكان بحيث يراعى استعمال كل حرف للصوت الذي يرمز له إلا في حالة وجود أصوات لايوجد لها رموز فينبغي ابتكار رموز جديدة لها. وهذه الرموز المبتكرة لابد أن تكون منسجمة مع شكل الحروف العربية القائمة وأن تتواءم مع نظام الكتابة العربية. ومن مواصفات الكتابة الصوتية توحيد الرموز والقضاء على الازدواجية في الكتابة بحيث لا يرمز الحرف الواحد لأكثر من صوت واحد ولا يرمز للصوت الواحد بأكثر من حرف واحد. وهذا سيؤدي، كما يقترح الدكتور السويل، إلى:

1/ كتابة الهمزة على شكل واحد بدلاً من كتابتها على السطر أو الألف أو الواو أو الياء.

2/ كتابة التاء المربوطة والتاء المفتوحة بطريقة واحدة، وكذلك الحال بالنسبة للألف الطويلة والألف القصيرة وبالنسبة للنون والتنوين.

3/ فك المشدد وكتابة الحرف مرتين متتاليتين بدلاً من كتابته مرة واحدة وفوقه شدة.

لا شك أن استحداث أبجدية صوتية بحروف عربية أمر تحتمه ضرورات البحث العلمي في المجال اللغوي الواسع. لكن قراءة الكتابة الصوتية، فيما لو وجدت، أمر غير ميسر لغير المختصين في هذا المجال لما تتسم به من كثرة الرموز وتعقيدها مما يجعلها صعبة القراءة وباهظة التكاليف في الطباعة. لذلك فإنه لابد من حل وسط في التعامل مع نصوص الأدب الشعبي يراعى فيه عاملان متنازعان هما:

1/ الملاءمة قدر المستطاع بين النطق وطريقة التدوين حتى يستطيع من لا يتكلم اللهجة المكتوبة قراءتها ونطقها نطقاً صحيحاً ولو بصورة تقريبية.

2/ في حالة تعديل الخط لملاءمة النطق يجب أن لا نجحف ونشتط في هذه التعديلات بل يلزمنا قدر الإمكان مراعاة صورة الخط العربي الصحيح والحفاظ على الشكل الفصيح للكلمات العامية حتى يسهل على القارئ رد هذه الكلمات إلى أصلها الفصيح واستنباط معانيها.

هذا الحل الوسط الذي اقترحه يتفق مع طريقة الكتابة الاشتقاقية التي وصفها خليل محمود عساكر في مقالته السالفة الذكر بقوله إنها

تحافظ ما أمكن على صورة اللفظ في اللغة الفصحى فتكتبه على هيئة تتراءى فيها صورة اللفظ في اللغة الفصحى ويتضح معها اشتقاقه ثم تحافظ في الوقت نفسه على تصوير نطقه في الكتابة تصويراً صحيحاً ينظر إلى الأصل في غالب الأحيان. (عساكر 1955: 178)

الكتابة الاشتقاقية، مثلها مثل الكتابة الصوتية، لابد أن تكون مبنية على تصور صحيح لنطق الشعر النبطي وعلى معرفة حقيقية بعلم الاشتقاق وعلم الأصوات اللغوية واللهجات، لكنها تتميز عن الكتابة الصوتية بأنها أقرب إلى إدراك القارئ العادي لأنها تعني الاستمرار في استخدام الأبجدية العربية بوضعها الراهن. الأبجدية العربية قادرة إلى حد لا بأس به على سد حاجتنا لكتابة الشعرالنبطي ولا حاجة بنا إلى ابتكار أبجدية جديدة أو طريقة مختلفة للكتابة لهذا الغرض. الأبجدية العربية الراهنة قادرة على رسم الصوت بدقة كافية دون أن تطمس تلك العلاقة التاريخية بين العامي والفصيح ودون أن تغلف العلاقات الاشتقاقية بين الكلمات؛ أي أنها تعكس النطق العامي وفي الوقت نفسه تنم عن صورة اللفظ الأصلية في اللغة الفصحى وتكشف عن اشتقاقه.

الصعوبات التي نواجهها في قراءة مخطوطات الشعر النبطي وما تلفظ به المطابع من دواوين شعرية ليس مردها إلى عدم موائمة الأبجدية العربية لكتابة الشعر النبطي وإنما إلى عدم الدقة في الكتابة وعدم العناية بالشكل وعدم الاتفاق على منهج إملائي موحد في الكتابة، وإلى كون الغالبية من النساخ والمؤلفين من أشباه الأميين الذين يجهلون قواعد الكتابة الصحيحة ويرتكبون أخطاء إملائية شنيعة نوهنا عنها في غير هذا الموضع. في كثير من الأحيان نجد دواوين الشعر النبطي تعاني من رداءة الطباعة وكثرة الأخطاء وخلوها من التعليقات والحواشي الضرورية لفهم القصيدة. بعض الأخطاء الإملائية أو المطبعية قد تغتفر بالنسبة للغة الفصحى لأن عامة القراء العرب لديهم إلمام بالفصحى يمكنهم من اكتشاف هذه الأخطاء العابرة وتصحيحها. أما في حالة النص العامي فإنه لا بد من الدقة والانضباط. الأخطاء الإملائية لا تغتفر في كتابة النص العامي لأن فهم النص ونطقه بطريقة صحيحة ووزن مستقيم يعتمد على دقة التدوين، خصوصا وأن القارئ الذي لا تتوفر له الخلفية اللغوية الكافية عن الشعر النبطي مثلا قد لا يستطيع تصحيح الخطأ الطباعي عن طريق التخمين والاجتهاد، كما هو الحال بالنسبة للشعر الفصيح.

الدقة في كتابة الشعر النبطي ستساعد بدون شك على نطقه نطقاً صحيحاً وفهم معانيه. ولكن لا بد من التأكيد هنا على أنه مهما كان الرسم دقيقا ومهما كانت الحروف أمينة في نقل الأصوات اللغوية تبقى الكتابة وحدها غير كافية لتوصيل اللغة إلى من لا يعرفها أصلا، وإلا لسهل علينا قراءة اللغات الأجنبية التي لا نعرفها. الكتابة ليست إلا وسيلة تذكير تذكرنا بكلمات وعبارات نعرفها أصلا على المستوى الشفهي المنطوق ونختزنها في مستودعاتنا العقلية كذخيرة لغوية، ألا ترى أننا لا نستطيع دائما نطق الكلمات ذات الأصل الأجنبي بمجرد كتابتها بحروف عربية إن لم نكن أصلا نعرف طريقة نطقها بلغتها الأصلية. كما أن الأبجدية، أي أبجدية، لوحدها قاصرة عن أداء مهمتها ما لم تصحبها قواعد إملائية وصوتية يتقيد بها الكاتب ويسترشد بها القارئ، وإلا فما الفائدة من دروس الخط والإملاء والقراءة والتجويد؟! والدليل على أهمية مثل هذه القواعد أن العربي غير الضليع بقواعد النحو والإملاء في العربية الفصحى لن يتمكن من قراءتها قراءة صحيحة حتى لو كان شخصا متعلما.

وعلينا أن نتذكر أن الكتابة ليست إلا الخطوة الأولى نحو الولوج إلى عالم الشعر النبطي الفسيح. استيعاب هذا الموروث الشعري لا يتوقف عند حد قراءته قراءة صحيحة ونطق المفردات نطقا سليما بل لا بد أيضاً من استيعاب النسيج اللغوي للقصيدة النبطية ومن وجود تصور واضح وشامل للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي يستمد منه الشاعر النبطي صوره وأخيلته. يستحيل مثلا على شخص غريب عن محيط الشعر النبطي أن يمسك ديواناً ويقرأ فيه ويأمل من وراء ذلك أن يسبر أغوار هذا الشعر ويكتشف أبعاده الحضارية وأسراره الجمالية. وتزداد العقبات التي تعيق النطق الصحيح والفهم السليم بازدياد الهوة الحضارية التي تفصل القارئ عن أجواء الشعر النبطي. ومن هنا تأتي أهمية إضافة الشروحات والإيضاحات والهوامش الضرورية التي تنير السبيل أمام القارئ وتهديه إلى استيعاب الإشارات والمجازات والإيحاءات والرموز والصور الشعرية التي تزخر بها القصيدة النبطية. الشعر النبطي، مثله مثل الشعر الجاهلي أو أي موروث شعري آخر، يحتاج فهمه إلى دراسة ودربة ومران وتمرس.

والشعر النبطي في غالبيته ليس شعراً يقرأ ويكتب بل هو شعر شفهي ينشد ويسمع في المنتديات والمجالس ويغنى به على الطبل والربابة ويحدى به على الخيل والإبل. ولا مناص لمن يريد فهمه فهماً عميقاً ويعايش أجواءه الحقيقية من الجلوس إلى رواته المعمرين للتحدث معهم عن طريقة نظمه وإلقائه والإصغاء إليهم يحكون الوقائع البطولية المثيرة ويستشهدون بالأبيات الشعرية التي قيلت في هذه المناسبات. الرواة المعمرون هم الأقدر على تفهم الشعر النبطي بصوره وأخيلته ومفرداته لأنهم أدركوا شفق الحياة التي استمد منها مادته وأغراضه. ويصعب فهم الشعر النبطي دون الجلوس إلى هؤلاء الرواة لمناقشتهم حول بعض الإيماءات والتلميحات والرموز والصور الشعرية التي يستعصى إدراكها على معظم الناس في وقتنا هذا، وسؤالهم عن بعض المفردات الغريبة التي اندثرت باندثار مسمياتها ومناسباتها. الشعر النبطي مرآة اجتماعية ووثيقة تاريخية تسجل وقائع وممارسات وأساليب في الحياة قد اندثرت، ولم يعد يعيها جيلنا الحاضر. فجلاء هذه الغوامض ضروري لتذوق الشعر النبطي والغوص إلى أعماقه وتقديره حق قدره. فهم القصيدة النبطية لا يتوقف على فهم مفرداتها حسب بل أيضاً على إيجاد تصور واضح وشامل للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي يستمد منه الشاعر النبطي صوره وأخيلته. أي أننا في تفسيرنا للقصيدة النبطية لابد أن نضيف البعد الثقافي والاجتماعي إلى البعد اللغوي.

وإلقاء القصائد في سياقها الشفهي لا يقتصر على الشعر بل يتضمن أحيانا نصوصاً نثرية "سوالف" قد لا تقل في قيمتها اللغوية والأدبية عن النصوص الشعرية، القصيدة النبطية عادة وليدة ظروف اجتماعية وأحداث تاريخية محددة لذا نجد الرواة الجيدين حينما يتحدثون في المجالس يراوحون بين الشعر والقصص وقبل كل قصيدة يسردون الأحداث التي أدت إلى نظمها أو ما يسمى مناسبة القصيدة أو السالفة. والسالفة على لسان الراوية المتميز لا تقل في كثير من الأحيان عن القصيدة من الناحية الفنية والبلاغية ومن حيث القيمة اللغوية وقد تتضمن معلومات قيمة عن مجتمع الجزيرة وحضارتها وتاريخها في العصور الماضية. وفي كثير من الأحيان تشكل السالفة جزءاً عضوياً من القصيدة من الناحيتين الفنية والتاريخية وعدم إيراد السالفة في تلك الحالة يترتب عليه خلل جوهري يعيق عملية الفهم والتذوق. ومن يطلع على كتاب أبطال من الصحراء للمرحوم محمد الأحمد السديري يدرك البعد الفني والمعرفي الذي أضفته القصص على فهم القصائد وتذوقها.

ولكن هل نكتب سالفة القصيدة بالفصحى أم العامية؟ إذا كان الراوية فصيحاً بليغاً وسالفته جيدة الحبك والأداء تشكل نصاً رفيع المستوى من الناحية الفنية واللغوية فأرى أنه يستحسن تدوينها ونشرها بلهجة الراوي الأصلية. هذا سوف يوفر لعلماء اللغة ودارسي اللهجات نصوصاً حية ناطقة مما يسهل مهمتهم في دراسة لهجات الجزيرة العربية وعلاقتها باللهجات القديمة. أما إذا كانت قيمة السالفة تتلخص فقط فيما تلقيه من ضوء على جو القصيدة وما تحتويه من حقائق اجتماعية ومعلومات تاريخية فإنه يستحسن نقلها إلى العربية الفصحى مع الاحتفاظ ببعض التعابير العامية ذات القيمة اللغوية والفنية مثل الأمثال والأسجاع والاستعارات البلاغية والاصطلاحات الفنية الدقيقة. ومما يؤسف له أن علماء اللغة العرب حينما دشّنوا مشروعهم الضخم لجمع الشعر الجاهلي لم ينتبهوا إلى تدوين سوالف الجاهليين وسباحينهم وأحاديثهم اليومية كما كانوا يؤدونها ويتلفظون بها في حياتهم العادية. وحيث أن قواعد اللغة العربية أسست على الشواهد الشعرية والأمثال جاءت منحازة إلى لغة الشعر ولغة الألفاظ المقولبة والصيغ المجمدة أكثر من لغة النثر المرسل والحديث العادي.

لكي تنهض الأبجدية العربية بمهمة تدوين النص الشعبي لا بد من استخدامها بدقة متناهية وفق ضوابط إملائية يتم الاتفاق عليها وتأخذ في الحسبان التغيرات الصوتية التي طرأت على النطق العامي وتوضح الفرق بينه وبين الفصيح. وللدكتور غسان الحسن (1990، ج1: 9-13) بعض الآراء الجيدة والصائبة في هذا الخصوص. وسأورد الآن عددا من القواعد الإملائية التي لو تم الاتفاق عليها والالتزام بها في كتابة الشعر النبطي لاستطاعت الأبجدية العربية أن تصوره أحسن تصوير. هذه القواعد الإملائية مؤسسة على دراسة الخواص الصوتية في لغة الشعر النبطي، تلك الخواص التي سنتحدث عنها بشيء من التفصيل بعد قليل. والقواعد التي ينبغي مراعاتها في كتابة الشعر النبطي، والتي يمكن إضافة المزيد عليها حسبما تمليه الحاجة وتثبت الممارسة جدواه، هي:

** التدقيق في النصوص وتصحيح الأخطاء الإملائية والطباعية وضبطها وتشكيلها بدقة متناهية من أجل إبراز السمات الصوتية ذات الدلالات المعنوية والإيقاعية مثل السكون والشدة والتنوين والتي قد يؤدي اهمالها أو الخطأ فيها إلى خلل في المعنى أو الوزن الشعري.

** أما فيما يتعلق بعلامات الترقيم من تنقيط وتقويس وفواصل وعلامات استفهام وتعجب فإنه ينبغي استخدامها بحذر وتوظيفها بما يخدم النطق والمعنى.

** في كثير من دواوين الشعر النبطي نجد أن الكلمات متراصة بحيث يصعب فصلها عن بعضها البعض، أو نجد أن حرفاً أو مقطعاً من كلمة ما ملاصق للكلمة المجاورة بينما تفصله مساحة عن الكلمة التي هو منها مما يوهم القارئ أنه يقرأ كلاماً ليس له معنى. ولتلافي مثل هذه المشكلة يستحسن رص حروف الكلمة الواحدة إلى بعضها البعض وترك مساحة ملحوظة بين كل كلمة والتي تليها. وللتمثيل على ذلك انظر إلى هذه الطريقة الكتابية المخلة بالمعنى والتي اخترناها من أحد مصادر الشعر النبطي "مع  دعاجين  سرواحا يفينه" والتي ينبغي كتابتها هكذا "معَ  دعاجينٍ  سروا  حايفينه". وأنظر كذلك إلى كتابة هذا الشطر "ادران  حسا  دالملاسا  هجينه" والذي ينبغي كتابته كتابة صحيحة هكذا "ادر  ان  حساد  الملا  ساهجينه".

** المحافظة ما أمكن على الشكل الكتابي الفصيح للكلمة مع مراعاة النطق العامي بالقدر الذي لا يؤدي إلى الالتباس. فكتابة كلمة "الأوجاع" بالشكل الفصيح ونطقها نطقا فصيحا قد يؤدي إلى خلل في الوزن الموسيقي للبيت، لكن لو كتبناها "لوجاع" كما تنطقها بعض العاميات فإن هذا قد يؤدي إلى اللبس، وقد يكون الحل الأمثل هو كتابتها هكذا: "لاوْجاع" (الحسن 1990، ج1: 11-12).

** تجنب الأخطاء الإملائية التي يقع فيها البعض إما عن جهل أو بقصد تقريب النطق العامي للقارئ، مثل وصل حروف الجر والأدوات بالكلمة التي تليها (الحسن 1990، ج1: 10-11).

** تستخدم الحركات في التنوين، ولا يجوز استخدام النون بدلا من علامة التنوين المعروفة، كما يقترح الصوتيون وكما يفعل أشباه الأميين من الجامعين الذين لا يحسنون الكتابة ولا يعرفون قواعد الإملاء.

** خلافا لموقف أصحاب الأبجدية الصوتية أرى أنه ينبغي التمييز في كتابة الشعر النبطي بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة وبين الضاد والظاء لأهمية ذلك في توضيح الأصل الاشتقاقي للكلمة ومكونات جذرها الثلاثي.

** ولنفس السبب ينبغي التفريق في الكتابة بين الألف المقصورة والألف الممدودة حتى لا يحدث لبس بين "لا" النافية، والتي يلزم كتابتها بالألف الممدودة، وبين "لى" التي ينبغي كتابتها بالألف المقصورة لأنها اختزال لكلمة "إلى" التي تقابل في معناها "إذا" الفصحى. وعلى هذا الأساس فإن الصواب كتابة الألف الأخيرة في عبارة "ياما حلى" ألفا مقصورة لأنها مشتقة من "ما أحلى"، وقس على ذلك "عطى" من "أعطى" وغيرها من الأمثلة.

** الأداة الفصيحة "إذا" طرأت عليها تحولات في العامية فهي تظهر أحيانا "إلى" وأحيانا "يا"، وهذه الأخيرة ينبغي فصلها كتابيا عن الكلمة اللاحقة لتحاشي أي لبس قد يحدث مع أداة النداء التي عادة تكتب ملتصقة بالكلمة اللاحقة.

** تحاشي كتابة الكسرة المشبعة في أواخر الأبيات ياء حتى لا يلتبس المعنى، فكلمة "شمالِ" مثلا تعني الاتجاه المعروف بينما "شمالي" تعني يدي اليسرى، وكلمة "سالِ" تعني جرى وتدفق بينما "سالي" تعني خالي البال ولاهٍ وغير منتبه.

** تكتب واو الجماعة مع الألف كما في كلمة "قامَوا" والألف في هذا الموضع لها قيمة معنوية لا صوتية وتسمى الألف الفارقة لأنها تفرق واو الجماعة عن واو العلة.

** تكاد تختفي الهمزة تماما من لهجات الجزيرة العربية ويستحسن عدم استخدامها في كتابة الشعر النبطي إلا حينما تكون موجودة فعلاً، وهذا نادراً ما يحدث.

** من السمات التي تتميز بها اللهجات عن الفصحى الابتداء بساكن والتقاء السواكن في وسط الكلمة. في حالة الابتداء بساكن أرى أنه من الأنسب وضع علامة سكون على الحرف الأول من الكلمة بدلاً من كتابة الألف في بداية الكلمة، كما يفعل البعض، لأن الألف ليست في أصل الكلمة وإنما تأتي كمجرد ضرورة عضلية في حالة ابتداء النطق بساكن. فمثلاً بدلاً من كتابة هذه الكلمة هكذا "افلان" أرى كتابتها هكذا "فْــلان". وكتابة الألف بدلا من السكون تؤدي أحيانا إلى الغموض واضطراب المعنى. فلو كتبنا مثلا اسم الإشارة المسبوق بواو العطف الساكنة "وْهذا" هكذا "اوهذا" فقد يتوهم القارئ أن الأداة التي تسبق اسم الإشارة هي الحرف "أو" الذي من معانيه الشك والإبهام والتخيير والتقسيم.

** أما التقاء السواكن في وسط الكلمة فإن ذلك أكثر ما ينطبق على تصريفات صيغة "فعّل" وفي بعض صيغ التصغير. وفي مثل هذه الحالات أرى أن يوضع على الحرف المشدد شدة بدون حركة ثم توضع الحركة المناسبة على الحرف الذي يلي ذلك إن لزم الأمر، كما في قولنا "خبّرِتن" (= أخبرتني)، قريّــبــــِه (= قريبة)، مروّحين (= ذاهبون، منصرفون). وقد يلتقي في وسط الكلمة ثلاث سواكن مختلفة مما يستدعي وضع علامة السكون على الأول والثاني منها مثل "مْهَنْدْسين"، مسْتَرْخْصه".

** يستخدم الرمز الأبجدي "ق" للإشارة لا إلى صوت القاف الفصيحة، التي اختفت من عامية الجزيرة، بل إلى صوت القاف البدوية التي تنطق مثل الجيم القاهرية تماما.

** أما فيما يتعلق بصوتي القاف البدوية والكاف والاختلاف في نطقهما تبعاً لاختلاف البيئة الصوتية (كما سنفصل القول فيه فيما بعد) فأعتقد أنه لا داعي لتحميل الكتابة الاشتقاقية بالرموز لتوضيح هذه الفروق في النطق لأنها فروق لا تؤثر في الوزن والمعنى ولذا يمكن التغاضي عنها وترك نطقها لسليقة القارئ.

** بدلا من إثقال الكتابة بالرموز الصوتية يمكننا التنويه مثلا بأن الضاد تنطق مثل الظاء وأن الحركات المزجية المركبة (كما في قولنا "بَيت" و"قَوس") تحولت في العامية إلى حركات طويلة. كما يمكننا بلورة قواعد صوتية تقول بأن الصوت الفلاني (مثل القاف والكاف) يتغير نطقه ليصبح كذا إذا تلته حركة كذا. وسوف نتطرق لهذا اللون من التقعيد الصوتي في الأسطر اللاحقة.

أعلي 

الأصوات اللغوية والمقاطع

لو تفحصنا معجم الشعر النبطي لوجدنا مفرداته في غالبيتها لا تختلف في شيء عن الشعر العربي ولوجدنا أن الكثير من المصطلحات الدقيقة والكلمات التي كانت تدور على ألسنة الناس في الجاهلية وصدر الإسلام لا تزال حية قيد الاستعمال مع احتفاظها بمعانيها ودلالاتها الأصلية. إلا أن هذه المفردات اعتورتها بعض التحولات في بنيتها الصوتية والصرفية، وهذا ما نعنيه بقولنا إن الكلمات العامية لا تختلف عن الفصيحة إلا في طريقة النطق. وسوف نرى أن بعض التغيرات الصوتية أدت إلى تحويرات في البنية المقطعية للكلمة syllabic structure (وهذا ما ستتضح لنا كيفيته أدناه) مما نتج عنه تغيرات ملحوظة في أوزان الشعر النبطي. البنية الإيقاعية في الشعر تعتمد أساسا على البنية الإيقاعية للكلام. هذه البنية الإيقاعية تفصح عن نفسها من خلال تقطيع الكلام، أي تجزئة الكلمات إلى مكوناتها الأصغر، وهي المقاطع الطويلة والقصيرة. سوف نرى فيما بعد أن بنية الوزن والإيقاع في الشعر النبطي تقوم أساساً على طريقة ترتيب المقاطع الصوتية في الكلمات التي يتألف منها شطر البيت الشعري وعلى نسبة الطويل منها إلى القصير. ومن هنا كان لا بد من التنبيه على مفهوم المقطع الصوتي بأشكاله المختلفة لأنه هو الأداة التي بها نستطيع تقطيع أشطر القصيدة النبطية لمعرفة وزنها وبحرها. وفهم الطريقة الصحيحة لتقطيع الكلام ومن ثم معرفة الأوزان الشعرية يتطلب منا الخوض في بعض التفاصيل اللغوية في مجال علم الأصوات واللهجات وفي كيفية التغيرات الصوتية التي مايزت بين العامية والفصحى. لذا فإنه قبل البدء في الحديث عن طريقة تقطيع الأبيات في الشعر النبطي وعن بحوره وأوزانه وعلاقتها ببحور الشعر الفصيح وأوزانه لا بد لنا من التوقف عند بعض الظواهر الصوتية وتغيرات النطق التي تطرأ على الكلمات في انتقالها من الفصحى إلى العامية ونرصد مدى تأثير ذلك على تقطيع الكلام. وهذا بدوره يتطلب منا أولا أن نعرّف الصوت اللغوي ونحدد ماهيته ونتعرف على طبيعته.

الصوت هو الوسيط لنقل المعنى اللغوي من إنسان لآخر، هو مادة اللغة مثلما هو مادة الموسيقى والغناء أو مثلما الحركات مادة الرقص أو الخطوط والألوان مادة الرسم. ويحدث الصوت حينما يمر تيار الهواء الخارج من الرئتين أثناء عملية الزفير عبر القصبة الهوائية (الرغامى) إلى الحنجرة (صندوق الصوت) فالحلق (حيث تتصل القصبة الهوائية بالمريء) فالأنف أو الفم منتهيا بالأسنان والشفتين. وحينما يمر الصوت بالحنجرة يخترق الفراغ الذي يقع بين الوترين الصوتيين اللذين ينفتحان وينغلقان كالصمام. ويكون الصوت مجهورا إذا صاحبه تذبذب الوترين الصوتيين نتيجة ضغط الهواء المندفع من الرئتين، أما إذا اتسعت فتحة المزمار بحيث يبتعد الوتران الصوتيان أحدهما عن الآخر ولا يتذبذبان كان الصوت مهموسا. ويتشكل الصوت حينما يعبر الهواء من الرئتين عبر البلعوم والحنجرة فيحدث رنينا في فجوات الفم والأنف التي تتغير أشكالها وأحجامها حسب حركات أعضاء النطق.

الصوت اللغوي عبارة عن مركب من السمات يحددها؛ 1) مكان تحقيق الصوت، أو ما يسميه علماؤنا مخارج الحروف، 2) كيفية تحقيق الصوت، 3) أعضاء النطق التي تعمل على تحقيقه، 4) إذا كان الصوت مهموسا أو مجهورا. هذه هي السمات الأساسية التي تمايز بين الأصوات اللغوية. فلو أخذنا الصوت "ب" مثلا فإنه يتحقق عند نهاية فجوة الفم الأمامية بواسطة إطباق الشفتين وحبس النفس لفترة جزء من الثانية ثم إطلاقه ليحدث انفجارا هو الصوت ويكون مصحوبا بذبذبة الأوتار الصوتية في الحنجرة، أي أنه صوت مجهور. أما الصوت "ف" فيتحقق عن طريق التئام الشفة السفلى بالأسنان العليا فيضيق مجرى النفس لكنه لا ينحبس تماما لذلك يسمى صوتا احتكاكيا ولأنه غير مصحوب بذبذبة في الأوتار الصوتية فهو صوت مهموس.

وقد يتفق الصوتان في جميع السمات ما عدا سمة واحدة هي التي تميز فيما بينهما وتؤدي إلى اختلاف في المعنى. يتفق الصوتان "ب" و"م" مثلا في أنهما صوتان شفويان، عدا أن تحقيق الثاني يصاحبه انفتاح اللهاة مما يؤدي إلى تسرب الهواء إلى التجويف الخيشومي فيحدث غنة، لذا يسمى صوتا أنفيا؛ هذه السمة الفارقة هي التي تؤدي إلى اختلاف المعنى بين كلمة "بارد" وكلمة "مارد". كما يتفق الصوت "ث" مع الصوت "ذ" في عدد من السمات. كلاهما صوتان احتكاكيان ناتجان عن احتكاك ذلقة اللسان بالأسنان العليا، لكنهما يختلفان في أن الأول يصاحب النطق به تذبذب الحبال الصوتية لذا سميناه مجهورا بينما الثاني لا يصاحب نطقه هذا التذبذب لذا سميناه مهموسا، ومن هنا جاء الفرق في المعنى بين "ذَرّ" و"ثَرّ". ويتفق الصوت "س" مع الصوت "ز" حيث أن كليهما صوت احتكاكي يحدث من جراء احتكاك أسلة اللسان بمغارز الثنايا العليا، إلا أن الأول مهموس والثاني مجهور. كذلك "ت" و"د" صوتان انفجاريان ناتجان عن مرور ذلقة اللسان باللثة، إلا أن الأول مهموس والثاني مجهور.

لا بد لكل صوت لغوي أن يتميز عن أي صوت آخر ويفترق عنه ولو بسمة واحدة على الأقل. وليس أي فرق فيزيائي بين صوت وآخر هو فرقا تمايزيا وظيفيا ذو قيمة لغوية. الفروق التمايزية هي الفروق التي ينتج عنها تباين في المعنى بين الكلمات وتكون نابعة من معطيات النسق الفونولوجي (الصوتي) في اللغة. الوجود المادي الفيزيائي لأي سمة صوتية شيء وتوظيف هذا السمة كسمة فارقة شيء آخر. وجود الفارق الحسي لا يعني شيئاً ذا بال إن لم يتم توظيفه حسياً في تأسيس فوارق معنوية وتمايزات دلالية. وهوية الصوت اللغوي لا تتحدد أصلاً في مادة الصوت الفيزيائية الحادثة من جراء التلفظ بالكلمات، بل في التمايزات التي تشكل الحد الأدنى من الفارق الصوتي الذي بواسطته نستطيع التفريق بين معاني كلمات مثل "زار"، "سار"، "صار". هذه الكلمات الثلاث تختلف فيما بينها في المعنى ولا يوجد بينها أي فارق صوتي عدا ما هو متعلق بالأصوات الأولى فيها، لذا حددنا هذه الأصوات الثلاثة كأصوات مستقلة هي "ز"، "س"، "ص".

وتختلف الأنساق الفونولوجية من لغة إلى أخرى في اختيار السمات الفارقة التي تميز بها بين أصوات اللغة ومن ثم معاني الكلمات. لكل نسق فروقه التمايزية التي قد لا توجد في غيره من الأنساق ولو وجدت قد لا تؤدي نفس الوظيفة ولا تكون سمة مميزة. تتفق اللغتان العربية والإنجليزية مثلا في تمييزهما بين الصوتين س/ز لكن العربية فقط هي التي توظف سمة الإطباق لتميز بها بين الصوتين س/ص. وتوظف اللغة العربية سمة الاطباق لتميز بها أيضا "ظ" عن "ذ"، "ط" عن "د". وهناك لغات كثيرة من بينها الإنجليزية لا توظف هذه السمة. ولكن الإنجليزية توظف سمة النفسية aspiration لتميز بها  p عن b، وهذه سمة لا توظفها العربية. وعدم توظيف السمة لا يعني عدم وجودها وإنما كل ما يعنيه ذلك أن النظام الصوتي في اللغة المعنية تجاهلها ولم يوظفها كسمة فارقة، ولذا لا يلتفت لها السامع. عدم توظيف سمة الإطباق في الإنجليزية مثلا لم يمنع من وجود أصوات في هذه اللغة تشبه الصاد العربية كما في الصوت الأول من كلمة sun، أو الصوت الأول من كلمة saw الذي يختلف عن الصوت الأول من كلمة see.

ونتوقف هنا برهة لنوضح الفرق بين الأصوات في الطبيعة والأصوات في اللغة. خذ مثلا الصوت "ب" أو "ن" أو أي صوت لغوي آخر ندركه في أذهاننا دائما على أنه نفس الصوت. لو قسنا بمقاييس التحليل الدقيقة في معامل الاختبار هذا الصوت لوجدنا أن أجهزة التحليل تشير في كل مرة ننطق به إلى أن مادته الفيزيائية تختلف من متكلم إلى آخر بل تختلف عند المتكلم نفسه من لفظ إلى آخر وفقا لطبيعة البيئة الصوتية التي هو فيها. ومن بديهيات التجويد وعلم الأصوات أن الأصوات المتجاورة تقوم بينها أثناء جريانها في اللفظ علاقات تأثير وتأثر، إذ إن كل صوت يدخل في عمليات شد وجذب مع ما قبله وما بعده من الأصوات. ولذلك يختلف تلفظنا بنفس الصوت اللغوي من بيئة لغوية لأخرى. فصوت الباء مثلا في "بير" يختلف نوعا ما عن صوت الباء في "بوق"، أو "بطّه". الأول مرقق والثاني مفخم والثالث متأثر بسمة الإطباق في صوت الطاء. كذلك يختلف نطق النون في كل من المواقع التالية: "انقضى"، "انكسر"، "انشرح"، "انحنى"، "انبثق"، "انفجر". ورغم هذه الاختلافات فإننا نستقبل هذه التحقيقات الصوتية على أنها نفس الصوت اللغوي. الصوت اللغوي ليس حقيقة مادية بقدر ما هو حقيقة ذهنية مشتركة بين من يتحدثون نفس اللغة ويخضعون لنفس النسق اللغوي. الصوت اللغوي داخل النسق الفونولوجي فكرة سيكولوجية مجردة تختلف عن تحقيقات هذا الصوت الكلامية على ألسنة المتحدثين. وهذا شبيه إلى حد ما بالخط. تختلف كتابة الحرف عادة حسب موقعه من أول الكلمة أو وسطها أو نهايتها، كما أن كلاً منا له طريقته الخاصة في الكتابة بحيث أن التشابه التام بين الخطوط أمر مستحيل. بل إن شكل الحرف الواحد يختلف في كل مرة تتم كتابته من قبل الشخص نفسه. بل إن الاختلاف بين الخطوط قد يكون جذريا كالاختلاف بين خطوط النسخ والرقعة والكوفي. ومع ذلك فإن بإمكاننا أن نقرأ خطوط بعضنا البعض ونتفاهم فيما بيننا بواسطة الكتابة.

ويمكن الاستطراد في مقارنة الصوت بالكتابة. التباين في الخطوط وطرق الكتابة من ناسخ لآخر فسح الطريق أمام التغيرات التي طرأت على الكتابة عبر التاريخ. ولقد ابتعد الخط العربي في وضعه الراهن عما كان عليه في بداية عصور التدوين لدرجة صار يتعذر علينا معها قراءة المخطوطات القديمة بسهولة. يتعرض الصوت اللغوي في كل مرة يتحقق فيها لفظيا إلى ضغط من الأصوات المجاورة. هذا الضغط قد يؤدي مع مرور الوقت إلى انحراف الصوت تدريجيا حتى يبتعد عن الأصل ويتحول إلى صوت آخر وينتج عن ذلك ما نسميه بالتغير اللغوي. خذ مثلا سمة الإطباق التي تفشت من الطاء وعبرت إلى السين لتحول الكلمة الفصيحة "سَطّام" إلى "صَطّام" و"سخله" إلى "صخله" و"سنخ" إلى "صنخ" و"وسخ" إلى "وصخ". وقد يتأثر الصوت المجهور بصوت مجاور له مهموس ليصبح مهموسا مثله كأن تتحول كلمة "قَـتَب" الفصيحة إلى "كِـتَب" العامية وكلمة "قَـتَل" إلى "كِـتَل". و"قتاد" إلى "كتاد" وتتحول كلمة "دعص" الفصيحة إلى كلمة "طعس" العامية عن طريق تأثر الصوت المرقق "د" في بداية الكلمة بالصوت المفخم "ص" في آخر الكلمة، وفي نفس الوقت تأثر الصوت المفخم "ص" في آخر الكلمة بالصوت المرقق "د" في أول الكلمة.

وتنقسم الأصوات إلى سواكن consoonants وحركات vowels. وتحدث الأصوات الساكنة والمتحركة نتيجة المراوحة بين انحباس الهواء وانطلاقه في مجرى الصوت. وتفصل الأصوات الساكنة بين الحركات بينما تتيح الحركات فرصة الانتقال من ساكن لآخر. وتنقسم السواكن إلى فئات تبعا لمخارجها وكيفية تحقيقها، منها الانفجارية (وتسمى أيضا الشديدة) التي تحدث من إغلاق مجرى الهواء وحبسه برهة وجيزة لتحدث انطلاقته عند فتح مجراه فرقعة أو انفجارا، ومنها الاحتكاكية (وتسمى أيضا الرخوة) التي تحدث من تضييق مجرى الهواء دون حبسه بالكامل. ومنها الحلقية وهي التي تحدث في الحلق، ومنها المرققة ومنها المفخمة ومنها اللينة، وغير ذلك مما هو معروف عند أهل التجويد.

والحركات منها القصير مثل الفتحة والكسرة والضمة، ومنها الطويل، أو ما نسميه حروف المد، مثل الألف والياء والواو. وتتميز الحركات بأنها أصوات مفتوحة يعبر الهواء أثنائها من خلال فتحة الفم دون حبس أو احتكاك أو أي إعاقة تذكر. وتأخذ الحركة شكلها من شكل تجويف الفم ووضع اللسان أثناء النطق بها. لذلك نسمي الكسرة والياء حركات أمامية لأنها تتشكل من خلال رفع أسلة اللسان قليلا نحو مقدمة الحنك ليضيق مجرى الهواء نوعا ما في مقدمة الفم، ونسمي الضمة والواو حركات خلفية لأن جذع اللسان يتراجع أثناء النطق إلى منطقة البلعوم لتضييق مجرى الهواء قليلا في مؤخرة الفم ويصاحب ذلك ضم الشفتين دون إغلاقهما. ونوضح كيفية حدوث الحركات بهذا الاقتباس من رمضان عبدالتواب:

وتتحدد أنواع الحركات بحركة مقدمة اللسان نحو سقف الحنك، أو حركة مؤخرة اللسان نحو سقف الحنك كذلك؛ فإن كان اللسان مستويا في قاع الفم، مع انحراف قليل في أقصاه نحو أقصى الحنك، وتركت الهواء ينطلق من الرئتين ويهز الأوتار الصوتية وهو مارّ بها، نتج عن ذلك صوت الفتحة (a) فإذا تركت مقدمة اللسان تصعد نحو وسط الحنك الأعلى بحيث يكون الفراغ بينهما كافيا لمرور الهواء، دون أن يحدث في مروره بهذا الوضع أي نحو من الاحتكاك والحفيف، وجعلت الأوتار الصوتية تهتز مع ذلك، نتج صوت الكسرة الخالصة (i)، ولو صعدت مقدمة اللسان أكثر من ذلك، نحو وسط الحنك، بحيث يحدث احتكاك للهواء المار بهذا الوضع، نتج عن ذلك صوت "الياء"؛ ولذلك يعد علماء الأصوات "الياء" صوتاً شبيهاً بالحركة (Semivowel)؛ وذلك لأن وضع مقدمة اللسان مع "الياء" أقرب إلى سقف الحنك، من وضعها مع الكسرة، والفراغ بينهما أقل، بحيث يسمح للهواء المار بالاحتكاك، فيحدث الحفيف الذي يسمع مع صوت "الياء" ولا يسمع مع صوت الكسرة.

وبين وضعي اللسان في صوتي الفتحة والكسرة، أو بمعنى آخر بين وضعه في قاع الفم، وارتفاع مقدمته نحو وسط الحنك بحيث تحدث الكسرة الخالصة - أوضاع كثيرة، تحدث بسببها أنواع متعددة من الحركات، أبرزها في أذهاننا صوت الكسرة الممالة: (e).

أما إذا ارتفع أقصى اللسان نحو سقف الحنك، بحيث لا يحدث للهواء المار بهذه المنطقة أي نوع من الحفيف، مع حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، فإن الصوت الذي ينتج عن ذلك هو صوت الضمة الخالصة: (u)، فإذا ارتفع أقصى اللسان نحو سقف الحنك أكثر من هذا، بحيث يسمح للهواء الخارج بالاحتكاك وإحداث نوع من الحفيف، نتج عن ذلك صوت "الواو"؛ ولذلك يعد علماء الأصوات صوت "الواو" من الأصوات الشبيهة بالحركات (Semivowel) كذلك؛ لأن الفرق بينه وبين الضمة الخالصة، في قرب أقصى اللسان من سقف الحنك مع الواو، أكثر منه مع الضمة.

وبين وضع اللسان في صوت الفتحة، ووضعه في صوت الضمة، أو بعبارة أخرى بين وضع اللسان في قاع الفم وارتفاع مؤخرته نحو سقف الحنك، بحيث تحدث الضمة الخالصة، أوضاع كثيرة تحدث عنها حركات متعددة، أبرزها في أذهاننا صوت الضمة الممالة: (o).

ولاشك أن الشفتين لهما أثر في إحداث كل حركة من هذه الحركات جميعها، لا يمكن إغفاله، فهما منفرجتان مع بعض هذه الحركات، ومستديرتان مع بعضها الآخر. وتختلف درجة الانفراج والاستدارة في صوت عن الآخر.

ويطلق علماء الأصوات على صوت الفتحة اسم: "صوت العلة المتسع"، كما يطلقون على صوتي الضمة والكسرة، اسم: "أصوات العلة الضيقة". وهذا التقسيم له أهميته فيما يصيب هذه الأصوات كلها من تطور أو تغيير، إذ إنه من الملاحظ أن ما يصيب الضمة يجري مثله في الغالب على صوت الكسرة؛ لأن كلا منهما من أصوات العلة الضيقة.

وعلى ذلك ليست الضمة عدوّة للكسرة، كما يتردد في بعض كتب العربية، بل هما من فصيلة واحدة، وذلك على العكس من صوت الفتحة، الذي يعدّ قسيما للضمة والكسرة، له ظواهره وأحكامه الخاصة (عبدالتواب 1982: 92-94).

ومن السواكن والحركات تتألف المقاطع التي تتألف منها الكلمات. تنضم الحركة إلى الساكن لتشكلان معا مقطعا. المقطع ما هو إلا صوت ساكن متبوع بحركة. ولا بد من بدء المقطع بساكن؛ وفي الحالات التي لا يوجد أمام الحركة ساكن نبدأ النطق بهمزة، وهي همزة ليست حقيقية، ليس لها وجود في جذر الكلمة المنطوقة واشتقاقاتها، هي مجرد ضرورة عضلية تسبق انطلاقة الهواء من الرئتين لتحقيق الحركة. وإذا كانت الحركة التي تأتي بعد الساكن لتشكل معه مقطعا حركة قصيرة كان المقطع قصيرا يتألف من ساكن+حركة (س+ح)، فالكلمة "عُلِمَ" مثلا تتكون من ثلاث مقاطع قصيرة هي "عُـ+لِـ+مَ". أما إذا كانت الحركة حركة مد طويلة جاء المقطع طويلا يتألف من ساكن+مـد (س+م). كما في كلمة "نادي" التي تتألف من مقطعين طويلين هما "نا+دي". وهكذا يشكل الساكن المتبوع بحركة مقطعا مفتوحا قد يكون طويلا وقد يكون قصيرا وفقا لطبيعة الحركة. والمقطع القصير إذا تم غلقه بساكن تحول من مقطع مفتوح إلى مقطع مغلق ومن مقطع قصير إلى مقطع طويل يتألف من ساكن+حركة+ساكن (س+ح+س) وذلك كما في قولنا "صَهْ" أو "قُـمْ" أو "إِجْـ+لِسْ". وقد تتألف الكلمة من مقطع واحد قصير مثل واو العطف أو طويل مثل حرف الجر "في". وقد تتألف الكلمة من عدة مقاطع متباينة فيها الطويل وفيها القصير.

أعلي 

التغيرات الطارئة على لهجات وسط الجزيرة

من أهم التغييرات الصوتية التي طرأت على عاميات وسط الجزيرة هو ما حدث لحركات الإعراب والتشكيل من تغييرات إضافة إلى حذف الهمزة مما كان له أبلغ الأثر في إعادة ترتيب العلاقة بين السواكن والحركات ومزج مقاطع الكلمات بطريقة تختلف عن الفصحى. بقيت حركات المد الثلاث المعروفة في الفصحى وهي الألف والياء والواو على ما كانت عليه ولم تتغير في العامية. ولا تكون الألف أو الياء أو الواو حركة مد إلا إذا سبقتها حركة قصيرة مماثلة كما في قولنا "دَان"، "دِين"، "دُون". أما في الحالات التي تأتي الياء أو الضمة مسبوقة بفتحة (حركة مخالفة، ليست مماثلة) فإن الوضع يصبح مختلفا ما بين الفصحى والعامية. نجد في حالة الفصحى أن الياء أو الواو المسبوقة بفتحة تسمى حرف علة وهي أشبه بالصوت الساكن الذي يغلق المقطع السابق، كما في قولنا "لََـوْ" أو "كَـيْ". أما في العامية فإن الفتحة التي تسبق الواو أو الياء تتلون قليلا لتقترب في نطقها من الصوت الذي يليها لتندمج معه وتكون معه حركة مد طويلة ممالة، وبذلك يتحول المقطع من مقطع طويل مغلق، كما في الفصحى، إلى مقطع طويل مفتوح. ولذلك تختلف العامية عن الفصحى في نطقها كلمات مثل "ذود" و"زيد". يقول الدكتور رمضان عبدالتواب عن هذه الظاهرة في اللهجات العربية:

وانكماش "الأصوات المركبة" المسماه باللاتينية: Diphthong ظاهرة من ظواهر السهولة والتيسير في اللغة، فتحول الصوت المركب: (aw) إلى ضمة طويلة ممالة (؟) في مثل نطقنا لكلمة: "يُوم" و"نُوم" و"صُوم" بدلاً من: "يَوْم" و"نَوْم" و"صَوْم". وكذلك تحول الصوت المركب: (ay) إلى كسرة طويلة ممالة (+) في مثل نطقنا لكلمة: "بِيت" و"لِيل" و"عِين" بدلاً من: "بَيْت" و"لَيْل" و"عَيْن" - كل ذلك سببه إيثار اللغة الانتقال من العسير إلى اليسير من الأصوات. (عبد التواب 1981: 49-50).

وظاهرة تخفيف الصوت المركب، حسب تعبير عبدالتواب، ليصبح حركة مد ظاهرة موجودة منذ العصر الجاهلي، لكنهم في الجاهلية إذا جاءت الياء أو الواو مسبوقة بفتحة مدوا الفتحة وأطالوها لتصبح ألفا خالصة غير ممالة ولا يعود هناك أثر للياء أو الواو. والشاهد المشهور على ذلك قول الراجز "طاروا علاهن فطر علاها". ويورد عبدالتواب أمثلة أخرى:

ونلحظ مثل هذا التطور في العربية القديمة، في قول بعض العرب: "إنّ الرجز لَعَابٌ، أي لعيب، والرجز ارتعاد مؤخر البعير". وقولهم: "ما كنت أزعم في خصمي من العاب، يريد: العيب … ويقال: بَوْع وباع، وصَوع وصاع"، كما جاء في قولهم: "تبت إليك فتقبل تابتي، وصمت إليك فتقبل صامتي، أي توبتي وصومتي. (عبد التواب 1981: 49-50).

ولا تزال قبائل عالية نجد وجنوبها مثل عتيبة وبني عبدالله من مطير والدواسر تنطق بنفس الطريقة التي نطق بها الجاهليون كما تدل على ذلك بعض الشواهد الشعرية التي تضطرنا القافية فيها إلى النطق على هذه الشاكلة. ومن أمثلة اختفاء الياء كلمة "عتابه" بدلا من "عتيبه" في الشطر الأول من أبيات لحبيليص بن زرقا المطيري يقول فيها:

    عبّاد ما هم للقبايل نْهابه // نضحي وكلٍّ بالحرايب نْقَزّيه

    واللي مكذّبني ينشّد عتابه // والا يروح لحرب بالصدق تِرْضيه

وكلمة "مطاري" بدلا من "مطيري" في الشطر الثاني من هذه الأحدية لشليل بن نجم من العضيان من عتيبة:

    ناهس ترى مِنّا وحنّا منّه // نِصْبح مصابيحه الى امسى ساري

    ياذيب ياللي تلتهب فى القنه // دوك اربعه موفى الحساب مطاري

    من عِقِب مارِق مخلفين السنه // المنع ما يَطْري ولا له طاري

ومن أمثلة اختفاء الواو كلمة "زاره" بدلا من "زوره" في الشطر الأول من أبيات لنمش بن شهيل العتيبي يقول فيها مسندا على شيخ ميمون جهز بن شرار:

    ياراكب اللي ما لحا الكوع زاره // حرٍّ من اللي يبعدن المطاليب

    رِدّ السلام وخطّره لاخو ساره // لابو جهز قطّاع نشر العزازيب

وكلمة "الشار" بدلا من "الشور" في الشطر الأول من أبيات لمحمد بن دخيل الله أبو خطمه الشيباني الملقب الزبلوقي يقول فيها:

    الشيخ اخو هملا عسل مِرّ الامرار // ضـارٍ بكسرات الجموع الصوابير

    والشيخ ابن هندي يعوّد له الشار // ما خَمّ رايه من خفاف المشاوير

وكلمة "حاض" بدلا من "حوض" في الشطر الثاني من أبيات للشيخ متعب بن جبرين يقول فيها:

    والجّتي لجّة محال الخبوبِ // اللي لهن فوق الروانيش معراض

    سوّاقهن عبدٍ بليلٍ صلوبِ // والى امتلى حاضٍ يْفَيّض على حاض

ويقول جريس بن جلبان العجمي من قصيدة له يمدح فيها الدواسر وشواهدنا هي الكلمات الأخيرة في الأبيات ابتداء من البيت الثالث التي تنطق لتتفق قافيةً مع البيتين الأولين:

    أويّ ديره بين حِمْر النفايد // قِبْلِيّها الجزلا وخِربٍ وراها

    ديرة مصانيم الدروع آل زايد // هَلْ كَرْمِةٍ من قَلّ ماله نصاها

    أهل بيوتٍ كنّهن الفرايد // لى من وِرِدْهم حِجّةٍ نجحاها

    نصيتهم وانا من المال بايد // جَلَوا همومي وطلبتي كمّلاها

    تكمّلت من تمر هدب الجرايد // وشريت منها البل بما ثمّناها

    ابرفع البيضا معَ كل رايد // لاهل الحميّه مِمّنينٍ حْماها

وقد اختفى الصوت المزجي المركب diphthong من لهجات وسط الجزيرة ما عدا في بعض التراكيب القليلة جدا كما في "تَـو"، "جَـو"، "سَـو"، "ضَـو"، "لَـو"، "حَـي"، "شَـي"، "عَـي"، وكما في المقطع الأخير من قولنا "قولَوا" أو "قولَي" حيث تحول المقطع الأخير في العامية إلى صوت مزجي مركب علما بأنه في الفصحى مقطع طويل مفتوح.

وهكذا نجد أن الحركات الطويلة زادت من ثلاث في الفصحى إلى خمس في العامية. وعلى العكس من ذلك تقلصت حركات التشكيل القصيرة من ثلاث حركات في الفصحى إلى اثنتين في العامية هما الفتحة والكسرة، حيث أن الضمة تكاد تختفي تماما في معظم لهجات الجزيرة (ما عدا عند بعض القبائل في الجنوب والشرق مثل الدواسر والمرة والعجمان وبني هاجر) لتحل محلها الكسرة، كما في قولنـا: "رَجِــل" > "رَجُـل"، "قِـرْب" > "قُـرْب"، "سِـلْطان" > "سُـلْطان"، "يكْـتِـب" > "يكْـتُب"، "قِـم" > "قُـم". ولم تحتفظ عاميات وسط الجزيرة بحركة الضمة إلا في بعض البيئات الصوتية المحددة، كما في نطق بعض الضمائر مثل "أنـتُم" و"هُـمْ"، أو أن تكون الضمة حركة مقطع طويل مغلق بساكن شفهي مشدد: "جُـبّ"، "دُبّ"، "خُـفّ"، "سُـمّ"، "كُـمّ"، وقس على ذلك. وبقاء الضمة بمصاقبة الأصوات الشفهية سببه أن الضمة يصحبها تدوير الشفتين.

وفي العامية يختلف سلوك الفتحة والكسرة في المقاطع المفتوحة. أما الكسرة، سواء كانت كسرة أصلية أو مقلوبة عن الضمة، فإنها تحذف عادة في المقطع القصير المفتوح مما يؤدي إلى ظاهرة الابتداء بساكن التي تتميز بها العامية عن الفصحى، كما في قولنا: "رْجال"، "عْـقَـدْ"، "رْكَـبْ"، "عْـنَـبْ"، "ضْـرِب"، "ذْبِـح"، "فْـلان". ويمكننا تتبع الخط التاريخي الذي سلكه التغير الصوتي في الكلمة الأخيرة على هذا النحو: 1) النطق الفصيح "فُـلان"، 2) تتحول الضمة إلى كسرة "فِـلان"، 3) حذف الكسرة في المقطع القصير "فْـلان".

أما الفتحة فإنها تتحول في المقطع القصير المفتوح إلى كسرة كما في قولنا "شِــرِب"، "قِــرِب"، "كِــتَب"، "فِـتَح"، "جِـبَل"، "قِـعود"، "انكِــسَـر"، "ارتِــفَـع"، "استِــقَـرّ"، "يقْـرِبون"، "اسـتَــدرِكت". إلا أن هناك حالات تبقى فيها الفتحة على حالها في المقطع القصير المفتوح ولا تتغير إلى كسرة، وهذه الحالات هي:

** إذا وقعت الفتحة على أحد الأصوات الحلقية (أ، هـ، ح، خ، ع، غ) كما في قولنا: "هَـدَب"، "غَـدير"، "حَـماد"، "انعَـزل"، "استرخَصت". وهذا التأثير ناتج من كون مخرج الفتحة قريب من مخارج الحروف الحلقية.

** إذا جاء بعد الفتحة مقطع طويل يبدأ بساكن حلقي أو ساكن جهوري (ل، ن، ر، و، ي) وتكون حركة ذلك المقطع هي الفتحة أو الألف: "وَعَد"، دَخَـل"، "وَلَد"، "ذَهَب"، "سَـلام"، "سَـحاب"، "بَـنات"، "انـقَهر"، "استنكَرت". ويحدث الشيء نفسه إذا كانت حركة المقطع الذي يلي الفتحة حركة مد ممالة منقلبة عن الصوت المركب من فتحة وحرف لين: "بَـنيت"، "سَــهيْت"، "بَلوت"؛ وهذا مما يدل على أن هاتين الحركتين الممالتين كانتا في الأصل صوتين مركبين من فتحة وحرف لين حيث لا يزال تأثير تلك الفتحة ملحوظا في الحيلولة دون تحويل الفتحة في المقطع السابق إلى كسرة. أما إذا كانت حركة المد في المقطع الذي يلي الفتحة واوا أو ياء غير ممالة فإن الفتحة تتحول إلى كسرة: "شِــرود"، "بِــخور".

ولا يقف تأثير الحروف الحلقية عند حد منع تغير الفتحة إلى كسرة، بل إنه إذا كان الصوت الأخير في مقطع طويل مغلق صوت حلقي وكانت حركة المقطع فتحة يقحم النطق العامي فتحة إضافية بعد الصوت الحلقي: "لَحْــم" < "لَحَـم"، "شَعْـر" < "شَـعَـر". لكن هناك استثناءات لهذه القاعدة وهي:

** صيغة المصدر: "سحْب"، "نهْب"، "مخْش".

** صيغة أفعل التفضيل: "أحْـلى"، "أغْـلى".

** صيغة الماضي من أفعل: "أَغْـدى"، "أهْـدى".

** صيغة اسم الفاعل من فعل: "تَـعْـبان"، "زعْـلان".

** إذا كان الحلقي هو الحرف الثاني من جذر رباعي: "صَعْــفَـق"، "صَـعْـقَـر"، "نَـغْــثَـر"، "نَـخْـجَـر".

** إذا كان الحلقي هو الحرف الأخير من الجذر الثلاثي للكلمة: "طَـلَـعْــنا"، "ذِبَـحْــنا".

** إذا كان الحلقي مسكن نتيجة كونه متبوع بكسرة محذوفة: "تَـعْـبَـت" > "تَعِبت"، "صَـغْـرت" > "صَغِرت" > "صَغُرت".

وإضافة إلى الفتحة التي تقحمها العامية بعد الأصوات الحلقية هناك حركة أخرى تقحمها العامية لفك تكدس الساكنين في آخر الكلمة إذا كان الأخير منهما جهوريا (ر، ل، ن، و، ي). حذف حركات الإعراب قد يؤدي إلى إلتقاء ساكنين في آخر الكلمة: "عفْـش"، "وجْــه"، "سـبْـت"، "عِـذق". إلا أنه إذا كان الساكن الأخير جهوريا تُقحم حركة بين الساكنين سواء في حالة الوقف: "عَـصِـر"، "عَـجِـل"، "رِجِـل"، "دَسِــم"، "خَشِـن"، "عَـدُو"، "غَـزُو"، "ظَبِـي"، أو في حالة الكلام المتصل"رِجِـم عليا"، "قَـصِـر مارد"، "جَـمِـر غضا". ولا تقحم الحركة إذا كان الساكنان كليهما جهوري: "جِـرْم"، "قَـرْم"، "قَـرْن"، كما أن الحركة المقحمة تتلاشى في حال انضمام الصوت الجهوري في آخر الكلمة إلى الساكن الأول في أي لاحقة "رِجْـلين"، أو كلمة تالية تبدأ بحركة "رِجْـل الولد"، أو بساكن: "نَـجْـم سْـهيل".

قلنا إن حذف الكسرة في المقاطع القصيرة يؤدي إلى الابتداء بساكن ونضيف هنا أن حذفها قد يؤدي أيضا إلى تكدس ثلاثة سواكن في وسط الكلمة، وهذا، مثل الابتداء بساكن، مما لا تسمح به الفصحى. فمثلا حذف كسرة الدال ينتج عنه تكدس النون والدال والسين في قولنا "مْـهَـنْـدْسين"، وحذف كسرة الخاء ينتج عنه تكدس الراء والخاء والصاد في قولنا "مِـسْـتَـرْخْـصه"، وحذف كسرة الحاء ينتج عنه تكدس اللام والحاء والقاف في قولنا "مِـسْـتَـلْـحْـقَـن". ولتلافي هذا التكدس يحدث أحيانا أن تغير حركة الكسرة موقعها بدلا من حذفها لتتقدم خطوة إلى الأمام وتحرك الساكن الأول كما في قولنا: "مِـسِرْعات" > "مُسْرِعات"، "يَضِرْبون" > "يَضْرِبون". في هذين المثالين تقدمت الكسرة على الراء لتحرك الساكن الذي قبلها وسكنت الراء. وتغير موقع الكسرة ينجم عنه تغير في البنية المقطعية للكلمة بحيث يتحول المقطع الأول من طويل مغلق إلى قصير مفتوح والثاني من قصير مفتوح إلى طويل مغلق؛ وبذلك تتحول "مُسْـ+رِ+عات" إلى "مِـ+سِرْ+عات".

ننتقل الآن إلى استعراض التغيرات التي طرأت على السواكن. لعل أول ما يلفت النظر من بين الاختلافات الصوتية التي تميز عامية وسط الجزيرة عن الفصحى هو اختفاء صوت الضاد، الذي يشكل العلامة الفارقة للغة العربية، وحلول صوت الظاء محله. وابتداء من حوطة بني تميم وما بعدها جنوبا وشرقا يميل نطق الجيم نحو الياء في بعض المواقع الصوتية حتى تختفي تماما في أقصى الشرق وتحل محلها الياء. ومن الظواهر اللهجية الطريفة عند شمر وأهل الشمال قلب التاء الساكنة في آخر الكلمة هاء أو ياء، كما في قول زيد الخشيم من أهالي قفار الذي ينطق كلمة "زالت" بما يتمشى مع قافية الأشطر الأولى من القصيدة:

    الجسم بَرْيت عقب الاسقام حاله // وامن من العالي تساعل نجوره

    الكيف طاب وكدرة البال زاله // نوه من المولى تلافت سروره

ومثله قول شاعر آخر والشاهد هو "غنه" بدلا من "غنت" في قافية الشطر الأول من البيت الثاني:

    عِزّي لعيني تقل ناضوح شنه // من البير يجذبها مراجيع عثمان

    بخلافهن رقط المحاحيل غنه // زمّار دولة عسكرٍ تقل ديبان

كما أن القاف الفصيحة تحولت إلى ما أسميه القاف البدوية، على غرار الجيم القاهرية التي تشبهها في النطق تماما. والأعضاء التي تستخدم في تحقيق القاف البدوية هي نفس الأعضاء التي تستخدم في تحقيق الكاف. كلا الصوتين جاء نتيجة الانفجار الذي يعقب حبس النفس لبرهة بواسطة ضغط مؤخرة اللسان على مؤخرة الحنك في المنطقة المتقدمة من اللهاة، إلا أن صوت الكاف لا يصاحب تحقيقه تذبذب في الأوتار الصوتية، فهو صوت مهموس، بينما القاف البدوية صوت مجهور. ويلاحظ على هذين الصوتين الانفجاريين أنهما إذا تبع أحدهما كسرة أو ياء تحول من صوت انفجاري يتحقق نتيجة حبس النفس لبرهة بواسطة ضغط مؤخرة اللسان على مؤخرة الحنك إلى صوت احتكاكي يتحقق نتيجة تضييق مجرى النفس بضغط وسط اللسان على وسط الحنك مما يلي اللثة وبذلك تتحول القاف إلى "دْز" والكاف إلى "تْس" (أو "دْج" و"تْش" في أقصى الشمال وأقصى الشرق). أي أن الكاف والقاف البدوية تحتفظان بموقع تحقيقهما الخلفي إذا تبعتهما حركة خلفية مثل الضمة والواو، أما إذا تبعتهما حركة أمامية مثل الكسرة أو الياء فإن الحركة تجذب موقع التحقيق إلى الأمام لتصبح القاف "دْز" والكاف "تْس". وقد تحدث الدكتور رمضان عبدالتواب عن هذه الظاهرة الصوتية التي يسميها "قانون الأصوات الحنكية" ومثل لها بأمثلة مختلفة، بما في ذلك ما يحدث لصوت الكاف والقاف في لهجات الجزيرة العربية. يقول عبدالتواب:

وصل العلماء في مقارنتهم اللغة السنسكريتية، باللغتين اليونانية واللاتينية، في أواخر القرن التاسع عشر، إلى قانون صوتي سموه: "قانون الأصوات الحنكية". ولاحظوا أن أصوات أقصى الحنك، كالكاف والجيم الخالية من التعطيش، كالجيم القاهرية مثلاً - تميل بمخرجها إلى نظائرها من الأصوات الأمامية، حين تليها في النطق حركة أمامية كالكسرة؛ لأن هذه الحركة الأمامية في مثل هذه الحالة، تجتذب إلى الأمام قليلاً أصوات أقصى الحنك، فتنقلب إلى نظائرها من أصوات وسط الحنك، ويغلب أن تكون هذه الأصوات الجديدة من النوع المزدوج، أي الجامع بين الشدة والرخاوة وهو المسمى باللاتينية Affricata.

ومن الأصوات التي خضعت لهذا القانون في العربية: صوت الجيم، فإن مقارنة اللغات السامية كلها، تشير إلى أن النطق الأصلي لهذا الصوت، كان بغير تعطيش كالجيم القاهرية تماماً، فكلمة: "جمل" مثلاً، هي في العبرية gamal، وفي الآرامية: gamla، وفي الحبشية: gamal. أما العربية الفصحى، فقد تحول فيها نطق هذا الصوت من الطبق إلى الغار، أي من أقصى الحنك إلى أوسطه، كما تحول من صوت بسيط إلى صوت مزدوج، يبدأ بدال من الغار. ثم ينتهي بشين مجهورة، غير أن ذلك لم يحدث في البداية في كل جيم، وإنما كان يقتصر على الجيم المكسورة، تبعاً لقانون الأصوات الحنكية، ثم عمم القياس هذا النطق الجديد في كل جيم، طرداً للباب على وتيرة واحدة، وقد حدث ذلك في العربية القديمة، في العصور السابقة لظهور الإسلام، وصار هو النطق المميز للفصحى؛ ولذلك جاء به القرآن الكريم، وبقى النطق البائد في بعض اللهجات العربية القديمة، وامتداداتها في بعض اللهجات الحديثة.

وما حدث لصوت الجيم القديم في الفصحى، حدث مثله لصوت الكاف في بعض اللهجات القديمة، في الظاهرتين المعروفتين عند القدماء، بظاهرتي: "الكسكسة" و"الكشكشة"، اللتين رويتا لنا عن بعض القبائل القديمة، كبكر وهوازن وربيعة وأسد.

وقد وقفت هذه الظاهرة في القديم، عند حدود قانون الأصوات الحنكية، أي أن الكاف لم تقلب إلى: (تْسْ) في الكسكسة، ولا إلى: (تْشْ) في الكشكشة، إلا إذا كانت مكسورة، ندرك هذا من تقييد اللغويين القدماء لها بكاف المؤنثة، وهي مكسورة كما نعلم، وإن كان أمثلتهم تحتوي على كافات أخرى مكسورة، سوى كاف المؤنثة. كقول الراجز:

          إن دنوتِ جعلتْ تُنئيشِ

          وإن نأيتِ جعلتْ تُدنيشِ

          وإن تكلمتِ حثتْ في فيشِ

          حتى تنقىّ كنقيق الدِّيشِ

أي تنئيك، وتدنيك، وفيك، والدّيك. (عبد التواب 1981:92-93).

وهنا يسترسل عبدالتواب في الحديث عن تأثير قانون الأصوات الحنكية على لهجات وسط الجزيرة المعاصرة فيقول:

أما اللهجات العربية الحديثة، فقد طردت هذا القلب في كل كاف، عن طريق القياس، مكسورة كانت هذه الكاف، أو غير مكسورة، ففي بلاد نجد تسمعهم يقولون: "تْسيف حالك؟" و"على تْسَم؟" في: "كيف حالك؟" و"على كَم؟". كما نسمع عند أصحاب الكشكشة، وهم كثيرون في جنوبي العراق، وبلدان الخليج وشمالي أفريقيا: "تْشبير" و"تْشَلْب" في: "كبير" و"كلب" وما إلى ذلك. (عبد التواب 1981: 93).

وهذا الكلام تعوزه الدقة، فالوضع أعقد من ذلك بكثير. يبدو أن هناك عددا من العوامل والمؤثرات التاريخية واللغوية المتداخلة والمتضاربة التي تحول دون صياغة قانون صوتي متسق وبسيط بخصوص هذه الظاهرة الصوتية. كل ما نستطيع قوله أن هناك ميلا نحو نطق القاف والكاف بدون كسكسة بجوار الحركات الخلفية مثل الواو في: "كور"، "كوع"، "قوت"، أو بجوار الكسرة التي أصلها الفصيح ضمة مثل: "كِــرْه"، "كِـحل"، "قِــرْص"، "قـِـرْب"؛ ونطقهما بالكسكسة بجوار الحركات الأمامية مثل: "كِـير"، "قِـــرْبه"؛ ونلاحظ أنه حتى في الحالات التي تحذف فيها الكسرة يظل تأثيرها باقيا وتنطق الكاف أو القاف المجاورة لها بالكسكسة: "كْـعابِه"، "قْـلادِه"، "حرْك"، "لـبْق"، "دبْـق". إلا أن هذا مجرد ميل أو نزوع قوي لكنه ليس قانونا صارما لأن هناك حالات يتصرف فيها هذان الحرفان على غير ما هو متوقع؛ وهذه بعض الأمثلة على ذلك:

** لا أثر للكسكسة في الحرف الأول من كلمات أصلها الفصيح على وزن "فِـعَلْ": "كْـسَر"، "قْـطَع"، "قْـرَب".

** بينما يكسكس الحرف الأول من كلمات أصلها على وزن "فَـعُل: "كِـبِر"، "كِـثِر"، "قِــرِب"، "ثِــقِـل".

** ينطق الحرف الأول من كلمات فصيحها على وزن "فِـعْـل" أحيانا بالكسكسة: "قِـدِر"؛ وأحيانا بدون: "قِـشِـر".

** لا يكسكس الحرف الأوسط الذي تقع عليه الكسرة في صيغة المبني للمجهول: "لْـقِـط"، "نْـقِـث"، "نْـقِـض"؛ بينما يكسكس الحرف الأخير: "سْـرِق"، "فْـتِـق"، "فْـشِـق"؛ أما الحرف الأول فإنه يكسكس أحيانا: "كْـتِـف"، "كْـرِه"، "قْلِب"؛ وأحيانا لا يكسكس: "كْـتِـب"، "كْـسِـر"، "قْـضِـب"، "قْـطِـِع"، "قْـطِـف".

** تكسكس الكاف والقاف أينما وقعت في الكلمات التي فصيحها على وزن "فَـعِلْ": "كِـذْب"، "كَـتْـف"، "عَـقْــب"، "لَـبْق"، "دَبـْـق"، "شَــفْــق".

** يكسكس الحرف الأول من الأسماء التي على وزن "فَـعَلْ": "كِـفََن"، "قِـدَح"، "قِـدَم".

** أما الحرف الأول من الأفعال التي على وزن "فَـعَلَ" فإنه أحيانا يكسكس: "كِـذَب"، "كِـثَـح"، "كِـفَـت"، "كَـنَـز"، "كَـوَى"؛ وأحيانا لا يكسكس: "كِـتَب"، "كِـسَـر"، "قِـمَـز".

** يتراوح الحرف الأول من صيغة "فَـعْـل" بين الكسكسة: "كَـلْـب"، "كَـسْـب"، "كَـرْه"، "كَـبْـش"، "كَـعَب"؛ وعدم الكسكسة: "كَـنْـز"، "كَـشْـف"، "كَتْب".

ونلاحظ أنه إذا كانت الكسرة مقلوبة عن الضمة، فإن القاف لا تتغير إلى "دْز" ولا الكاف إلى "تْس". فالكاف في فعل الأمر "كِل" (من أكل) تنطق بدون كسكسة لأنها في الأصل مضمومة، مثلها مثل القاف في فعل الأمر "قِر" (من قَرّ أي استقر في مكانه). هذا على خلاف الكسكسة في فعل الأمر "كِل" (فعل الأمر من الكيل أو من تعبئة البارود بالملح والرصاص) والقاف في "قِر" (من أقر، أي اعترف، ضد أنكر). وهذا مما يوحي بأن تغير القاف والكاف إلى أصوات احتكاكية ربما بدأ قبل تغير الضمة إلى كسرة.

وليس لدينا صورة مفصلة ودقيقة عن التطورات التاريخية التي حدثت بالنسبة لطريقة نطق الكاف والقاف. لكن يبدو من الشواهد اللغوية أنهما كانتا في عصور الفصحى تنطقان بالكسكسة بجوار الكسرة والياء وبدون كسكسة بجوار بقية الحركات. ثم جاء النطق بالكسكسة بعد الفتحة والألف في بعض المواقع في النطق العامي كتطور حدث مؤخرا بعد الانتقال من مرحلة الفصحى إلى مرحلة العامية. وتتصرف القاف البدوية بنفس الطريقة التي تتصرف بها الكاف تماما وتتعرض لنفس التأثيرات والتغيرات. وقياسا على الكاف، لا يستبعد أن بعض القبائل في الجاهلية وصدر الإسلام كانت تنطق القاف مثلما ينطقه العامة في العصور المتأخرة وكانت طريقة نطقه تتأثر بالحركات المجاورة بنفس الطريقة التي نشاهدها في النطق العامي. ويبدو أن الكاف والقاف البدوية كانا في طريقهما إلى الاندثار تماما لتحل محلهما "تْس" و"دْز" في النطق العامي، إلا أن ارتفاع نسبة التعليم في السنين الأخيرة عكست الوضع فأصبح الصوتان "تْس" و"دْز" هما المهددان بالانقراض، كما هو ملاحظ في نطق الأجيال الجديدة. ولا تزال هذه الأجيال تدرك أن "تْس" و"دْز" ليسا إلا نطقين مختلفين للكاف والقاف البدوية لكنهم بدأوا يفقدون القدرة السليقية على تمييز المواقع التي تنطق فيها الكاف كافا والقاف قافا وبين المواقع التي تنطقان فيه "تْس" و"دْز".

وعلى الرغم من الاختلاف الواضح في النطق بين الصوتين "ق" و"دْز" فإنهما بالنسبة للسامع والمتكلم نطقان مختلفان لنفس الصوت؛ وكذلك الوضع بالنسبة للصوتين "ك" و"تْس". ولذلك نجد أنه يمكن المراوحة في النطق وفي القافية الشعرية بين "ق" و"دْز" أو بين "ك" و"تْس" دون أن يؤدي ذلك إلى اللبس أو الاختلاف في المعنى. فكلمة "كلب" مثلا لا يتغير معناها سواء نطقنا الكاف بكسكسة أم بدون كسكسة. إلا أننا أحيانا نجد شواهد على استقلالية "ق" عن "دْز" و"ك" عن "تْس". أي أننا قد نجد كلمتين تختلفان في المعنى دون أن يوجد بينهما أي اختلاف في النطق عدا الاختلاف بين "ق" و"دْز" أو بين "ك" و"تْس". وسنورد كأمثلة على ذلك أزواجا من الكلمات بحيث تكون الكلمة الأولى من كل زوج تنطق بدون كسكسة والثانية بالكسكسة ونلاحظ اختلاف المعنى تبعا لاختلاف النطق بين كل كلمة وأختها.

** "كَـبّ" (= كفأ، أراق)/ "كَـبّ" (فعل أمر من كبو وهو تسليط دخان هدب الأثل على الجرح كعلاج مطهر).

** "كَـفّ" (= أصيب بالعمى)/ "كَـفّ" (= راحة اليد مع الأصابع).

** "كَنَس" (كما في قولنا كَنَس الدار)/ "كنس" (= اختفى، تخبأ).

** "قَـلْب" (= عضلة ضخ الدم)/ "قَـلْب" (= بالمقلوب).

** "قَـدّ" (= كفؤ، نِد)/ "قَـدّ" (= صَوِّب البندقية).

** "قاز" (= الوقود)/ "قاز" (= أداة قلع الضرس).

** "عَـكّ" (= حمل على ظهره)/ "عَـكّ" (= قاسي، صلب).

** "ضَـكّ" (= انكمش وضاق)/ "ضَـكّ" (= منكمش وضيق).

** "شِـقّ" (= فعل الأمر من شق، أي مزّق)/ "شِـقّ" (= جانب الفم).

** "دِقّ" (= اضرب)/ "دِقّ" (= حقير ، صغير، كما في قولهم: دق وجل).

** "حِـقّ" (= علبة من الصفيح)/ "حِـقّ" (من صغار الإبل).

** "رَقّ" (= أصبح رقيقا)/ "رَقّ" (= خذ إلى أعلى، إلى السطح).

** "شَـرْق" (= اتجاه الشرق)/ "شَـرْق" (= شارق بالماء).

** "ساقي" (= ساق الإنسان مضافا إلى المتكلم)/ "ساقي" (= الساقي الذي يجري فيه الماء).

ويطول الحديث ويتشعب عن التغيرات الصوتية التي طرأت على طريقة نطق القاف والكاف وتأثير الحركات على ذلك مما لا يتسع المجال لذكره هنا. ولعل من المناسب التنبيه على أن التغيرات الصوتية التي طرأت على طريقة نطق الضاد والقاف والكاف والجيم وغيرها من السواكن، وعلى أن تحويل الأصوات المزجية المركبة إلى حركات مد طويلة، ليس لها تأثير يذكر على البنية الإيقاعية وتقطيع الكلام، لكننا نتحدث عنها من باب محاولة إلقاء نظرة لسانية شاملة من حيث ما أمكن الشمول ومختصرة ما أمكن الاختصار على التغيرات التي طرأت على النسق الفونولوجي في لغة الشعر النبطي ومايزت ما بينها وبين لغة الشعر الجاهلي. أهم العوامل المسؤولة عن إعادة ترتيب العلاقة بين مقاطع الكلمة وتحوير البنية الإيقاعية في اللهجة العامية هو حذف حركات الإعراب وما طرأ على حركات التشكيل القصيرة من تغيرات تركت أثرها على البنية المقطعية، خصوصا بالنسبة للمقاطع القصيرة. ولا يقل أهمية عن التغيرات التي طرأت على الحركات تلك التي طرأت على الهمزة. تعد الهمزة في العربية الفصحى صوتا ساكنا كغيره من الأصوات الساكنة التي يمكن أن تبدأ المقطع أو تغلقه في أي موقع في الكلمة. أما في اللهجات فقد طالت الهمزة تغييرات جذرية أدت إما إلى حذفها كلية أو قلبها إلى "واو" أو "ياء" أو دمجها مع الحركة السابقة لها التي تتحول جراء ذلك من حركة قصيرة إلى حركة طويلة. ولم يعد للهمزة وجود في اللهجات إلا في بعض المفردات التي استعارتها مباشرة من الفصحى. وتخضع التغيرات التي تطرأ على الهمزة في بداية الكلام لعدة اعتبارات يمكن تلخيصها كما يلي:

** تحذف الهمزة في آخر الكلمة إذا سبقتها ألف: "جاء" < "جا"، "حمراء" < "حمرا"، "رِشاء" < "رْشا".

** تحذف الهمزة الساكنة إذا سبقتها حركة قصيرة وتمد الحركة: "خطأ" < "خطا"، "قرأ" < "قرا"، "أردأ" < "أردا"، "بأس" < "باس"، "جأش" < "جاش"، "بئر" < "بير"، "ذئب" < "ذيب"، "بؤره" < "بوره"، "لؤلؤ" < "لولو".

** إذا سبق الهمزة "واو" أو "ياء" تحذف الهمزة ويشدد ما قبلها: "بريء" < "بِريّ"، "شيء" < "شيّ"، "فيء" < "فيّ"، "سوء" < "سوّ"، "ضوء" < "ضوّ"، "مروءه" < "مروّه"، "خطيئه" < "خطيّه"، "رديئه" < "رديّه".

** إذا استهل اللفظ بمقطع قصير مبدوء بهمزة فإن المقطع غالبا يحذف، لا سيما إذا كان المقطع اللاحق مفتوحا: "إقامه" < "قامه"، "إراده" < "راده"، "أراك" < "راك (نوع من الشجر)".

** سبق القول إن العامية تقحم فتحة بعد الصوت الحلقي فيتحرك بعد أن كان ساكنا، وبذلك يتحول المقطع الأول من مقطع طويل مغلق في الفصحى إلى مقطعين قصيرين في العامية، الأول يبدأ بالهمزة والثاني يبدأ بصوت حلقي، ثم يحذف المقطع الأول الذي يبدأ بالهمزة: "أَخْضر" < "أَخَضر" < "خَضر"، "أَعْمى" < "أَعَمى" < "عَمى"، "أَهْوج" < "أَهَوج" < "هَوج".

** إذا كان المقطع الثاني من الكلمة مغلقاً وحدث للكلمة عن طريق الحذف والإضافة أي تغيير ينتج عنه فتح المقطع الثاني فإن هذا يؤدي إلى حذف المقطع الأول القصير الذي يبدأ بهمزة. فإذا أضفنا مثلا الضمير إلى كلمة "أثَـر" تتغير لتصبح "ثِـرُه"، كما تتغير كلمة "أَخَـذ" لتصبح "خَـذُه" وكلمة "أهل" لتصبح "هَلي"، وكلمة "أحد" لتصبح "حَـديهم".

** تسقط الهمزة الأصلية من أول الكلمة إذا تبعها مقطعان قصيران مفتوحان: "أكلتْه" < "أكَـلـَـتُـه" < "كَـلَـتُـه" < "كْلِـته"، "أخَذوها" < "أَخَـذَوَه" < "خَـذَوَه" < "خْـذَوَه".

** قد تسقط الهمزة من بداية الكلمة ويعوض عنها بمدة في آخر الكلمة مثل: "أكل" < "كلا"، "أخذ" < "خذا"، "أَثِـر" < "ثَري"، "أجل" < "جلي".

** إذا جاءت كلمة أخرى قبل الكلمة التي تبدأ بمقطـعٍ قصير ساكنُه همزة فإن الهمزة تحذف، مثل همزة "أخو" في "أنا خو فلان" أو "ياخو فلان"، أو همزة "أمانة" في عبارة "يامانة الله عليك الله".

** تتحول الهمزة المتحركة إلى ياء إذا سبقتها أو لحقتها كسرة وإلى واو إذا سبقتها أو لحقتها ضمة: "رئه" < "رْيه"، "ذئاب" < "ذيابه"، "رئاسه" < "رياسه"، "برِئ" < "بِري"، "قائم" < "قايم"، "دلائل" < "دلايل"، "فؤاد" < "فواد"، "ذُؤابه" < "ذوابه".

** للتخلص من الهمزة في بداية الكلمة تم الاستعاضة أحيانا عن صيغة "أفعل" بصيغة "فعَل" أو "فعّل": "أدار" < "دار"، "أطاع" < "طاع"، "أناخ" < "نوّخ"، "أمات" < "موّت"، "أدمى" < "دمّى".

** تلجأ اللهجات إلى طرق أخرى للتخلص من الهمزة في وسط الكلام. من هذه الطرق إحلال العين محل الهمزة في المفردات التي تستعيرها العامية مباشرة من الفصحى: "سأل" < "سعل"، "مسألة" < "مسعله"، "هيئة" < "هيعه". كما استعاضت عن بعض الأفعال التي تحتل الهمزة موقع الحرف الأوسط من الجذر بأفعال أخرى مثل "نِـشد" بدلا من "سأل"، "شاف" بدلا من "رأى"، "كيسان" أو "كاسات" بدلا من كؤوس، "أيّس" بدلا من "يئس".

ومعلوم أن ألف المد لا يمكن أن تأتي كأحد الحروف الثلاثة الأصلية التي يتألف منها جذر الكلمة. فالجذر الثلاثي لكلمة مثل "قال" هو "ق ول" وجذر "لان" هو "ل ي ن". لذلك فإنه في الحالات التي تتحول فيها عين "فعل" من همزة إلى ألف علينا أن نعرف ما إذا كانت هذه الألف تؤول إلى واو أو إلى ياء في الجذر العامي وذلك عن طريق فحص الكلمة العامية في تصاريفها المختلفة. مثال ذلك أن عين "راف"، المنحدرة من الأصل الفصيح "رأف"، واوا لأن المضارع "يروف"، وعين "فال"، المنحدرة من الأصل الفصيح "فأل"، أيضا واو لأننا نقول "يتفاول" كما في "لا تفاول عليه". وهناك حالات يصعب فيها الوصول إلى نتيجة مرضية. فمثلا في كلمة "راي"، من الأصل الفصيح "رأي"، من المستبعد أن تكون الألف ياء لأن الحرف الأخير ياء مما يجعل من الصعب تصور أن الجذر يمكن أن يكون "ر ي ي"؛ ولكن لو افترضنا أنها واو "ر وي" فإنها في تلك الحالة تختلط مع الجذر المتعلق بالرِيّ وشرب الماء. ومما يفاقم المشكلة أن جميع الصيغ والتراكيب الأخرى المشتقة من "رأى" اختفت من العامية. وهذه الكلمة مثال جيد يوضح لنا كيف أدى تحاشي الهمزة في العامية إلى بِلى وتآكل التراكيب المشتقة من جذر حرفه الأوسط همزة. فهناك إضافة إلى كلمة "راي" أمثلة أخرى على هذا البلى والتآكل مثل "مْسايل" أي "سائل" و"مِساله" أي "مسألة" لكن الفعل "سأل" اختفى، مثلما اختفى الفعل الماضي "زأر" بينما تحتفظ العامية بالمضارع "يْزير".

ومن الأمثلة التي تسترعي الانتباه على تحاشي الهمزة في وسط الكلام التغيرات التي طرأت على كلمة "ثأر". فقد اختفى الفعل "ثأر" من العامية وحل محله الفعل "تثارى" (على وزن "تفاعل"). لكن من الواضح أن "تثارى" مشتقة من الجذر "ث ر ي" وليس "ث أ ر" لأن صيغة "تفاعل" من "ثأر" هي "تثاءر" التي نتوقع أن تتحول في العامية إلى "تثاور". ويؤيد ذلك أن صيغة "فاعل" "ثارى، يثاري" وليست "ثاور" المنقلبة عن "ثاءر". وكلمة "الثواريات" (كما في قولهم: أبا الثواريات) مشتقة من الجذر "ث ور" المنقلبة عن "ث أ ر". وكلمة "ثأر" تقابلها في العامية "ثار" و"ثرى" (كما في قول العوني في قصيدة الخلوج: حْذا داركم من عقبكم تندب الثرى). وعلى ما يبدو فإن الجذر "ث أ ر" في طريقه إلى التحول إلى "ث ر ي" إلا أن التغير لم يعم كل مشتقات هذا الجذر والتي بقي بعضها مرتبطا بالجذر القديم.

جراء ما حدث للهمزة من تغيرات حولتها من ساكن إلى صوت لين فإن الأفعال المهموزة في الفصحى تحولت في العامية إلى أفعال معتلة تداخلت في اشتقاقاتها وتصاريفها مع تصاريف الفعل المثال أو الأجوف أو الناقص، حسب موقع الهمزة في الأصل وحسب ما إذا كانت تحولت إلى واو أو ياء أو ألف. ويتطلب منا توضيح الصورة واستيفاء الموضوع حقه من البحث التوسع بعض الشيء والاستطراد في الحديث عن تصريف الأفعال المعتلة. الفعل المثال المبدوء بالواو مثل وصل أو وجد والفعل المبدوء بالهمزة مثل أكل أو أخذ أو أمر أو ألِفَ اقتربا في تصريفاتهما ويكادان يندمجان مع بعضهما البعض. غالبا ما تنقلب الهمزة في أول الفعل إلى "واو" مثل: "وِلِـف"، "وِمَـر"، "وِمَـن". وفي صيغة المبني للمجهول تتحول الهمزة دائما إلى "واو": "أُكِل" < "وْكِـل"، "أُخذ" < "وْخِـذ"، وكذلك في صيغة "فعّل": "وَمّن"، "ودّب"، وصيغة تفعّل: "تومّر"، وصيغة "فاعل": "واخذ"، "واكل"، وصيغة تفاعل: "توالف"، "توانس". وفي الفصحى تحذف واو الفعل المثال في صيغة المضارع لكنها في العامية، مثلها مثل الهمزة، تتحول إلى ألف فنقول ياصل، ياجد مثلما نقول ياكل، ياخذ.

كما اندمجت الأفعال مهموزة الآخر التي على وزن فَعَلَ مثل بدأ، قرأ، كفأ، ملأ، الخ مع ما يماثلها في الوزن من الأفعال الناقصة مثل سعى، رعى، برى (القلم)، الخ. وصارت الأفعال التي على وزن فَعِلَ مثل برِئ وظمئ تتصرف على غرار الأفعال التي مثل رضي، لقي، نسي، بقي، خشي، فني، الخ.

ولا بأس من إيراد هذه الملاحظة المختصرة خارج دائرة الهمزة لاستكمال الصورة بالنسبة لتصاريف الأفعال الناقصة في العامية، خصوصا الأفعال التي تنتهي بالألف الممدودة. هذه الألف تنقلب واوا أثناء تصريف الفعل بالفصحى لكنها تنقلب ياء بالعامية فنقول محيت بدلا من محوت وتليت بدلا من تلوت وكسيت بدلا من كسوت، غزيت بدلا من غزوت الخ.

والآن ننتقل من التغيرات التي طرأت على السواكن والحركات والهمزة لنتحدث عن التغيرات التي طرأت على المقاطع. أهم ما يميز البنية المقطعية في العامية أنها تتحاشى تتالي المقاطع القصيرة وتجاورها عدا في بعض الحالات الخاصة والمحدودة جدا، ومن أهمها:

1/ في حالة إضافة تنوين إلى اسم على وزن "فَعَلْ" مثل "وَلَدْ" لتصبح "وَلَدٍ"، كما في قولنا "وَلَدٍ قَـرْم" أو "جِمَلٍ عفر".

2/ في حالة تصريف مضارع "فَعَلَ" مع ضمير المتكلم وتكون فاء الفعل صوتا حلقيا مثل "أَعَرِفْ" < "أَ+عَـ+رِفْ".

3/ في حالة تصريف مضارع "تِفَعّل" أو "تِفيْعَلْ" مع ضمير المتكلم مثل "أَتِقَلّبْ" < "أَ+تِـ+قَلْـ+لَبْ"، "أَتِميوَتْ" < "أَ+تِـ+ميْـ+وَتْ".

4/ في حالة إضافة لام التعريف إلى اسم يبدأ بحركة غير مرتبطة بساكن، فحينما ندخل لام التعريف على كلمة "أسد" تصبح "أَ+لِـ+سَدْ". وعلى "أصايل" تصبح "أَ+لَـ+صا+يِلْ".

حينما يأتي مقطعان قصيران متجاوران حركة أحدهما فتحة والآخر حركته كسرة أو ضمة فإن الفتحة تبقى والحركة الأخرى هي التي تحذف، سواء كان موقعها في المقطع الأول أو الثاني. ففي الأمثلة "سَـرْقِـه"، "يكتَـرْبون"، "ينضَـرْبون"، "مِـعتَـرْفين" نلاحظ حذف كسرة الراء فتنضم الراء إلى المقطع السابق الذي حركته فتحة لتحوله من مقطع قصير مفتوح إلى مقطع طويل مغلق. أما في حالة كلمات مثل "عْـنِـبي" أو "رْكِـبي" فإن حركة المقطع الأول، وهي الكسرة في المثال الأول والضمة في المثال الثاني، تحذف وتبقى حركة المقطع الثاني وهي الفتحة التي تنقلب إلى كسرة وفق القاعدة التي سبقت الإشارة لها. وفي صيغة المبني للمجهول مثل "ذِبْـحت" تحذف حركة المقطع الثاني وتبقى حركة المقطع الأول الذي يتحول بانجذاب حرف الباء الساكن إليه من مقطع قصير مفتوح إلى مقطع طويل مغلق، وبذلك تتحول الكلمة من لفظة مكونة من ثلاثة مقاطع، اثنان قصيران وواحد طويل: "ذُ+بِـ+حَتْ"، إلى لفظة مكونة من مقطعين طويلين: "ذِبـْـ+حَتْ".

أما إذا كانت الحركة في كلا المقطعين المتجاورين فتحة تحذف الفتحة الأولى بحيث يلتصق ساكنها بساكن المقطع الثاني. ففي الأمثلة "بْـقِـره"، "جْـمِـلي"، "ضْـرِبَـت"، "يْـتِـضارِبون"، "اكتْـرِبَـت" نلاحظ أن فتحة المقطع القصير الأول حذفت وتحولت فتحة المقطع القصير الثاني إلى كسرة حسب القاعدة التي سبق شرحها. وفي الأمثلة "فْـتَـحَـت"، "سْـمَـحوا"، "انكْـسَـرَت" حذفت فتحة المقطع القصير الأول وبقيت فتحة المقطع القصير الثاني على حالها ولم تتحول إلى كسرة لأن المقطع الذي يليها يبدأ بحرف حلقي أو جهوري وحركته فتحة، كما سبق أن بينا. وفي الأمثلة "نْـخَـلِه"، "قْـهَـوه"، "سْـحَـله"، "يْـعَرف"، "يْـخَرف" تحذف الفتحة الأصلية والتي هي حركة المقطع الأول بينما تبقى الفتحة التي تقحمها العامية بعد الأصوات الحلقية مما يدل على رسوخ هذه الفتحة المقحمة والتي سبق الحديث عنها أعلاه.

ويرد المقطعان القصيران بالتجاور في بعض تصريفات الماضي من الأوزان الفعلية "فعل" و"افتعل" و"انفعل". فالمقطعان الأولان من الفعل الماضي "ضَـرَبَـتْ" مثلا كلاهما قصير حركته الفتحة لذلك يتحول في العامية، كما هو متوقع، إلى "ضْـرِبَـتْ". وقس على ذلك "ضْـرِبـَن"، "ضْـرِبه"، الخ. وصيغة "فعل" غالبا ما تأتي مفتوحة العين كما في "ضَـرَب"، لكنها أحيانا تأتي مكسورة العين كما في "شَـرِب" وقد تأتي مضمومة العين كما في "كَـبُـر". هذا يعني أن حركة المقطع القصير الأول فتحة في كل الحالات بينما تتراوح حركة المقطع القصير الثاني من الفتحة إلى الكسرة إلى الضمة. وحسب القواعد التي سبق شرحها فإنه إذا كانت الحركة فتحة في كلا المقطعين القصيرين المتجاورين فإن فتحة المقطع الأول تختفي وتبقى فتحة المقطع الثاني، تماما كما هو الحال في الأمثلة التي أوردناها توا. لكن إذا كانت حركة المقطع الأول فتحة وحركة المقطع الثاني كسرة أو ضمة فإن المتوقع، حسب القواعد الصوتية التي سبق شرحها، أن تبقى الفتحة وتختفي الحركة الأخرى؛ وعلى هذا الأساس تتحول "شَـرِبَـت" في النطق العامي إلى "شَـرْبَـت" و"كَـبُـرَت" إلى "كَـبْـرت". لكن الواقع أن النطق العامي يجيز لنا أيضا أن نقول "شْـرِبـَت" و"كْـبَـرَت". النطق "شَـرْبَـت" و"كَـبْـرت" يتسق مع القاعدة الصوتية التي ذكرناها، أما النطق "شْـرِبَـت" و"كْـبَـرَت"، وهو النطق الأكثر شيوعا، فإنه يطرد مع طريقة نطقنا لصيغة "فَعَل" بفتح العين مثل "ضَـرَب" التي لا يمكن أن ننطقها إلا "ضْـرِبَـت" و"كَـتَـب" التي لا يمكن أن ننطقها إلا "كْـتِـبَـت". أي أن المتكلم في نطقه لكلمات مثل "شربت" و"كبرت" له الخيار في أن ينطقها وفق القواعد الصوتية التي تخضع لها اللهجة أو أن ينطقها بشكل يطرد ويتوافق مع الصيغة المسيطرة التي تخضع لها غالبية الأفعال الثلاثية وهي الصيغة التي تكون فيها عين الفعل مفتوحة. هذا فيما يتعلق بالوزن "فعل"، أما الوزن "انفعل" والوزن "افتعل" فإنه مهما كانت حركة عين الفعل للمتكلم الخيار بين طريقتين في النطق: "انكَسْرَت" أو "انكْـسَـرَتْ، "انـقَـهْـروا" أو "انـقْـهَـروا"، "اكتـَسْـحوا" أو "اكـتْـسَـحَـوا"، "اكـتَـرْبَـن" أو "اكـتْـرِبَـن"، وهكذا.

ومن المعروف في النطق الفصيح أنه لا يتجاور مقطعان قصيران في مضارع "فعل" ولا في صيغة "استفعل". وينسحب هذا على النطق العامي إلا في حالة كون فاء الفعل حرفاً حلقياً يتطلب إقحام فتحة بعده. فالفعل "يَـعْـزِم" يتحول في العامية إلى "يَـعَـزِم" مما يعني أن يتحول المقطع الأول من مقطع طويل مغلق إلى مقطعين قصيرين حركتهما فتحة وهذا يتطلب، حسب القوانين الصوتية التي تخضع لها اللهجة، حذف الفتحة الأولى ليصبح النطق "يْـعَـزِم"، وهذا هو النطق الشائع مثل: "يْـحَـدى"، "يْـحَـصد"، "يْـحَـطب"، "يْـحَـلِـف"، "يْـخَـطم"، "يْـعَـتب"، "يْـعَـشب"، "يْـعَـقل"، "يْـغَـدي"، "يْـغَـسل". كذلك فعل الأمر "استَـعْــجِـل" يصبح في العامية "استَـعَـجِــلْ" ثم تسقط فتحة التاء وتبقى فتحة العين من أجل تحاشي المقطعين القصيرين المتجاورين وننطق الكلمة "استْـعَـجِـلْ"، ومثلها فعل الأمر "اسـتْـغَـفر" والماضي "اسـتْـهَـلك"، "اسـتْـعَـزَم"، "اسـتْـعَـدَل" والأسماء "مسـتْـغَـلِق"، "مسْـتْـهَـلِك"، "مسْـتْـحَـيَـه". لكن يمكننا، قياسا على نطق الأفعال الأخرى التي لا تكون فاؤها حرفا حلقيا، أن نقول "استَـعْـجِـل"، "مـسْــتَـحْـيه"، "اسـتَـغْـفِـر".

والكلمة الفصيحة التي تحتوي على ثلاثة مقاطع قصيرة متتابعة تختزل مقاطعها في العامية وتتغير بنيتها المقطعية لكن طبيعة هذا التغير تتوقف على طبيعة حركات المقاطع. فالكلمة الفصيحة "سَـرِقَـتي" المؤلفة من أربع مقاطع الثلاثة الأولى منها قصيرة "سَـ+رِ+قَـ+تي" تتحول في العامية، بعد حذف كسرة الراء، إلى "سَـرْقِـتي" المؤلفة من ثلاث مقاطع "سَرْ+قِـ+تي". أما "شَـجَـرَتين" المؤلفة أيضا من أربع مقاطع "شـَ+جَـ+رَ+تين" فأنها تتغير، بعد حذف فتحة المقطع الأول وفتحة المقطع الثالث، إلى "شْـجِـرْتين" ومقاطعها "شْـ+جِـرْ+تين".

وجميع الأمثلة السابقة تشير إلى أن الحركات القصيرة لا تحذف إلا في المقاطع القصيرة. إلا أن هذه القاعدة لها بعض الاستثناءات التي نلاحظ أنها في النطق العامي تحتفظ بحركة المقطع الأول القصير وتحذف حركة المقطع الثاني الطويل مثل:

** الأسماء التي على وزن "فَعُل" أو "فَعِل" في الفصحى: "عَضُد" < "عَضْد"، "كَـتِـف" < "كَـتْـف"، "كَـبِـد" < "كَـبْــد"، "عَـقِـب" < "عَـقْـب".

** الأسماء التي على وزن فُعُل في الفصحى: "عُـنُـقْ" < "عِـنْـقْ"، "كُـتُـبْ" < "كِـتْـبْ". 

أعلي
 

<< الصفحة السابقة  |  الشـعر النبـطي  |  الصفحة الرئيسية  |  الصفحة التالية >>