الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

المسمى والنشأة

 

الخلاف حول المسمى

شعبية الشعر النبطي والشعر الجاهلي 

الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلي 

مراحل التحول من الفصحى إلى العامية

 

حينما نتحدث عن المسميات ينبغي لنا الاحتراز من الخلط بين الاسم وذات المسمى. البحث عن نشأة التسمية مسألة تختلف عن البحث في نشأة المسمى، والمسألتان تختلفان بدورهما عن علاقة الاسم بالمسمى. سوف نؤجل الكلام عن نشأة الشعر النبطي ونبدأ أولا بالحديث عن التسمية. بعد استعراض النقاش الدائر في ساحتنا المحلية حول مسمى نبطي سوف نعرج على البحث في نشأة الشعر النبطي وعلاقته بالشعر الجاهلي. إذا استطعنا أن نثبت علميا على المستوى التاريخي والأدبي واللغوي علاقة الشعر النبطي بالشعر الجاهلي فإن مسمى "نبطي" في هذه الحالة لا يمكن أن يعني إلا الإشارة إلى عامية لغة الشعر النبطي. ثبوت أبوة الشعر الجاهلي للشعر النبطي ينفي نسبته إلى الأنباط. سوف أحاول لاحقا في هذا الفصل أن أقدم طرحا متكاملا وصياغة نظرية شاملة لهذه العلاقة، بما في ذلك تفسير الفارق اللغوي بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي، ورسم المسار التاريخي الذي سلكته لغة الشعر في بادية الجزيرة العربية في طريق تحولها من النظام العامي إلى النظام الفصيح. سآخذ بيد القارئ وأتدرج معه خطوة خطوة في مسيرة تحول الشعر النبطي من الشعر الجاهلي لعلنا بذلك نحطم أسطورة نسبته إلى الأنباط.

 

الخلاف حول المسمى

غالبية من تصدوا للتأليف في الشعر النبطي هم من أشباه الأميين الذين لا يحذقون فن الكتابة ولا يعرفون شيئا عن حرفة النشر والتأليف. وليت الأمر يقف بهؤلاء عند جمع الأشعار في دواوين للبيع، فهذا أمر لا اعتراض عليه، بل لا ننكر أنه مفيد. لكن الأمر وصل بالبعض إلى حد تناول قضايا علمية وبدأوا يكتبون عن نشأة الشعر النبطي وتاريخه وأوزانه وأغراضه وعلاقته بالشعر العربي، وهلم جرا. وحظيت التسمية بالنصيب الأوفر من هذه الهيليوغرافيات الفكرية التي يصعب في كثير من الأحيان فك طلاسمها أو هضم ما تتضمنه من مقولات فجة. وليس كل الكتاب الذين تناولوا نشأة الشعر النبطي وتسميته ممن لهم خبرة في دقائق البحث وأصول التحقيق فنجد البعض منهم لا يحيل إلى من سبقوه مما يوهم القارئ بأن له قصب السبق في ما يطرحه من آراء. ومما يفاقم المشكلة أن الكثير من هذه الكتابات نُشر بدون تواريخ مما يجعل تعقبها وتتبعها بالتسلسل عملية محفوفة بالمصاعب. وكانت النتيجة أن اضطرب النقاش بين الباحثين فانطمست صواه وتعرجت مسالكه وأصبح الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل هادئة لغربلة هذه الأقوال وتمحيصها حتى تتبين معالم الدرب وتستقيم سبل النقاش. لكننا لن نتمكن في هذه العجالة من استعراض آراء كل من تعرض لقضية مسمى الشعر النبطي وأصله وكيفية نشأته، بل سينصب اهتمامنا فقط على مقابسة مقولات من لهم وزنهم وثقلهم من المختصين وذوي الشأن. وسوف نرى أن الخلاف بين هؤلاء المختصين غالبا ما يكون مرده إما نتيجة لعدم معرفة الأصل اللغوي للمصطلح الشائع وعدم الإلمام بجذوره الاشتقاقية وحقوله الدلالية، كما هي الحال بالنسبة للمصطلح "نبطي"، وإما نتيجة لعدم استيعاب المفهوم العلمي للمصطلح الذي يطرح كبديل للكلمة "نبطي" وعدم الإحاطة بحدوده كميدان من ميادين البحث والمعرفة، كما هي الحال بالنسبة للمصطلح "شعبي".

يطلق مسمى الشعر النبطي على الشعر الذي يتناقله جمهور الناس من العامة والخاصة وينظمونه بلهجتهم ولغة الخطاب الدارجة على ألسنتهم في معظم أنحاء الجزيرة العربية، وخصوصا بين القبائل الرحل وسكان وسط الجزيرة ومنطقة نجد في أوسع وأشمل تعريف لها. وقد نزح هذا الفن الشعري مع من نزح من القبائل العربية من الجزيرة لتستقر في بلاد الشام وبلاد الرافدين ووصلت حتى الأهواز وعربستان. ولقبائل البدو في صحارى النقب وسيناء وشمال أفريقيا شعر قريب من الشعر النبطي في اللغة والرؤية والبناء وإن عرف بأسماء أخرى. وغالبية شعراء النبط في الماضي (عدا من لهم حظ من التعليم من بينهم) لم تعرف هذا الاسم ولم يحتفوا به، بل كانوا يطلقون على شعرهم مسمى شعر أو قصيد ويسمون الواحد منهم "شاعر" وإن كان أقل مرتبة سموه "قصاد" وأبياته تسمى "قصيده" أو "أبيات" أو "كْلِمات/كليمات" أو "مْشيخيته" (ج. مْشيخيتات/مِشاخيت) إذا كانت القصيدة قصيرة، دون تمييزها بأنها نبطية لأنه، بحكم أميتهم، لم تكن لترد على أذهانهم أصلا فكرة المقابلة أو المقارنة أو التمييز بين شعرهم وأي إنتاج شعري آخر. أما في البادية فإن مسمى شاعر نبطي أو الشعر النبطي لم يكن معروفا حتى عهد قريب.

وابن خلدون هو أول من تكلم عن هذا الشعر أو ما هو شبيه به وقال إنه يسمى الأصمعيات عند أهل المغرب ويسمى الشعر البدوي، أو القيسي، أو الحوراني عند أهل المشرق. ويفيد هذا التعدد في التسميات أن أهل ذلك الزمان لا يقلون عنا حيرة في محاولاتهم إيجاد تسمية مناسبة لهذا اللون من الشعر. وعدم إيراد ابن خلدون لكلمة "نبطي" قد يوحي بأن هذه التسمية لم تكن قد ظهرت بعد. على أنه ينبغي لنا أن نضع في الحسبان أن أصل التسمية من ابتداع أهل الجزيرة أنفسهم وتكاد إلى الآن تكون محصورة فيهم وابن خلدون من أهل المغرب. ما نسميه نحن الشعر النبطي وجد في لغته وأغراضه ومعانيه وأخيلته في أزمنة قبل زماننا هذا ويوجد الآن في مناطق أخرى خارج منطقتنا، لكن الأسماء التي ينعت بها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. والتسمية "نبطي" حتى الآن وعلى الرغم من كثافة تداولها عندنا في وسط الجزيرة ومنطقة الخليج لا إخالها معروفة عند إخواننا من الكتاب المشارقة خارج المنطقة، حتى القريبين منهم لنا. بل إن غالبية الكتاب في الشام وبلاد الرافدين، على الرغم من وجود قبائل بين ظهرانيهم نزحت من وسط الجزيرة وشمالها واستمرت تتوارث هذا اللون الأدبي، يميلون إلى استخدام بدوي بدلا من نبطي. وهم في هذه التسمية ليسوا بالضرورة متابعين لابن خلدون ومقلدين له لكنهم لاحظوا من واقع الحال في بلادهم أن هذا الشعر عندهم لا يتعاطاه إلا أبناء البادية ومن هم لصيقون بحياة الصحراء. وقد يكون هؤلاء المعاصرون في إطلاقهم مسمى بدوي على هذا الشعر محافظين على التسمية التي كان يستخدمها أهل المنطقة منذ زمن ابن خلدون والتي استمر استخدامها عندهم حتى وقتنا هذا.

كل الدلائل تفيد أن المسمى "نبطي" صُك ونُحت داخل الجزيرة العربية من قبل علمائها ونساخها وكان استخدامه شائعا بينهم، وكأنهم تواضعوا عليه فيما بينهم. أما خارج الجزيرة فلا نعثر على أي ذكر لهذه التسمية في معرض الإشارة للشعر النبطي. وأقدم شاهد عثرنا عليه يثبت استخدام كلمة "نبطي" في معرض الإشارة إلى هذا الشعر بيت من قصيدة وجدتها مخطوطة لأبي حمزة العامري الذي تشير القرائن التاريخية إلى أنه عاش في نهاية القرن السابع الهجري وبداية الثامن، وهذا ما سنأتي على ذكره في غير هذا الموضع. يقول مطلع القصيدة:

    طرقت أمامة والقلاص سجودا // والنجم هاوي كنه العنقودا

وفي آخر القصيدة وردت كلمة "نبطية" حيث يقول:

    الله من بيت وقصيدة شاعر // عند الأمور المعضلات حميدا

    كالدر إلا أنها نبطية // تحلى على التكرار والترديدا

    ثم الصلاة على النبي محمد // ما ناحت الورقا براس العودا

وقد ذكر الرحالة ويليام بلجريف الذي جاب أرجاء الجزيرة العربية سنة 1862م الشعر النبطي بهذه التسمية تحديدا (Palgrave 1865-1866, vol. 2: 169, 281, 335). وفي حديثه عن الإمام فيصل بن تركي يقول المؤرخ عثمان بن بشر "وقد مُدح الإمام فيصل بقصايد عديدة ومناظيم فريدة، على لفظ العرب ولفظ النبط." (1403، ج2: 226). كما أفادني الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل أن الشاعر ابن سحمان المتوفى سنة 1349هـ/1930م ذكر أن الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود كلفه بوضع قصيدة نبطية (كذا) قيلت فيه على اللسان العربي فحولها ابن سحمان إلى الفصحى. واستعمل الكلمة المؤرخ والنسابة عبدالرحمن بن حمد بن زيد المغيري في صفحة 452 من كتابه المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب في حديثه عن قبائل عسير وذلك في قوله "وقال شاعرهم النبطي:

    حن عسير بن قحطان بن هود // هامة العود ما فينا لفيفه"

ويقول الشاعر الكويتي في قصيدة له يرد بها على محمد الفوزان:

    شعر النبط من سابقٍ نظمه الجاش // ما هوب طربٍ له ولا هوب هاويه

وحينما انتشرت الطباعة في البلاد العربية والتفت الناس إلى جمع الشعر النبطي ونشره في دواوين ومجموعات كانت هذه التسمية الجاهزة قد نالت حظا من الرواج على الشفاه والرسوخ في الأذهان بحيث لم يجد أوائل الجماع والدارسين غضاضة في استخدامها ولم يفكروا في البحث لها عن بديل ولم يشغلوا أنفسهم بمعناها. ويلاحظ المتتبع أن نسبة كبيرة من الدواوين المطبوعة تحمل هذا الاسم الذي يؤكد خالد الفرج في مقدمته لمجموعه ديوان النبط: مجموعة من الشعر العامي في نجد أنه هو الاسم الرائج عند أهل نجد. وأول ديوان مطبوع من الشعر النبطي هو ديوان المرحوم الشيخ قاسم ابن محمد آل ثاني حاكم قطر، طبع حوالي سنة 1328/1910 تحت عنوان ديوان الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني وقصائد أخرى نبطية. ومعظم الدواوين الشعرية التي طبعت في بداية نشر هذا الشعر بالوسائل المكتوبة في مستهل النصف الثاني من هذا القرن الميلادي تسميه الشعر النبطي، مثل ديوان النبط (1372/1952) لخالد الفرج وخيار ما يلتقط من شعر النبط (1372/1952) لعبدالله بن خالد الحاتم. وتوالت بعد ذلك الدواوين التي تحمل كلمة نبطي في عناوينها مثل روائع من الشعر النبطي لعبدالله اللويحان والتحفة الرشيدية في الأشعار النبطية لمسعود بن سند بن سيحان الرشيدي، وغيرها كثير مما يصعب حصره.

ومن أوائل من روجوا للمسمى "نبطي" في الكتب المطبوعة وكرسوا استخدامه الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد في إشاراته العديدة لهذا الشعر في كتابه صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، الذي يقع في خمسة أجزاء تقارب في طبعتها الثانية ما مجموعه 1400 صفحة، حيث استشهد به على الكثير من المواقع الجغرافية وعقد مقارنة بينه وبين الشعر العربي ودافع عنه كمصدر من أهم مصادر البحث الجغرافي. وظهر صحيح الأخبار في أول طبعة له بأجزائه الخمسة خلال الفترة 1370-1372/1951-1952. وفي عام 1950 كان ابن بليهد قد أصدر ديوانه ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام باللغة الفصحى وأضاف له ملحقا سماه نماذج من الشعر النبطي. وفي مروره على الكثير من الأماكن والموارد والأحداث التاريخية يستشهد ابن بليهد بالشعر النبطي وينص في كل شاهد من هذه الشواهد على أنه من الشعر النبطي ويستخدم هذا المسمى بالذات دون غيره. وهذا مما يدل على رسوخ هذه التسمية ومرور زمن طويل على استخدامها؛ ومما زاد في رسوخها وتكريسها تكرار ابن بليهد المكثف لها في كتابه الذي تلقفته الأيدي حال ظهوره ولقي رواجا بين أهل العلم. والشيخ ابن بليهد هو أول من حاول من علمائنا المتأخرين أن يبحث في معنى "نبطي" ويبين المقصود بالتسمية حيث يقول:

يعلم قارئ هذا الكتاب أني قد استشهدت بأبيات من الشعر النبطي في ذكر بعض المعارك، وهي أشعار مستقيمة الوزن كالأشعار العربية، فأهل الأشعار العربية عرب على فطرتهم، وهؤلاء -أعني أهل الأشعار النبطية- عرب على فطرتهم، حَذَوا في كلامهم حَذوَ قوم من أهل البادية كانوا يعيشون كما يعيش العرب في بواديهم، وأصل مساكنهم البطائح التي بين العراقين: العراق العربي، والعراق العجمي، وقد كانوا معروفين باسم النبيط أو النبط، منذ العصر الجاهلي إلى اليوم وقد جاء في شعر الأعشى ميمون بن قيس:

          وطوَّفت للمال آفاقه // عُمانَ فحمص فأوريشَلَم

          أتَيت النجاشي في دارهِ // وأرض النبيط وأرض العجم

ويُروى عن ابن القِرِّيّة - وهو من رجال العصر الأموي، وكان في زمن ولاية الحجاج على العراق - أنه كان يقول: "أهل عُمَان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا" وقد قال أبو العلاء المعري في إحدى لزومياته:

          أين امرؤ القيس والعَذارى // إذ مال من تحته الْغبيطُ

          استعجم العرب في الْمَوَامِي // بعدك، واستعرب النبِيط

وهو يشير في بيته الأول من هذين البيتين إلى قول امرئ القيس بن حجر الكندي في معلقته:

          ويوم عقرتُ للعَذَارى مطيتي // فيا عَجَبَا من كورها المتحمل

          تقول وقد مال الغبيط بنا معاً // عَقَرْتَ بعيري ياامرأ القيس فانْزِل

وإذ قد عرفت أن طريقة الحياة عند النبط هي طريقة الحياة عند العرب، فلا عجب أن تجد توافقاً عظيماً في المعاني التي يذكرها هؤلاء وهؤلاء فيما يتغنون به من أشعارهم، ولا عجب أن تجد هؤلاء النبيط يلتزمون الأوزان في حدائهم وأشعارهم كما يلتزمها العرب، وإن اختلفت الأوزان بعض الاختلاف فليس في ذلك من عجب، وكما اختلفت ألفاظهم وعباراتهم ولهجاتهم فإن أوزانهم تختلف، وقد تتفق ألفاظهم بعض الاتفاق، وقد تتفق أوزانهم بعض الاتفاق، ثم اختلط هؤلاء بالعرب في بواديهم بحكم الفرار من الحروب، وزارهم في بلادهم عربٌ من خلص العرب، فانتقل إلى هؤلاء العرب شيء من لسانهم وطريقهم في التحدث عما في أنفسهم من خوالج فكان من أثر ذلك أن انتقل إلى كثير من العرب في نجد وغير نجد من بلاد العرب أسلوبهم في الشعر فقالوا على مثاله، والغرض الآن أن نَدُلك على أن أشعار النبيط أشعار مستقيمة المعاني، قريبة أو متحدة مع المعاني التي يطرقها العرب. (ابن بليهد 1392، ج2: 189).

إن إحساس ابن بليهد بأنه ملزم بتعريف المسمى "نبطي" والتعريف الخاطئ الذي قدمه للمسمى أوقعاه في شرك منطقي حول أصل الشعر النبطي ونشأته. لقد وقع رحمه الله في خطأ أدى إلى الكثير من البلبلة بالنسبة لمن جاؤوا بعده إذ توهم في تعريفه لكلمة نبطي أن المقصود بها نسبة هذا الشعر إلى الأنباط ولم يخطر في باله أن المقصود منها أن لغته عامية. والواقع أن ابن بليهد يتبنى موقفين متضاربين. فهو من خلال المقارنات التي يعقدها بين الشعر العربي والشعر النبطي (1392، ج2: 189-210) يكشف عن إدراك عميق لما بين هذين الإرثين من تشابه وتشابك، لكنه لم يستدل من هذا التشابه إلى أي علاقة نسب بينهما وإنما عزاه إلى تشابه بيئة الأنباط مع بيئة العرب وإلى ما حدث بين هذين الجنسين من احتكاك واتصال. إنه في تفسيره للاسم يَغفل عن طبيعة الشعر نفسه وتضلله العلاقة الاشتقاقية التي تربط الاسم بجنس الأنباط. ونتيجة الفهم الخاطئ لمعنى الاسم حاول ابن بليهد اعتساف علاقة تاريخية ولغوية وأدبية بين الشعر النبطي والأنباط. وهذا مما أساء إلى الاسم وإلى المسمى إساءة بالغة. لم يعان أي موروث شعري وإنساني من مشكلة الاسم مثلما عانى الشعر النبطي الذي يرفضه الكثيرون ويزهدون فيه ويترفعون عن الاطلاع عليه ومحاولة فهمه ظنا منهم، بسبب الفهم الخاطئ للاسم الذي بدأه ابن بليهد، أنه يرتد بجذوره اللغوية إلى الأنباط. هذا بينما استنفد قسم آخر من الكتاب طاقتهم وجهدهم في محاولة انتشال الشعر النبطي من براثن هذه التسمية.

من الاحتمالات المتعددة لتفسير الكلمة "نبط" نشأ الاختلاف والاضطراب بين الدارسين الذين انطلى على معظمهم الوهم الذي وقع فيه ابن بليهد في نسبته الشعر النبطي إلى الأنباط، ووقف علماؤنا حائرين بين الشبه الواضح بين الشعر العربي والشعر النبطي مما يوحي بأن الأخير امتداد للأول وبين الاسم الذي يوهم اشتقاقه بأن منشأ الشعر النبطي يعود إلى الأنباط. فهذا خالد الفرج في تقديمه لمجموعة ديوان النبط: مجموعة من الشعر العامي في نجد يقول متأثرا بابن بليهد "واسم هذا النوع من الشعر عند أهل نجد يدل على أنه قد أتاهم من العراق أو مشارف الشام فهم يدعونه بالنبطي أو شعر النبط، وكانوا يطلقون اسم الأنباط على فلاحي سواد العراق، وبدو مشارف الشام، وفلاحيه، لأن التحريف لحق اللغة العربية هناك قبل الجزيرة، لكونها أعجمية الأصل، وسرعان ما اندمج الفاتحون العرب بالسكان فدخلت العجمة على الألسنة." (الفرج 1371، ج1: ط-ي). وقد قرأ الفرج ما كتبه ابن خلدون في مقدمته عن الشعر البدوي فأصبح يتأرجح في رأيه بين موقف ابن خلدون الذي لا يشك في صلة الشعر البدوي بشعر العرب القدماء وبين موقف ابن بليهد الذي يصله بالأنباط. فعلى الرغم من مجاراة الفرج لابن بليهد في رأيه حول صلة الشعر النبطي بالأنباط فإنه يؤكد في مقدمته الآنفة الذكر على أن الشعر النبطي انحدر من الشعر العربي القديم الذي تسرب إليه اللحن وتغيرت لغته بالتدريج حتى وصلت إلى هذا المستوى العامي:

وكان الأدب العربي الفصيح قد انتقل من البادية العربية الصريحة على أيدي الرواة والرواد الذين أولعوا بتدوين اللغة العربية وآدابها من الأعراب في القرنين الثاني والثالث إلى المدن وبطون خزائن الكتب وحفِظَه القرآن ودراساته وتفاسيره من التغيير الكثير والتبديل الواسع. ولكنه في البادية تطور بحكم التطور الطبيعي إلى لغة أخرى ممسوخة مشوهة عن الأصل ولكنها محتفظة بكل عناصر أمها القديمة لأنها لم تتطور طفرة واحدة بل بتدرج ونضوج مما أكسبها جميع صفات أصلها، ولم تدخل تطورها العجمة التي أسرعت إلى ألسنة أهل السواد والمدن فعجلت تبديل لهجاتها العامية سريعا وأكسبتها ألفاظا لا توجد في لغة البادية إلا النزر اليسير منها. فالشعر العامي النجدي توجد فيه جميع العناصر والمميزات التي كانت موجودة في الشعر الجاهلي من بلاغة وإيجاز وسرعة خاطر ودقة وصف واتحاد موضوع.

والمؤرخون القدماء لا يذكرون لنا شيئا عن تبدل العربية إلى العامية في جزيرة العرب ومتى طرأ هذا التطور لأنه على ما يظهر تدريجي. وأول الأمارات على ذلك أن كف الرواة الذين يرحلون إلى البادية لكتابة مفرداتها من أهلها الفصحاء. ولا ندري هل كان منشأ ذلك ضعف روح البحث العلمي في الرواة المتأخرين أم اكتفاؤهم بما دونه المتقدمون أم أن اللغة العربية في البادية فسدت ولم تعد صالحة لأن يؤخذ عنها شيء. على أن أقدم ما وصل إلينا من الشعر العامي في نجد هو أشعار بني هلال وما أورده لهم ابن خلدون في مقدمته من أشعار لا تختلف عما هي عليه الآن أشعار أهل نجد. (الفرج 1371، ج1: ز-ح).

وفي كتابه الأدب الشعبي في جزيرة العرب يعيد الشيخ عبدالله بن خميس التأكيد على قوة الراوبط بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي. أدرك الشيخ بحسه اللغوي والنقدي عمق العلاقة التي تربط الشعر النبطي بالجاهلي واهتدى إلى أن الأصل التاريخي للشعر النبطي هو الشعر الجاهلي، حيث لا يمكن أن يكون اللاحق إلا امتدادا للسابق. لكن هذا يتناقض مع نسبة الشعر إلى الأنباط كما توهم التسمية. إلغاء هذا التناقض يتطلب نقض نظرية ابن بليهد وتبرئة الشعر النبطي من النسبة إلى الأنباط. يتلخص حل مشكلة النسب بالنسبة لابن خميس في تغيير المسمى نبطي واستبداله بالمسمى شعبي، كما في تأكيده "بأن حذاق العرب وغياراهم المحافظين على لغتهم الأصيلة حينما يسمعون هذا الشعر يعيرونه بأنه شعر نبطي ويصرون على هذه التسمية كتابة ونطقا حتى ألحقوه بالنبط لما يحمله من مغامز تنافي اللسان العربي الفصيح فهذه التسمية هي من الألقاب التي تشعر بذم علقت بالألسنة فاستأنست بها فعاشت مع هذا الشعر فنسي سببها وبقيت ملازمة لهذا اللون من الشعر حليفة له. على أن النقاد والباحثين يستنكفون من هذه التسمية ولا يرضونها ويسمونه الشعر الشعبي." (ابن خميس 1402: 65). ويقول في موقع آخر "والغيارى من علماء هذه الأمة المحافظون عليها، الحراس على صميمها أن يداخله ما يداخله من لكنة أو عجمة أو دخيل سموا هذا الشعر نبطيا استهزاء واستنكارا وسخرية . . وقالوا إن هذا كلام نبط لا كلام عرب . . وهذا ما لا تقبله العربية أو تسيغه ومن ثم سمي نبطيا تشبيها لا تحقيقا واستهزاء لا حقيقة . . لأن النبط قوم فسدت لغتهم وانحدرت لهجتهم." (ابن خميس 1402:83). ولا ندري من يقصد ابن خميس بحذاق العرب والغيارى من علماء هذه الأمة، إذ لم يقع بصري، رغم البحث الجاد في كتابات علمائنا الأقدمين، على أي رأي مكتوب يعبر عن استهزاء وسخرية واستنكار للشعر النبطي ولا ما يفسر سبب اختيارهم للتسمية "نبطي". ما يطرحه ابن خميس هنا ليست آراء معروفة لرجال معروفين. إنه يطرح تصوره هو لما يمكن أن تكون مقاصد وأهداف واضع الاسم من التسمية.

الحقيقة أننا لا نعرف تحديدا متى ولا كيف أطلق اسم نبطي على هذا اللون الشعري ولا نعرف من أطلقه ولا نعرف قصده ولا المعنى الذي يرمي إليه. جذر الكلمة "نبط" واسع الاشتقاقات وغني بالدلالات. لكن أول من استخدم الكلمة للإشارة لهذا الشعر الذي نحن بصدده لم يكتب لنا تعريفا اصطلاحيا يحدد به أي معنى من المعاني المحتملة للكلمة يريد أن يشير إليه ويدل عليه بهذا الاسم؛ وكان المهتمون بالشعر النبطي يرددون الاسم ويستخدمونه دون البحث في معناه ودون إثارة أي تحفظ على مناسبته ودون بذل أي جهد للبحث عن بديل أنسب وأدق في التعبير. وحيث أن أحدا من هؤلاء لم يعبر لنا عن فهمه للمقصود بالإشارة إلى هذا الشعر بأنه نبطي فإننا لا نعرف كيف فهموا هذه الكلمة. وهذه نقطة ضعف خطيرة وفجوة سمحت لولوج التخرصات وتضارب الآراء بين المتأخرين حول المعنى الذي ربما يكون قصده واضع المصطلح الأول ومن تبعه في التسمية. إننا هنا أمام شاهد لغوي صارخ على اعتباطية اللغة وعشوائية العلاقة بين الدال والمدلول. لو كانت العلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية منطقية لما غاب عنا القصد الذي رمى إليه ذلك الناسخ أو الكاتب أو الأديب أو العالم الذي وضع للشعر النبطي هذه التسمية؛ لعرفنا ما إذا كان قصده نسبة الشعر إلى الأنباط؟ أم إلى أنه مستنبط من الشعر العربي أم لأن لغته عامية؟ الخ.

لجأ الجامعون الأوائل إلى استخدام كلمة نبطي ليميزوا هذا الشعر العامي عن الفصيح. وأشك أن دافعهم وراء هذه التسمية هو ازدراء الشعر النبطي والتقليل من شأنه، كما يرى ذلك الشيخ عبدالله بن خميس. أو نسبته إلى الأنباط، كما يرى ابن بليهد والحاتم. هل يمكن أن الاسم من البداية جاء نتيجة ظن خاطئ بأن لغة الشعر النبطي تضرب بجذورها إلى الأنباط؟ في اعتقادي أن أول من أطلق الاسم بداية لا بد وأنه كان على اطلاع واسع ومعرفة دقيقة بهذا الشعر والشعر الجاهلي ولا يمكن أن يفوته ما بينهما من وشائج وعلاقات بحيث يشكل المتأخر الاستمرارية الطبيعية للمتقدم. لا يمكن أن يكون القصد من إطلاق الاسم إلا التأكيد على عامية لغة الشعر النبطي، وتلك أبرز سمة تميزه عن الشعر العربي القديم. ومن المعروف أن كلمة نبطي كانت في الأصل تطلق على لغة الأنباط. ثم أخذت دلالات الكلمة في التحول والتبدل وتوسع علماء اللغة في استعمالها حتى أصبحت الكلمة لا تطلق فقط على لغة الأنباط بل أيضا على الكلام العربي الذي لا يتقيد بقواعد الفصحى. أي أن مسمى الشعر النبطي يعني ببساطة الشعر الذي لا يتقيد بقواعد الشعر العربي الفصيح وينظم بالعامية التي يتكلمها سكان وسط الجزيرة العربية.

وشفيق الكمالي، على ما أعلم، هو أول من نبه إلى أن نبطي تشير إلى عامية اللغة ولا يقصد بها النسبة إلى الأنباط وذلك في الباب الثاني من كتابه الشعر عند البدو (1964: 61-74). يقول الكمالي "ومن الطبيعي أن هذه التسمية لا تعني أن الأنباط هم أول من قرضه وإنما تدل على فساد لغته ومجانبتها اللغة الفصحى بحيث أصبحت تحاكي لغة النبط، ولغة النبط المثل في البعد عن الفصاحة وعليه فقولهم شعر نبطي إنما يريدون به أنه جاء في بعده عن الفصاحة كلغة النبط في بعدها عنها." (الكمالي 1964: 67-68). وقد هاجم ابن خميس هذا العمل القيم هجوما عنيفا (ابن خميس 1402: 123-125) لأنه لم يجد في الكتاب إطراء كافيا له واعترافا واضحا بريادته في هذا الميدان. يقول ابن خميس:

فكان ما أثار دهشتي واستجلب تعجبي هو أن جملة من كتابي منقولة نقلا إلى كتاب المؤلف بدون إشارة ولا عبارة . . وجملة أخرى منقولة بتصرف إما بتقديم أو بتأخير أو بزيادة أو بنقص أو بتصرف في الصياغة أو بنقلها من باب إلى باب آخر . . الخ.

وكمثال على ذلك نقل المؤلف من كتابي المذكور ثلاثمائة وسبعين شاهدا من أبيات الشعر نقلها مستشهدا بها على ما استشهدت به عليه بدون أن يشير إلى المرجع أو يلتزم جانب الأمانة في التأليف.

. . . أقول لو أن الأمر وقف هنا لكان ميسورا . . ولكن اقرأ للمؤلف في مقدمة كتابه قوله: "ولقد حز في نفسي أن يهمل هذا الشعر ويترك نهبة للضياع والاندثار ويسدل عليه ستار الإهمال والنسيان فما أعلم أن باحثا قد خص هذا الموضوع بدراسة على حيويته وطرافته وعظم قيمته . . "

ويقول في مكان آخر: "عندما أقدمت على كتابة هذا البحث كنت على علم بثقل المهمة التي ألقيتها على عاتقي وذلك لندرة المصادر التي تبحث في هذا الموضوع . ."

ويقول كلاما غير هذا يريد أن يثبت فيه أن هذا الموضوع بكر قد فض هو بكارته وأنه قفر من الرواد جاس هو خلاله وأصبح قاهر قمته ورائد فضائه ولسان حاله يقول:

          فإن الماء ماء أبي وجدي  // وبئري ذو حفرت وذو طويت

(ابن خميس 1402: 123-124).

وعلى الرغم من هجومه على الكمالي نجد أن ابن خميس يقلع منذ ذلك الحين عن تفسيرات ابن بليهد والحاتم لمسمى "نبطي" ويتبنى في نهاية الأمر التفسير الذي طرحه الكمالي بالنسبة للمقصود من استخدام كلمة نبطي، كما فعل في رده على صادق محمد أحمد بخيت. كان الأستاذ بخيت قد ألف كراسة عنوانها الأنباط والشعر النبطي في مدخل تاريخي موجز، وذلك بعد افتتاح ديوانية شعراء النبط في الكويت عام 1977، أكد فيها على أن الشعر النبطي سابق للشعر الجاهلي وأنه يعود إلى الأنباط. وواضح من مضمون الكراسة أن صاحبها ليس مؤهلا للخوض في هذا الموضوع وليس في كلامه ما يبعث على أخذ ادعاءاته مأخذ الجد. لكن بخيت لم يعدم من يقابسه ويطارحه. طبيعة الموضوع وفئة الكتاب المتعاطين له والحساسية التي صار المتأخرون يشعرون بها تجاه كلمة نبطي؛ كل هذه العوامل دفعت بالعديدين لينبروا للرد على بخيت؛ بمن فيهم ابن خميس الذي رد على بخيت في مقالة له بعنوان "الأنباط والشعر النبطي" ردا لا هوادة فيه، كما هي عادة شيخنا الحبيب. وجاء في رد ابن خميس قوله "الشعر النبطي ياسيدنا الشيخ سمي نبطيا لأن بعض قواعده تخالف إلى حد ما قواعد الشعر الفصيح." (ابن خميس 1402:82-83). هكذا يتحرر ابن خميس من سطوة الخطأ الذي وقع فيه ابن بليهد في فهمه لكلمة نبطي ويدرك، بعد قراءته للكمالي، أن الكلمة تشير إلى عامية اللغة. أما ما قبل ذلك في كتاباته السابقة فإن ابن خميس لم يبتعد كثيرا عن مفهوم ابن بليهد والحاتم لكلمة نبطي ويعقد في كتابه الأدب الشعبي في جزيرة العرب (1378: 36-55) فصلا كاملا حول كلمة نبط واشتقاقاتها ومعانيها. وكلام ابن خميس هناك متشعب لكنه يلخص رأيه في مقالة له نشرها لاحقا جاء فيها:

فأنا في كتابي (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) أفضت في الكلام على هذه التسمية (شعر النبط) والتمست تعليلا لها، بأنها إما من باب استنبط الشيء إذا استخرجه فكأنهم استنبطوا هذا اللون من الشعر استنباطا . . أو أنها من باب الشية والعلامة؛ فكأنها علامة على هذا اللون من الشعر . . أو أنها مأخوذة من الأنباط؛ وهم جيل من الناس معروف تاريخهم، وليسوا بعرب . . وإذا سمع الغيارى على لغة الضاد هذا اللون من الشعر سموه شعرا نبطيا استهجانا واستهزاء، ومن ثم سمي شعرا نبطيا . . وهذا الأخير هو الذي أرجحه لقربه من الصواب.

هذه تعليلاتي لهذه التسمية، ولست براض عنها ولا مؤيد لها أن تطلق على هذا اللون من الشعر. (ابن خميس 1402: 99).

وهكذا نجد أن ابن خميس مع اعتراضه الشديد على نسبة الشعر النبطي إلى الأنباط يتتبع في كتابه الأدب الشعبي في جزيرة العرب خطى ابن بليهد والفرج في تحقيقه لكلمة "نبط" ويقع مثلهما تحت سطوة الاسم وتأثير الفهم الخاطئ وصار يفتش في القواميس عن معاني الكلمة واشتقاقاتها. وهكذا حاول ابن خميس حل المشكلة عن طريق المعاجم وبذلك وقع في مصيدة التعريفات القاموسية وفتح الباب لمن جاؤوا بعده لمزاولة هذه الهواية. وبذلك دخلت التسمية في دوامة من الجدل ومتاهات من التخريجات والتعليلات حول أصل الأنباط ودلالات كلمة نبط واشتقاقاتها وصار الكتاب يتفننون في استخراج معانٍ واشتقاقات جديدة لكلمة "نبط". يمسك الواحد منهم بأحد المعاجم مثل الصحاح أو لسان العرب فيستخرج كلمة نبطي ثم يلتقط أحد مشتقاتها وما يتبعه من شواهد لغوية ويفتي بأن هذا هو أصل التسمية وأساس النسبة. فهذا يقول بأن الاسم نسبة إلى واد قرب حوراء بناحية المدينة وآخر يعارض مدعيا أن المقصود نسبته إلى فخذ النبطة من قبيلة سبيع. وأهون هذه الشطحات، وإن كان لا يختلف عنها في مجانفة الصواب، القول بأن أساس التسمية من الاستنباط حيث أن الشعر النبطي مستنبط من العربي (وهنا ينبغي تسميته، كما يرى أصحاب هذا الرأي، "نَبْطي" لا "نَبَطي"!) وهكذا تتعدد التعليلات والأسباب التي تساق لتفسير تسمية الشعر النبطي بهذا الاسم بتعدد الحقول الدلالية لكلمة "نبط" ومشتقاتها.

ولقد أريق مداد غزير ودارت حوارات ساخنة حول أصل تسمية هذا الشعر نبطيا وما المقصود بالتسمية. ومن الكتاب من يرفض هذه التسمية من أساسها ويقترح بدائل لها لتحل محلها وتستخدم بدلا منها، مثل كلمة "شعبي" التي اقترحها ابن خميس بدلا من "نبطي". وقد شاعت تسمية "شعبي" التي اقترحها ابن خميس نظرا لافتتان الناس بالكلمة لذاتها ورواجها بين أرباب القلم لما تحمله من إيحاءات وأصداء. ومما دفع بعض الكتاب إلى التشيع لهذا المسمى ما يحملونه في مخيلاتهم من نظرة رومانسية تجاه الأدب الشعبي والثقافة الشعبية. وكانت قد راجت بعد الثورة المصرية بين طبقة المثقفين العرب كلمة شعبي ومشتقاتها وكثرت المؤلفات عن أدب الشعب وثقافة الشعب، خصوصا بين الكتاب المصريين، ربما لأسباب أيديولوجية أكثر منها علمية. كما أن تلك الفترة تمثل أوج التعصب بين المثقفين العرب للعنصر العربي والقومية العربية لحد يصل عند البعض منهم إلى درجة الشوفانية. في ظل هذه الأجواء الفكرية والنفسية لم يرتض ابن خميس أن يساور أحدا الشك بأن عرب الجزيرة الخلص الذين يلهجون بالشعر النبطي يمتون لجنس الأنباط بأية صلة، فالعرب في رأيه "تستنكف أن تلحق بها نسبا ومحتدا ومكانة من يمثل الصغار والمهانة والتدني."! (ابن خميس 1402: 80).

وتدور بين ابن خميس وغيره من الكتاب رحى معركة كلامية صاخبة حول التسمية أشهرها تلك التي تحطمت فيها الرماح بينه وبين الدكتور أحمد الضبيب، ثم تلاها تراشق بينه وبين الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري (ابن عقيل 1402، ج1: 7-17). يقع الدكتور الضبيب، وهو من هو في علمه وفضله، فريسة الوهم الذي زرعه في الأذهان المرحوم ابن بليهد ويحاول تبرئة الشعر العامي في جزيرة العرب من وصمة الانتساب إلى لأنباط.

ولأن ينسب هذا الشعر إلى القوم الذين بدأوا قرضه خير من أن ينسب إلى قوم لم يعرفوه ولم يصدر عنهم وهم "النبط" ولأن ينسب إلى بدو الجزيرة العربية خير من أن ينسب إلى أعجام العراق أو العرب المتشبهين بهم من سكان سواد العراق . .

. . . لأن في نسبته إلى النبط أو الأنباط مغالطة كبرى، وخطأ شائع لا مبرر له ولا سند ولا يجوز السكوت عليه. ومن الواجب تصحيحه وهي تسمية يقصد بها غمز هذا الشعر بالعجمة، وابتعاده عن الأصل العربي. (الضبيب 1398).

ويقترح الدكتور الضبيب اسما لهذا الشعر هو بدوي بدلا من نبطي. ويسوق أسبابا من جملتها أنه نشأ بين قبائل الصحراء وأن لغته ونفسه وروحه وصوره بدوية صحراوية، ثم إن هذا هو الاسم الذي عرف به عند أهل المشرق منذ أيام ابن خلدون. صحيح أن سكان وسط الجزيرة العربية يتمايزون فيما بينهم وينقسمون حسب اصطلاحهم والعرف الدارج بينهم إلى بدو وحضر؛ لكننا نلاحظ، وإلى عهد قريب، أن الكلمتين بدوي ونجدي تكادان تكونان مترادفتين في أعين إخواننا العرب من خارج الجزيرة الذين يعتبرون سكان نجد كلهم بدوا، بمن فيهم الحضر المستقرون في القرى الزراعية. وأهل نجد، بدوهم وحضرهم، أقرب الناس لغة وطباعا وألصق بأهل البادية أينما وجدوا في الأقطار العربية. وفي نجد لا وجود لتلك الفروق الشاسعة بين البدو والحضر كتلك التي نلحظها مثلا في مصر والشام والحواضر العربية الأخرى. وبناء على هذه الأسس يرى الدكتور الضبيب أن تسمية الشعر البدوي هي الأنسب بدلا من الشعر النبطي. لكن ابن خميس، طبعا، لا يرضى بذلك ويصر على تسميته شعبي.

وقد سرد الدكتور الضبيب اعتراضاته على مسمى "شعبي" في مقالته التي حاول فيها الترويج لمسمى "بدوي" ( الضبيب 1398). كما اعترض كذلك طلال السعيد (1981: 124-125) على مسمى ابن خميس ورأى الإبقاء، كما هو واضح من عناوين مؤلفاته، على مسمى "نبطي". أما ابن عقيل فإنه يرفض "نبطي" و"شعبي" و"بدوي" ويرى أن أنسب الأسماء هو العامي، وهي تسمية قد يوافقه عليها الدكتور عبدالله العثيمين. وأورد كل من الثلاثة حججه على عدم لياقة إطلاق مسمى شعبي على الشعر النبطي مستندين في ذلك على التعريف المدرسي للأدب الشعبي الذي يؤكد على: 1) بساطته لغة ومضمونا، 2) تعبيره عن روح الجماعة، 3) عدم معرفة المؤلف، 4) تعدد الروايات وعدم ثبات النص، 5) الشيوع والتفشي مشافهة.

وقد أفاض ابن عقيل في مناقشة هذه التسميات في مقدمته للأجزاء الأول والثاني والرابع من موسوعته ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد وفي مواضع أخر من كتاباته المتناثرة عن الموضوع. واعتراض ابن عقيل على "شعبي" و"بدوي" أشد من اعتراضه على "نبطي" التي يقف منها موقفا لينا مهادنا وإن كان يرجح استخدام "عامي" بدلا منها. يقول ابن عقيل "كانت النبطية عند اللغويين مرادفة للعامية وهذا سبب راجح كاف متعين الرجحان في تسمية هذا الشعر الذي فسدت لغته شعرا نبطيا." (ابن عقيل 1402، ج1: 22). كما يقول "والراجح أن النسبة إلى أنباط السواد لا لأنهم أول من نظمه وإنما لأنهم يلحنون في لغتهم . . . إن تسمية هذا الشعر العامي بالشعر النبطي تسمية جائزة لأن نبطيا تساوي عاميا. وهذا الترادف بين عامي ونبطي سبب متعين الرجحان لإطلاق نبطي على الشعر العامي." (ابن عقيل 1402، ج1: 25-26).

ولا بد لنا من وقفة عند المسوغات التي يسوقها ابن عقيل في تحبيذه إطلاق مسمى الشعر العامي. من هذه الأسباب أن "هذا الشعر الذي ندرسه لم تستقر المواضعة بعد على تسميته." (ابن عقيل 1402، ج1: 21) وأن الاسم الذي يتم التواضع عليه ينبغي أن يكون جامعا مانعا. (ابن عقيل 1406، ج4: 13). وقول ابن عقيل مردود عليه. بادئ ذي بدء، هذه التحديدات التي يرسمها ابن عقيل ويعدها جواز المرور بالنسبة لأي مصطلح ربما تصلح في مجال العلوم الشرعية أو العلوم البحتة. أما الفنون فإنه جرت العادة أن يكون العرف والتداول والجريان على الألسن هي المتطلبات اللازم توفرها لمناسبة الاسم، الذي هو في العادة ليس من تواضع الدارسين المختصين وإنما من تفتقات أذهان جمهور هذا الفن من مبدعيه ورواته والجمهور المتذوق له. أما مسألة الجمع والمنع فليس هناك مسمى أجمع ولا أمنع من نبطي. ألا ترى أننا حينما نستخدم بدلا منها أي مسمى آخر مثل شعبي أو عامي نضطر لإضافة عبارة تفسيرية تحدد أي عامي أو شعبي نقصد؛ كأن نقول الأدب الشعبي في جزيرة العرب (ابن خميس) أو الأدب العامي بلهجة أهل نجد (ابن عقيل). أما حينما نقول شعر نبطي فإن الذهن لا ينصرف إلى أي شيء آخر غير هذا الشعر الذي نتحدث عنه ولا يطلق هذا الاسم إلا على هذا الشعر. بل إن ابن عقيل وابن خميس يضطران غالبا إلى استخدام المسمى "نبطي" ليحددا مرادهما ويبينا للقارئ أي شعر يقصدان. ولا أدل على حيرة ابن عقيل من أن كلمة "نبطي" تظهر في عنوان آخر كتاب له عن أوزان الشعر النبطي هو الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي بلهجة أهل نجد والإشارة إلى بعض ألحانه.

ثم إنه لأمر غريب أن ينفي ابن عقيل حدوث المواضعة والتي هي في نظري قائمة فعلا بحكم قدم المسمى نبطي وشيوعه بين الأقدمين والمحدثين، كما بينا في صفحات مضت. ألا يتحقق التواضع بذلك؟ ما يقوم به ابن عقيل في واقع الأمر هو إلغاء مسمى تم التواضع عليه فعلا ليرمسه في التراب ويقيم على جدثه اسما آخر لا يوافقه عليه إلا القلة.

وليس الخلاف حول أصل التسمية واشتقاقها وملاءمتها للمسمى مقصورا على الشعر النبطي. المطلع على الدراسات العربية في ميدان الأدب الشعبي يلاحظ أن الكاتب عادة حينما يحاول تحديد مادة بحثه واختيار مسمى لها يجد نفسه محتارا بين ثلاث مسميات هي عامي أو شعبي أو المسمى التقليدي المستخدم محليا مثل نبطي أو حميني أو زجل أو ملحون، الخ. وقد يلجأ البعض إلى المسمى المحلي تحاشيا لما في استخدام عامي أو شعبي من فضفاضية وعمومية ولأن المسمى المحلي يحدد بالضبط إلى أي منطقة من مناطق عالمنا العربي الكبير وإلى أي لهجة من لهجاته تنتمي مادة الدراسة. لكننا لن نعدم من يعترض على المسميات المحلية، وأهم الاعتراضات التي تساق عادة ضد استخدام الاسم المحلي أنه مجهول الأصل والنشأة والاشتقاق. فمثلما اختلف الباحثون عندنا حول اشتقاق المصطلح "نبطي" ومتى بدأ استخدامه، نجد أحمد محمد الشامي والدكتور عبدالعزيز المقالح من اليمن يعلنان عجزهما عن تحديد متى أطلقت تسمية "حميني" على الشعر العامي في اليمن وما إذا كان الاسم مشتقاً من "حميري"، أم من "حميّا"، أم من "حمن" إحدى مناطق اليمن، أم من "حماقا" وهو ضرب من الشعر العامي الذي شاع منذ زمن العباسيين. (الشامي 1965: 214، 1974: 353-366، المقالح 1978: 11، 113، 115). كما أن المسميات المحلية بطبيعتها محدودة الاستخدام حيث يجهل مدلولها الكثير من الناس خارج منطقة استخدامها. لذا نجد الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه شعر العامية في اليمن يستخدم "عامي" بدلا من المسمى المحلي "حميني" "لأننا نحن في اليمن ما زلنا نجهل معنى تسمية هذا الشعر بالحميني. وما تزال هذه التسمية محل خلاف وجدل منذ ما يقرب من ثلث قرن حتى الآن ولم يهتد أحد بعد إلى المعنى الحقيقي لهذه التسمية. وإذا كان هذا هو شأننا في اليمن فكيف بالقارئ في خارج اليمن." (المقالح 1978: 11-12).

إلا أن ما يشوب كلمة "عامي" من دلالات اجتماعية تجعل البعض يتحفظ في استخدامها. من هؤلاء الدكتور عبدالله ركيبي الذي يتردد في استخدام هذا المصطلح لما قد يوحيه بأن ناظم القصيدة وكذلك المتلقي أمي من عامة الناس بينما نجد في واقع الأمر أن نسبة كبيرة ممن ينظمون هذه الأشعار ومن يحرصون على تداولها هم من علية القوم ورؤسائهم ومن الطبقة المتعلمة. كما أن لغة هذه القصائد أقرب إلى النسج الفصيح منها إلى اللهجة السوقية الدارجة. (ركيبي 1981: 364). وبدلا من مصطلح "عامي" أو "شعبي" يطلق ركيبي المصطلح المحلي "ملحون" على أشعار العامية في الجزائر (ركيبي 1981: 487-489)؛ أما الجراري فإنه يلجأ إلى استخدام مصطلح "زجل" للإشارة إلى أشعار العامية في المغرب (الجراري 1970: 53-54).

وهكذا يختلف ركيبي والجراري والمقالح في اختيار كل واحد منهم مسمى مختلفا عن الآخر. لكن الثلاثة يتفقون في عزوفهم عن استخدام مصطلح "الشعر الشعبي". وقد مر بنا أن البعض من كتابنا في تناولهم لقضية الشعر النبطي يشارك ركيبي والجراري والمقالح عزوفهم عن استخدام مصطلح "الشعر الشعبي". وكلمة "شعبي" مثل كلمة "عامي" لها مدلولات اجتماعية تجعل بعض الكتاب يتوجسون من استخدامها في الإشارة إلى المادة الشعرية التي يدرسونها لأن هذه المادة، على الرغم من عدم تقيد لغتها بقواعد الفصحى، ليست بالضرورة حكرا على عامة الناس وطبقات الشعب الدنيا في إنتاجها واستهلاكها. هذا علاوة على كون هذه الأشعار عادة معروفة الأصل والمؤلف ويلعب التدوين دورا أساسيا في حفظها وتداولها؛ ولو اقتصرت على الرواية الشفهية فقط لما انتشرت هذا الانتشار الواسع ولما عمرت هذه المدد الطويلة.

وهكذا نرى أن عددا من الباحثين جنح إلى استخدام المصطلحات المحلية التقليدية التي يفضلونها هي أو مصطلح "الشعر العامي" على مصطلح "الشعر الشعبي" الذي يبدون تحفظا حوله ويشكون في مناسبة إطلاقه على الأشعار العامية العربية التي يتناولونها بالبحث. (المرزوقي 1967: 51، المقالح 1978: 12، ركيبي 1981: 363-364). هذا لا يعني أنه ليس في العربية أدب يمكن أن يطلق عليه مسمى "شعبي" بالمعنى المتعارف عليه لهذا المصطلح. تقع الإشكالية في كيفية رسم الحدود والفواصل بين ما هو شعبي وما هو غير شعبي وفي استخدام البعض لكلمة "عامي" كمرادفة لكلمة "شعبي". عامية اللغة لا تعني بالضرورة شعبية المادة الأدبية. أو لنقل إن شعبية المادة لا تتوقف على لغتها، فصيحة كانت أم عامية. اللغة في حد ذاتها مقياس غير دقيق في الحكم على شعبية الأدب، بمعنى شيوعه وتفشيه واستمراره بين الأجيال. الشكل اللغوي ليس هو المحك وعامية اللغة لا تخول القصيدة أن تدخل في عداد الأدب الشعبي وإلا لجاز لنا مثلا أن نطلق لقب "أديب شعبي" على سعيد عقل. وكم من القصائد العامية التي نظمها شعراء متعلمون ظلت حبيسة الورق ولم تلق رواجاً ولم تنتشر على ألسنة الرواة، بينما هنالك الكثير من الأبيات والمقطوعات الفصيحة التي يرددها الرواة والمؤدون الأميون. ماذا مثلاً عن المواويل الفصيحة التي يرددها المطربون الشعبيون؟ وماذا عن الكثير من حكم المتنبي وقصيدة البردة للبوصيري وغيرها من المدائح النبوية؟! كيف نصنف مثلا كتاب كليلة ودمنة وما شاكله من الأعمال ذات الشكل اللغوي الفصيح الذي يعبر عن مضامين تدخل في عداد الأدب الشعبي؟ ثم ماذا عن بعض الأجناس الأدبية التي وصلت إلينا من العصور الفائتة والتي تحتل موقعا وسطا بين الفصحى والعامية والتي لا تختلف في شيء عن الأدب المكتوب في آليات إنتاجها وحفظها وتوزيعها بواسطة الكتابة؟ نقصد بذلك في مجال الشعر الأزجال والموشحات والقوما والمواليا وغيرها مما تزخر به أمهات الكتب العربية، ونقصد في مجال النثر كتب السير الشعبية وكتاب ألف ليلة وليلة وما شاكلها. غالبية هذه الأجناس من إبداع أناس متعلمين لا تعوزهم القدرة على النظم والتأليف باللغة الفصحى ومنهم من يراوح بين الإنتاج العامي والإنتاج الفصيح. وإن خفيت علينا أسماء من ألفوا بعض هذه الأعمال فليس للمجهولية بهم وإنما لأنهم هم تعمدوا إخفاء أسمائهم نظرا لطبيعة المادة التي يقدمونها للجمهور وغرضهم من تقديم هذه المادة ولأنهم أرادوا لها أن تتزيا ببعض مزايا الأدب الشعبي. كما لا ننس أنه مرت على العربية عصور كان اللحن فيها مستملحاً مستعذباً حتى بين من يحذقون قواعد الفصحى من الشعراء والمبدعين.

وإذا كان الجهل بالمؤلف من المعايير التي تقاس بها شعبية الأدب فإن العامي والفصيح يتساويان في ذلك. الأهازيج والأمثال والأحاجي والنوادر والملح والطرف التي تزخر بها كتب الأدب العربي مجهولة الأصل والمؤلف، سواء كانت فصيحة أم عامية. أما القصائد فغالباً ما تكون معروفة المؤلف، فصيحها وعاميها.

ومثلما احتار الباحثون العرب حول أنسب التسميات التي يطلقونها على آدابهم وأشعارهم العامية، احتار الفلكلوريون الغربيون في هذه المسألة أيضا. ومن بين الأسماء المقترحة الأدب الشعبي folk literature والأدب العامي popular literature والأدب البدائي primitive literature والأدب الشفهي oral literature والأدب غير المدون unwritten literature. إلا أن الكثير من المهتمين أبدوا تحفظاً تجاه هذه الأسماء حيث أنها كلها تنطوي على شيء من التناقض. فالكلمة الإنجليزية literature تعني بالذات الأدب المكتوب، فمن غير المعقول أن يكون الأدب مكتوباً وفي نفس الوقت شفهياً أو بدائياً أو أمياً، إلخ. ومن أجل تلافي هذا التناقض واستبعاد كلمة literature اقترح ويليام باسكوم William Bascom أحد الفلكلوريين الأنثروبولوجيين الأمريكيين استخدام مصطلح الفن القولي verbal art.

إن تركيز ثقافتنا العربية في مفهومها للأدب على الآليات اللغوية متمثلة في التضادية بين الفصحى والعامية هو تركيز نابع من خصوصيتنا التاريخية والحضارية. أما في الثقافة الغربية فإن التركيز يتمحور حول آليات الإنتاج والتداول والتي تتمثل في التضادية بين الشفهي والمكتوب. ارتبط الأدب عند الغرب بالكتابة منذ القدم. كلمة literature (وكذلك belles letres وغيرها من المصطلحات الأدبية) تشير إلى علاقة الاشتقاق اللغوي بينها وبين الكتابة. (لاحظ العلاقة الاشتقاقية بينها وبين كلمة letter التي تعني خطاباً تحريرياً أو حرفاً من حروف الهجاء). أما المصطلح العربي "أدب" فليست له هذه العلاقة الاشتقاقية والدلالية بالكتابة. بل إن له علاقة بالتأديب والتهذيب فهو يأدب، أي يدعو، إلى مكارم الأخلاق. ولما ظهر الإسلام وبدأ العرب في استخدام الكتابة في التدوين والتأليف ظلت كلمة "أدب" محتفظة بمعناها الأصلي، أي المعارف العامة التي من شأنها توسيع مدارك الفرد وصقل مواهبه وتهذيب سلوكه سواء تم تلقيها كتابة أو مشافهة، وهي بهذا أقرب إلى مفهوم المعارف المتوارثة شفهياً lore منها إلى مفهوم الأدب المكتوب literature. وعموما كان الأدب العربي الكلاسيكي في مادته وأغراضه أقرب إلى الفلكلور والإثنولوجيا منه إلى الأدب بمفهومه المعاصر وهذا ما انعكس على مناهج علمائنا الأقدمين في التعامل مع الأدب الجاهلي والطرق التي اتبعوها في جمعه وشرحه وتدوينه، وهو ما يتجلى أيضا في مؤلفاتهم الموسوعية مثل البيان والتبيين وصبح الأعشى في صناعة الإنشاء ونهاية الأرب في فنون الأدب وغيرها من الأعمال الكلاسيكية التي تنطلق من الأدب إلى المفهوم الأشمل للثقافة والتاريخ والنظم الاجتماعية والمعارف الجغرافية والبيئية. ولم تفقد الكلمة مفهومها الأصلي إلا في العصر الحديث بعد أن اتصل العرب بالغرب وتأثروا به ونشطت حركة التأليف الإبداعي وأصبح مفهوم الأدب عندنا مربوطاً بالكتابة ومن ثم بالفصاحة نظرا لأننا عادة لا ندون إلا الإنتاج الفصيح وقواعد الكتابة في العربية لا تتمشى أساسا إلا مع النطق الفصيح.

الافتتان بالمصطلحات والانشغال بالتعريفات كثيرا ما يصرف الباحثين عن المادة أو الفن الذي يراد تعريفه. ففي النقاشات التي دارت بين ابن خميس والضبيب وابن عقيل لجأ كل منهم في مدافعته للآخرين والذب عن موقفه إلى التعريفات القاموسية والمدرسية للاسم الذي يطرحه. الأجدى أن تنصب المصطلحات والتعريفات على رسم ميدان البحث وتحديد مجالاته ومعالمه وأن تكون نابعة من واقع المادة المدروسة وطبيعتها وألا تكون مفروضة اعتباطا. والأهم من ذلك كله ألا ننشغل بالتعريفات والمصطلحات وننصرف إليها بدلا من مادة البحث نفسها. وعلى العموم فإنه، في ظل المناخ العلمي السليم، يمكن للمصطلحات والمفاهيم، مهما تعددت، أن تتعايش وتتحاور وتتطور وتتغير. ولا جدوى من التشبث بمصطلحات وتعريفات محددة كما لو كانت مسلمات ثابتة مثبتة. هذه مسألة ثانوية جدا ومن الفروع التي لا تستحق كل هذا التوتر اللفظي.

أرى أنه سواء سمينا هذا الشعر الذي نتحدث عنه "نبطيا" أو "شعبيا" أو "عاميا" أو "بدويا" فكل هذه تسميات صحيحة وجائزة إذا أوردت في سياقها الصحيح. وإطلاق مسمى "نبطي" لا يقصد منه نفي صفة الشعبية عن الشعر النبطي. ولا أريد التشبث بالمسمى "نبطي" لكنني في الوقت نفسه لا أريد التفريط بهذا المصطلح المحلي الدقيق الذي يعبر عن أهم ميزة تميز الشعر النبطي عن الشعر العربي القديم، ألا وهي لغته التي لا تتقيد بقواعد الفصحى. ويبدو لي أن هذه تسمية قديمة متأصلة يعود تاريخها إلى الوقت الذي لاحظ فيه العلماء تفشي المخالفات النحوية عند شعراء البادية وعدم تقيدهم في أشعارهم بقواعد الفصحى في الإعراب والتصريف. ولا أرى ما يمنع من الاستمرار في استخدام المصطلح "نبطي" والابقاء عليه، شريطة أن نفهم بأننا لا نؤكد بذلك أي صلة للشعر النبطي مع الأنباط وإنما نقصد فقط أن لغته عامية.

ومن مبررات الإبقاء على مسمى "نبطي" أن دلالة المصطلح "نبطي" تقتصر على الجانب اللغوي دون أن تحمل أية إيحاءات اجتماعية أو طبقية كما هي الحال بالنسبة للمصطلحات الأخرى. وكلمة عامي أو شعبي مطلقة غير مقيدة ينقصها التحديد المكاني ويمكن إطلاقها على ما ينظم بلغة العامة في أي قطر من أقطار العالم العربي، ويمكن أن ينضوي تحت المسمى "شعبي" أجناس متعددة من الأشعار والآداب. لذا نجد كل شعب من الشعوب العربية يلجأ إلى وضع تسمية خاصة بشعره الشعبي العامي كي يميزه عن غيره. يقول عبدالعزيز المقالح "قبل أن تلحق صفة الشعبية بالشعر العامي العربي الحديث، وقبل أن تشيع هذه التسمية على ألسنة الكتاب المعاصرين في مختلف الأقطار العربية وتتداولها أقلامهم، كان لهذا الشعر في كل قطر -أو مجموعة من الأقطار- تسمية تقليدية شائعة." (المقالح 1978: 112). فإذا أردنا أن نحدد الشعر العامي أو الشعبي في وسط الجزيرة العربية قلنا "نبطي" مثل قولنا للشعر العامي في اليمن "حميني" وفي المغرب العربي "ملحون" و"حساني" وفي السودان "همبته" و"مسدار" وهكذا.

أعلي

 

شعبية الشعر النبطي والشعر الجاهلي

قبل الحديث عن تحول اللغة الشعرية سوف أتناول أهم سمة يشترك فيها الشعر الجاهلي والشعر النبطي، وهي سمة الشعبية والجماهيرية. يتحفظ الكثيرون على تسمية الأدب الجاهلي، شعره ونثره، أدباً شعبياً، لأنه أصبح في الوقت الحاضر يمثل قمة الفصاحة ودخل في عداد الأدب المكتوب الذي لا يحفظه ويتناقله إلا النخبة من المثقفين والمتعلمين. غير أن أصل الأدب الجاهلي شيء وما آل إليه في العصور التالية شيء آخر. شعبية الأدب لا تتحدد من خلال لغته بقدر ما تتحدد من خلال وظيفته الاجتماعية والتداول الشفهي والتقليدية في الشكل والمضمون. هذه المحددات يتساوى فيها الشعر الجاهلي والشعر النبطي رغم ما بينهما من اختلاف في اللغة. هذا يعني أن صفة الشعبية تنطبق على الشعر الجاهلي بقدر ما تنطبق على الشعر النبطي.

الازدواجية اللغوية التي تعيشها الشعوب العربية في وقتنا الحاضر والتي بدأت بوادرها بالظهور بعد الفتوحات الإسلامية حدت بالبعض إلى الاعتقاد بأن هذه الازدواجية تعود إلى عصور موغلة في القدم وأنه منذ العصور الجاهلية كانت هناك لغتان عامية وفصحى وكان هناك شعر عامي وشعر فصيح وأن الإثنين كانا يتعايشان جنبا إلى جنب وكان لكل منهما مسيرته المستقلة عن الآخر، مثلما هو عليه الوضع في وقتنا هذا. ومن هنا جاء من يفترض بأن نشأة الشعر النبطي جاءت موازية لنشأة الشعر الجاهلي وربما سابقة له ومستقلة عنه، وذلك قياسا على استقلالهما في العصور المتأخرة. وممن جاهر بهذا الرأي صادق بخيت في كراسة مر ذكرها. وتصدى للرد عليه ابن خميس (1402: 81-82) وابن عقيل (1402: 22-25) وطلال السعيد (1981: 17-20). يقول ابن خميس:

ولقد قلت يامؤلفنا الكريم إن العامية تسبق الفصحى بقرون، وأنها هي اللغة السائدة، وأن الفصحى لم توجد إلا قبيل الإسلام بقرن ونصف، وأن الشعر النبطي منحدر من الأنباط وقد تبنته الجزيرة العربية وأخذت به.. فهو شعر أصيل ينزع إلى ما قبل الإسلام.

ولكي نناقش هذا الرأي نقول: أين الشعر النبطي فيما قبل الإسلام، وأينه في صدر الإسلام، ولماذا لم تنقل الروايات والأخبار والتاريخ شيئاً منه.. هذه الحقب الطويلة، ولم تدونه ولم يؤثر عن أحد أنه تكلم به، أو قال به، أو نص عليه.. فلماذا يكمن هذه القرون المتعاقبة. ثم يخرج في القرن الرابع أو الخامس الهجريين على يد بني هلال بن عامر ثم يتدرج إلى هذا الوقت.

إن أخبار الأنباط ومروياتها بل وحتى لغتها لم يعثر عليها إلا في نقوش لا تكاد تفهم ولا تعلم إلا عن طريق المختصين في فك الرموز وقراءة خطوط الأمم البائدة، فكيف مع ذلك يأتي القرن الرابع والخامس الهجريان وينبشان هذا الدفين، ويحييان هذا الميت ويجعلان منه فناً قائماً بذاته.

من الذي حفظه كل هذه المدة، ومن الذي نقله وأدخله إلى جزيرة العرب، ولماذا الأنباط بالذات، ألم تأت بعد الأنباط أمم وأمم منهم من قص علينا ومنهم من لم يقص.. فلماذا هذا الجيل المنقرض الفاني بمروياته ومأثوراته وأخباره وأحداثه.. هو الذي يبقى وتخرج علينا لغته بعد هذه القرون المتعاقبة.

واللغة التي نتكلم بها عامية ولكنها لم تكن نبطية، وشعبية ولكنها غير موغلة في القدم، ومضرية ولكن داخلها ما داخلها، من تسهيل في الهمز، وليونة في المخارج، وتسامح في الأداء.. ولكنها تنزع إلى أصالتها وحقيقتها.. فلو جئت إلى عاميتنا واستقرأتها لوجدتها في الجملة فصيحة إلا من بعض الهنات الهينات من الدخيل أو التسهيل أو التليين. (ابن خميس 1402: 81-82).

الواقع أن الحقائق كلها تؤكد أن الشعر الفصيح والشعر النبطي لم يتعايشا ولم يتزامنا بين القبائل البدوية الأمية التي تقطن الصحراء لا في العصور القديمة ولا في العصور المتأخرة، بل إن حضور أحدهما يعني غياب الآخر. فعلى الرغم من حرص الرواة والإخباريين والعلماء العرب على تسجيل وتوثيق كل ما يتعلق بأدب البادية وحياة الصحراء فإننا لا نجد ذكرا لأي شعر في العصور الكلاسيكية إلا ما قيل بالفصحى ولا لأي شعر في العصور المتأخرة إلا ما قيل بالعامية. ولربما يقول قائل إن اللغويين العرب لم يلتفتوا في عصر التدوين للشعر الذي قيل بالعامية لعدم أهميته بالنسبة لهم ولحرصهم فقط على تدوين الفصحى وما يتعلق بها خدمة للنص القرآني وللدين بشكل عام. لكننا نعرف أن هؤلاء اللغويين كانوا دقيقي الملاحظة ولم تفتهم شاردة ولا واردة إلا سجلوها وكانت نظرتهم العلمية أوسع وأشمل من أن تنحصر في اعتبارات تتعلق بالعقيدة أو الأيديولوجيا فقط. بل إن اختلاف القراءات والتلاوات كانت تفرض عليهم الالتفات إلى كل ما يتعلق بلهجات القبائل وتسجيله بدقة وأمانة. وفي العصور المتأخرة عُني علماء اللغة بلحن العامة ورصدوه وقدموا فيه دراسات قيمة ولو من باب التنبيه إليه والتحذير منه. ويعود الفضل إلى جهود أولئك اللغويين والنقاد في رصد وتدوين أشعار العامية وآدابها بمختلف أجناسها حالما بدأت في الظهور في الحواضر الإسلامية منذ العصور العباسية الأولى. ولم يتورع علماؤنا في عصور التدوين من رصد أشعار كانوا يتحفظون على فصاحتها مثل أشعار أبي دؤاد الإيادي وعدي بن زيد العبادي اللذين يقول عنهما ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء "والعرب لا تروي أشعار أبي دؤاد وعدي بن زيد، وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية." (ابن قتيبة 1386-1387، ج1: 238). ويقول ابن قتيبة عن عدي بن زيد "كان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة." (ابن قتيبة 1386-1387، ج1: 225). وقال عنه محمد بن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء "كان يسكن الحيرة ويراكن الريف، فلان لسانه وسهل منطقه." (الجمحي 1974، ج1: 140). وكان أبو دؤاد الإيادي جارا للمنذر ملك الحيرة ومسؤولا عن خيوله. وإذا كان عدي بن زيد وأبو دؤاد الإيادي من شعراء الحيرة وأرياف العراق التي يعتقد البعض أن الشعر النبطي نشأ فيها وانطلق منها فإنهما أقرب شعراء الجاهلية إلى أن يكونا شاعرين نبطيين. إلا أن شعرهما، رغم تحفظ بعض علمائنا الأقدمين على فصاحته، يعد بمقاييسنا المعاصرة شعرا فصيحا ولغته عربية قحة بعيدة كل البعد عن لغة الشعر النبطي.

القول بوجود شعر يقال بالفصحى وشعر يقال بالعامية في وسط الجزيرة وبين القبائل البدوية في أيام الجاهلية وصدر الإسلام يفترض وجود ازدواجية لغوية في ذلك الوقت. أي أن العرب الأوائل كانوا يتكلمون عامية قريبة من عاميتنا وينظمون بها شعرا نبطيا وكانوا في الوقت نفسه قادرين متى ما أرادوا أن يتكلموا بلغة فصيحة وينظموا بها شعرا فصيحا. لو وجدت فعلا هذه الازدواجية اللغوية بين العرب الأوائل فلماذا لم تستمر في العصور المتأخرة؟ لماذا اندثرت اللغة الفصحى التي ينظم بها الشعر الفصيح وبقيت العامية التي ينظم بها الشعر النبطي؟ علما بأنه يفترض أن يحدث العكس لأن الحرص الواعي والتوجه الديني وكل الجهود الرسمية والتعليمية حيثما وجدت تنصب في صالح المحافظة على الفصحى.

الازدواجية اللغوية لا توجد عادة في المجتمعات الشفهية الأمية التقليدية المتجانسة التركيب وإنما هي ظاهرة مدنية من ظواهر المجتمعات الكتابية المتحضرة المعقدة التركيب التي تقوم فيها مؤسسات تعليمية وطبقية اجتماعية. وعليه فإن ثنائية العامي والفصيح لم توجد بين عرب البادية في صحرائهم المعزولة لا في أيام الجاهلية حينما كانوا يتكلمون لغة فصيحة ولا في العصور المتأخرة بعد ما اختفت الفصحى وحلت العامية محلها. جاءت ثنائية العامي والفصيح بعد الفتوحات الإسلامية حينما نشأت في المدن والحواضر العربية لغتان: لغة التخاطب العامية العفوية التي يتكلمها الناس بالسليقة والفطرة والتي تتفاوت من منطقة لأخرى واللغة الفصيحة التي يحتاج تعلمها إلى كد وجهد. هذا ولم يقض ظهور العاميات واللهجات على الفصحى في الحواضر العربية لأن القرآن نزل بها وضمن لها القدسية والخلود والدرجة العالية الرفيعة. لكن وظيفة الفصحى بدأت تتغير. فبعد أن كانت في العصر الجاهلي وصدر الإسلام لغة التخاطب اليومي والتعبير الشعبي والأدب الشفهي أصبحت لغة الدين والدولة والفكر والأدب المكتوب. كما تعددت مستويات الشعر وتعددت وظائفه مع ظهور الطبقية والتمايز في المجتمع الإسلامي. فهناك أدب النخبة من الخلفاء والوزراء والعلماء وطبقة المتعلمين والمثقفين الذي من أهم ما يتميز به لغته الفصيحة ومضامينه الراقية وفكره الرفيع، وهناك بالمقابل شعر العامة الذي يلجأ إليه الشعراء الأميون وغير المتعلمين فينظمونه بلهجاتهم الدارجة ليتغنوا به ويروحوا عن أنفسهم أثناء العمل أو في حفلات السمر.

ولا بد لنا من الاحتراز وعدم الخلط بين الازدواجية اللغوية من جهة وبين المستويات اللغوية من جهة أخرى. الازدواجية اللغوية تعني نسقين لغويين مختلفين لكل منهما حدوده التي قد لا يستطيع كل متكلم أن يتخطاها وينتقل بحرية من نسق إلى آخر. فالشخص العامي غير المتعلم مثلا يصعب عليه التحدث بالفصحى. ولكن داخل النسق اللغوي الواحد يوجد تفاوت في مستويات الخطاب تختلف باختلاف الغرض الفني والوظيفة الاجتماعية. وينتقل المتكلم بين هذه المستويات بحرية تامة حسب الظروف والمناسبات الاجتماعية والسياقات اللغوية. وهذه حقيقة لغوية لم تحظ بما تستحقه من الاهتمام من قبل اللغويين العرب ولم يتم التنبه لها إلا في العصور المتأخرة على يد المختصين في علم اللغة الوظيفي وعلم اللغة الاجتماعي، وبمساندة من أحدث الدراسات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية. فلو نظرنا إلى أي لغة لوجدنا أن الاسلوب المستخدم في الأحاديث العابرة غير ذلك المستخدم في المناسبات الدينية أو الرسمية. واللغة الأدبية التي تستخدم في نظم الأشعار وصياغة الأمثال وحبك الحكايات وسرد السوالف أرقى من تلك المستخدمة في التخاطب اليومي أو في تبادل النكت. ولذلك فإن الأسلوب اللغوي الذي كان يستخدمه عرب الجاهلية في نظم الشعر كان بطبيعة الحال أرقى من الأسلوب الذي كانوا يستخدمونه في أحاديثهم العادية، وإن كان الأسلوبان ينتميان إلى نفس النسق اللغوي الفصيح، مثلما أن الأسلوب اللغوي الذي يستخدمه شعراء النبط في نظمهم أرقى من الأسلوب الذي تلجأ إليه العامة في أحاديثها اليومية، بما فيهم الأطفال والنساء وبقية مكونات الشرائح الاجتماعية التي تتوسل بتلك اللغة في تخاطبها اليومي. الفرق بين هذه المستويات اللغوية في الجاهلية وصدر الإسلام تستوي درجته مع الفرق بين اللغة الأدبية التي يستخدمها الشعراء النبطيون وبين الكلام العادي الذي يلجأ إليه عامة الناس ويتخاطبون به في يومنا هذا. تختلف لغة الشعر والأدب عن لغة التخاطب اليومي سواء عند عامة الناس في العصر الجاهلي، عصر الفصاحة، أو عند الشعب في عصرنا هذا، عصر تفشي العاميات. وكانت هناك اختلافات بين لهجات القبائل والمناطق المختلفة في العصر الكلاسيكي، كما هي الحال الآن، لكن لغة الشعر والأدب الذي يتداوله عامة الناس انذاك على اختلاف قبائلهم ومناطقهم كانت لغة متجانسة إلى حد بعيد تسمو فوق اللهجات ويفهمها الجميع، وهي بهذه الخاصية لا تختلف عن لغة الشعر النبطي التي يفهمها جميع أبناء القبائل والمناطق في الجزيرة ويجيدون استخدامها على اختلاف لهجاتهم.

في ظل الاختلاف القائم بين مختلف لهجات القبائل ومناطق الجزيرة العربية في عصور العامية يصعب على المرء أن يتصور وجود ذلك الانتظام والاتساق اللغوي في عصور الفصاحة كما تحاول أن تصوره مقررات النحو العربي وأن تقرره في أذهان الدارسين. التقعيد والتقنين في كل شيء، وليس في اللغة وحدها، يميل دوما نحو التشذيب والتهذيب والقفز على الفروقات والتمايزات والتركيز على العموميات والعوامل المشتركة بحثا عن الاطراد والاتساق والانتظام والابتعاد عن التشتت والشذوذ. حينما نحاول صياغة النظم والقواعد التي تسير أي ظاهرة اجتماعية، بما في ذلك الظاهرة اللغوية، وتحكم صيرورتها وحركتها فإن العملية تبدأ كعملية استكشافية محضة ثم ما تلبث أن تتبلور هذه النظم والقواعد تدريجيا لتتخذ كيانا مستقلا قائما بذاته يفرض نفسه وبشراسة على الواقع الاجتماعي الذي هو مستمد منه أساسا. تصبح لهذا الكيان قوة القانون وسلطة النظام ويتعامل الناس معه بقدر كبير من القدسية والرهبة. علما بأننا لو تدبرنا الأمر لوجدنا أن القواعد والنظم التي يتم اكتشافها وصياغتها ليست إلا احتمالا واحدا من احتمالات أخرى كثيرة يمكن بلورتها وصياغتها لتفسير الظاهرة المعنية. والدليل على ذلك اختلاف المدارس النحوية مثلا في المجال اللغوي واختلاف النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجال العلوم الإنسانية. تتمثل شراسة التقعيد في رفضه على المستوى السينكروني synchronic، أي التزامني، للحالات الشاذة وإلغائها أو تطويعها ولي عنقها لتمتثل للقاعدة وتخضع للقياس. أما على المستوى الداياكروني diachronic، أي التتابعي، فإن هذه الشراسة تتمثل في رفض التغيير والحركة وتجميد الواقع وتثبيته، لأن أي تغيير للواقع يعني موت القاعدة واستبدالها بأخرى تتواءم مع الواقع الجديد. التقعيد ليس إلا محاولة لترتيب أوراق الواقع المبعثرة وتدبيسها بانتظام وتسلسل مضلل. لا ينبغي لنا أن ننخدع باتساق القواعد واطرادها لأن الواقع الذي يفترض أنها تعكسه وتفسره ليس في حقيقته على هذا القدر من الانتظام والاستقرار. الواقع، أيا كان هذا الواقع، هو دائما في حالة هيجان واضطراب، في حركة لا تهدأ وتشكل مستمر. لا نبالغ إذا قلنا بأنه حالما تنتهي من صياغة القاعدة يكون الواقع الذي تحاول تقعيده قد تغير وأصبحت القاعدة بحاجة إلى تعديل، فأنت، كما يقول المثل، لا تعبر النهر مرتين.

على الرغم مما تحاول أن تزرعه كتب النحو المدرسية في أذهاننا فإن التفاوت الذي كان موجودا في لغة عرب الجاهلية المحكية وكما كانوا يتخاطبون بها لا يقل عن التفاوت الموجود في لغة أهل الجزيرة ولهجاتهم في عصور العامية المتأخرة. لكن مع ذلك تبقى بين لهجات الجاهلية سمات مشتركة مميزة توحدها وتجعل منها جميعها ما نسميه باللغة الفصحى التي تختلف في أنساقها النحوية والصرفية والصوتية عن العامية بمختلف لهجاتها. هناك قواسم مشتركة بين اللهجات الفصيحة تميزها عن اللهجات العامية مثل حركات الإعراب ووجود المثنى وما يتعلق بالضمائر وأسماء الإشارة وبعض الظواهر الصرفية والصوتية التي سنتطرق لها في حديثنا عن لغة الشعر النبطي وأوزانه.

اختلاف اللهجات بين مختلف القبائل والمناطق في نفس الفترة الزمنية، وتغير اللهجة الواحدة عبر العصور، واختلاف المستويات اللغوية عند المتكلم الواحد وفي اللهجة نفسها بين سياق خطابي وآخر؛ هذه ثلاثة أسباب، ويمكن إضافة أسباب أخرى إليها، جديرة بأن تجعلنا نتنبه إلى أن اللغة العربية التي كان يتكلمها العرب الأوائل لم تكن بذلك الانتظام الذي أضفته عليها فيما بعد جهود اللغويين العرب. تبدو لنا اللغة العربية الفصحى المكتوبة إرثا لغويا موحدا وبناء متكاملا ونظاما شديد الاتساق والتماسك. لكن فصحى العصر الجاهلي، عصر المشافهة، لم تكن على هذه الصورة. لقد تولت أيدي اللغويين العرب على مر العصور وعبر أطوار الفصحى المختلفة هذه اللغة بالتنسيق والتهذيب حتى نأت بها عن الأصل. لكن الانتباه لهذه الحقيقة لا يعني أن اللغويين العرب فبركوا ما نسميه باللغة الفصحى أو أن الحقائق النحوية والصرفية والصوتية التي تشكل في مجموعها ظاهرة الفصاحة لم تكن موجودة في عصر الجاهلية وصدر الإسلام. ما نسميه الآن باللغة الفصحى ونتعلمها في المدارس ليست بالتحديد الدقيق ما كان يتكلمه العرب الأوائل ولكنها في نهاية الأمر شيء مؤسس على ما كان يتكلمه أولئك الأوائل. إن صعوبة تعلم قواعد اللغة العربية الفصحى في عصرنا هذا قد تدفع بالواحد منا إلى الشك في قدرة عرب الصحراء وأبناء البادية الأميين على التحدث بهذه اللغة، التي تبدو لنا في غاية الصعوبة، والتقيد بها في تخاطبهم مع بعضهم البعض. ولكن لا بد أن عرب الجاهلية وصدر الإسلام كانوا يتكلمون اللغة الفصحى بنحوها وصرفها وأصواتها لأن القرآن الكريم وأشعار تلك الفترة وأمثالها تفترض ذلك. القواعد النحوية والصرفية والصوتية التي صاغها اللغويون العرب تسندها النصوص التي وصلتنا من تلك الحقبة. أشعار الجاهلية وصدر الإسلام وأمثالها ومجمل نصوصها الأدبية لا تستقيم معنى ومبنى ووزنا إلا بحركات الإعراب وغيرها من مظاهر الفصاحة. التشكيك في الحقائق اللغوية التي تشكل في مجموعها ظاهرة الفصاحة سوف يترتب عليه تداعي البناء اللغوي لمجمل النصوص الشعرية والأدبية التي وصلتنا من تلك الحقبة، أو رفض هذا الإرث الأدبي جملة وتفصيلا على أنه مختلق من اللغويين العرب الذين كانوا يحيكون مؤامرة تضليلية ليوهموا الناس أن عرب الجاهلية وصدر الإسلام كانوا يتكلمون لغة وينتجون أدبا وفق القواعد التي زورها أولئك اللغويون والنصوص التي دلسوها.

لا شك أن اللغة العربية، التي نسميها الآن الفصحى، كانت هي لغة الخطاب بين عامة الناس في العصر الجاهلي وصدر الإسلام. وكما هي الحال بالنسبة لعامة الناس في وقتنا الحاضر فإن عامة الناس في الجاهلية وصدر الإسلام لم يتعلموا لغتهم التي يتخاطبون بها، والتي نسميها فصيحة بمقاييسنا الحالية، في المدارس والمعاهد كما نفعل نحن الآن ولكن تلقنوها مشافهة عن طريق التخاطب اليومي مع الأهل والأقران، تماماً كما نتلقى نحن الآن لغتنا العامية. وكما هي الحال بالنسبة للشاعر النبطي، فإن الشاعر الجاهلي لم يتعلم لغته الشعرية في الكتاتيب وإنما عن طريق رواية الشعر ومجالسة الشعراء. ومهما بلغ بنا النزول على درجات السلم الاجتماعي ومهما غصنا في أعماق قاعدة المجتمع الجاهلي وبحثنا في قاعه عن أدب ذي طبيعة شعبية صرفة فإننا لن نجد شيئا بلغة غير اللغة الفصيحة، حيث لم يكن هناك وجود لأي لغة أدبية أخرى. خذ الأشعار التي كان يحدو بها الركبان أو تلك التي كانوا يرددونها وهم يحفرون الآبار ويستسقون لأنفسهم ولأنعامهم:

    نحن حفرنا بئرنا الحفيرا // بحرا يجيش ماؤه غزيرا

وكانت الجواري والأمهات يرقصن الأطفال بلغة فصحى:

    نمى به إلى الذرى هشام // قرم وآباء له كرام

    من آل مخزوم هم الأعلام // الهامة العلياء والسنام

وكانت النساء في الحروب يشجعن الرجال ويدفعونهم على الإقدام والاستبسال بشعر فصيح:

    إن تقبلوا نعانق // ونفرش النمارق

    أو تدبروا نفارق // فراق غير وامق

ويورد الدكتور شوقي ضيف العديد من هذه المقطعات الشعرية في كتابه الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور ويعلق عليها قائلا "وشركة جميع الطبقات والأفراد في الشعر الجاهلي على هذا النحو تدل أوضح الدلالة على طوابعه الشعبية. إذ كان يصدر عن جميع أفراد الشعب في الجزيرة، لا فرق بين رجل وامرأة ولا بين شاب وشيخ ولا بين سيد وصعلوك." (ضيف 1977: 18).

كان العرب قبل ظهور الإسلام أمة أمية لم تتفش فيها القراءة والكتابة لذلك اعتمدت على الرواية الشفهية لحفظ تاريخها وتراثها الأدبي والحضاري وكان الأدب الجاهلي في الأصل شعراً شعبياً يتناقله الناس مشافهة عن طريق الحفظ والسماع، لا عن طريق القراءة والكتابة. ولما ازدهرت الحضارة العربية ونشطت حركة الجمع والتدوين في نهاية العصر الأموي وبداية العباسي كانت صدور الرجال وشفاه الرواة المستودع الوحيد الذي استقى منه العلماء مادتهم الأساسية من الحديث الشريف والشعر والأمثال والتاريخ والأنساب وغير ذلك من المعارف والمآثر التي تتعلق بحياة العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. وانتقال القصائد الجاهلية عن طريق الرواية الشفهية ليست إلا ظاهرة واحدة من بين "ظواهر كثيرة تدل على دوران هذه القصائد دورانا شعبيا، فهي تنشد في كل حي، والشعراء يتداولونها بينهم بحيث يصبح ما ينظم في غربي الجزيرة ينشد في شرقيها وبالمثل ما ينظم في شرقيها ينشد في غربيها، وقل ذلك بالقياس إلى كل قبيلة في الشمال والجنوب، فليس هناك شعر خاص ببيئة دون بيئة." (ضيف 1977: 22). ومن السمات الشعبية التي لا تخطئها العين في القصيدة الجاهلية، إضافة إلى الشفهية والشيوع والتفشي، النمطية والتقليد والتكرار في المعاني والصور وفي بناء القصيدة وعناصرها الفنية ومواضيعها وأغراضها. وشعر النقائض الذي ازدهر في العصر الأموي، وهو ليس إلا امتدادا طبيعيا للشعر الجاهلي في لغته ومضامينه، يقدم لنا خير دليل على الطبيعة الشعبية للأدب العربي القديم. كانت النقائض، على حد تعبير شوقي ضيف، ملهاة شعبية لجأ إليها أهل البصرة والكوفة لملء الفراغ الذي أتاحه لهم المجتمع المدني الجديد، مثلما لجأ أهل أثينا للمسرح. يقول الدكتور ضيف إن جمهور البصرة في سوق المربد وكذلك جمهور الكوفة في سوق الكناسة "كانا يتحلقان بين المتناقضين للفرجة عليهما وللهو والتسلية، ويورد عليهما الشاعران من الهجاء المقذع الساخر ومن الفكاهات اللاذعة ما يجعلهما يغرقان في الضحك. وكثيرا ما يفضي الجمهور إلى التصفيق حين يعجبه بيت عند الشاعر، وقد يفضي إلى الصفير والصياح." (ضيف 1977: 41). وما أشبه هذه الأجواء الشعبية التي يصفها ضيف بجو شعر القلطة (الرد) في عصرنا هذا.

أعلي 

الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلي

يتفق الشعر الجاهلي مع الشعر النبطي في أنه شعر شعبي ترعرع وازدهر على نفس الرقعة الجغرافية بين أبناء البادية وشعوب الصحراء العربية الذين تغلب عليهم الأمية ويعتمدون على الرواية والمشافهة في حفظ وتداول معارفهم وفنونهم. المناخ الاجتماعي والبيئة الثقافية ومجمل الظروف الإنسانية والطبيعية التي أفرزت الشعر الجاهلي هي نفسها تلك التي أفرزت الشعر النبطي. وبحكم التسلسل التاريخي وطبيعة التغير اللغوي لنا أن نستنتج أن الشعر النبطي هو السليل المباشر والمثال الحي المعاصر لشعر الجاهلية وصدر الإسلام. إلا أننا لن نعدم من يعترض على وجود أي علاقة تاريخية بين الشعر النبطي والشعر العربي القديم لأن الأول لغته عامية والآخر لغته فصيحة. فكيف نفسر هذا الفارق اللغوي؟

كان ثقل الإسلام السياسي والحضاري، وكذلك الروحي والمادي، قد بدأ مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين ينسحب من الجزيرة العربية منزاحا جهة أقصى أطرافها الشمالية ليستقر في دمشق أولا لينتقل بعد ذلك إلى بغداد ثم إلى القاهرة وغيرها من العواصم ذات الحضارات العريقة من فارسية ورومانية ومصرية. لقد كانت الغلبة العسكرية والدينية للعرب على هذه الأصقاع لكن التأثيرات الحضارية والفكرية التي تركتها الفتوحات الإسلامية على العرب من جراء احتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم كانت بمثابة تحولات جذرية وتطورات راسخة نتج عنها وخلال مدة زمنية ليست طويلة هوة حضارية شاسعة بين عرب هذه الحواضر والأمصار وبين أبناء القبائل البدوية في صحراء الجزيرة العربية الذين أصبحوا بحكم عزلتهم أقرب إلى النموذج الذي يصوره الشعر الجاهلي وإلى الحياة التي يعبر عنها. مع خفوت الروح القبلية في المدن الإسلامية وتبعا لما طرأ على العواصم العربية من تقدم حضاري وتطور مادي وعمراني بدأ الشعر العربي الفصيح يبتعد عن شعر الجاهلية وصدر الأسلام في وظائفه وأغراضه ومواضيعه وهمومه. أصبح الشعر فرعا من مجال أوسع يسمى الأدب. وكلما تطور بناء الحياة المدنية وتعقد تركيبها وزادت متطلباتها كلما تمايزت نشاطاتها وأصبح التخصص والاحتراف ضرورة ملحة. في مثل هذه البيئة التقنية يصبح الأدب فنا قائما بذاته واضح الحدود وترتخي روابطه مع نشاطات المجتمع الأخرى لكنه يصبح أكثر وعيا بذاته. أصبح هناك نقد أدبي مدرسي واع يوجه الشعر ويؤثر فيه. أصبحت هناك علوم ومعارف دينية وفلسفية وطبيعية يستقي منها الشعر مضامينه ويستلهمها مواضيعه. وشيئا فشيئا تبلور الأدب كمؤسسة متخصصة وصارت الاعتبارات الفنية الجمالية الترويحية تتخذ مكانا بارزا قد يحجب أحيانا ما للأدب من وظائف سياسية واجتماعية. كما أن الكتابة دخلت في صميم العمليات الإبداعية والترويجية للأدب. وتبعا لذلك كله بدأ الشعر العربي منذ أوائل العصر العباسي يبتعد عن سلفه القديم في الرؤية والمضمون والوظيفة والأداء والتداول، وإن احتفظ بلغته الفصيحة.

هذا بالنسبة للحواضر والمدن. أما في صحراء الجزيرة العربية فإن الصورة تختلف عن ذلك تماما. لا شك أن الإسلام غير البدو من حيث العقيدة وأحالهم من الوثنية إلى التوحيد ولا يمكن أن نقول عنهم إلا أنهم مسلمون. أما من النواحي الأخرى فلم يمسهم الإسلام إلا مسا خفيفا لم يدم أثره، إذ لم يطل بهم الأمد بعد عصر الراشدين وانتقال السلطة المركزية إلى خارج الجزيرة حتى نكصوا إلى جاهليتهم وإلى ديدنهم في السلب والنهب والغارات يشنونها على بعضهم البعض. يقول الشيخ حمد الجاسر عن هذه الفترة "هذه الأيام أشبه ما تكون بأيام الجاهلية، بل إنها امتداد لتلك الأيام، إذ تعاليم الإسلام الحنيف لم تؤثر في كثير من طبيعة أهل البادية، فهم لم يتقبلوها عن فهم وإدراك، وإنما قبلوها عن إذعان وانقياد." (الهجري 1413، ج1: 50). تتشابه ظروف القبائل البدوية ومعيشتها في الجاهلية التي سبقت الإسلام وفي الجاهلية التي تلته لأن البيئة الصحراوية والموارد الشحيحة والأسس البدائية التي يقوم عليها الاقتصاد وتحدد مناشط الحياة ومجالات كسب الرزق بقيت على حالها لم تتغير. العصبية القبلية والتفاخر والثارات وقيم الفروسية والشجاعة والنخوة والكرم وحماية المستجير والفحولة الكلامية وخوض المعارك الشعرية والخطابية بموازاة المعارك الحربية، كل هذه القيم والمعايير والممارسات التي انطفأ وهجها وبهت أثرها في الحواضر الإسلامية ظلت مستمرة مستعرة في بوادي جزيرة العرب. ظلت هذه القبائل البدوية متمسكة بقيم الجاهلية وسننها وأعرافها واحتفظت بتنظيمها القبلي وطرق معيشتها وكسبها الذي يقوم على الحل والترحال وانتجاع الكلأ والبحث عن الموارد وكل ما يجره ذلك ويترتب عليه من نزاعات ومشاحنات يؤججها الشعراء ويضرمون لهيبها. وظل الشعر بين القبائل البدوية، كما كان في الجاهلية، شعرا شفهيا له مكانته السياسية والاجتماعية ويقوم بدور فعال في التأثير على جماهير الناس وشغل فراغهم وفي تحريك الأحداث وكذلك في أرشفتها وتوثيقها وتداولها وحفظها وتوريثها عبر الأجيال. وظلت القبائل البدوية بشيوخها وفرسانها وشعرائها وعامة الناس فيها تعيش الحالة الشفهية الأمية التي كانت سائدة بينهم منذ العصر الجاهلي ولم يقم فيهم علماء وكانوا بمعزل عن النشاطات العلمية والحركات الفكرية التي كانت تعج بها حواضر العالم الإسلامي.

لعب الشعر النبطي دوراً بارزاً في أحداث الجزيرة السياسية والاجتماعية في العصور التي سبقت توحيد البلاد على يد المغفور له جلالة الملك عبد العزيز. ومعروف أن الجزيرة في ذلك الوقت كانت مقسمة إلى قبائل ومشيخات صغيرة تقوم ثم تزول بسرعة كما هي الحال بالنسبة للدويلات التي نشأت في العصر الجاهلي كدولة الغساسنة والمناذرة وكندة وغيرها. وكانت هذه القبائل والمشيخات في تطاحن فيما بينها. والشبه واضح بين الحالة السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت وبينها في العصر الجاهلي. لذا لا يستغرب أن يلعب الشاعر النبطي دوراً سياسياً واجتماعياً لا يقل عن نظيره في العصر الجاهلي. فكما هي الحال في العصر الجاهلي، نجد أن الشعر النبطي في ذلك الوقت لعب دوراً بارزاً في دفع الأحداث وتحريك الناس. وكان لكل قبيلة ولكل إمارة أو بلدة شعراء يذودون عن حماها ويسجلون مفاخرها، وكان لابد للأمير أو شيخ القبيلة نفسه من أن يكون شاعراً مؤثراً، لأنه لم يكن هنالك قوة فعلية تحكم الناس آنذاك عدا الأسلوب البليغ والدليل المقنع ويقولون في أمثالهم "القصيد مشاعيب الرجال" ويسمون الشاعر المهيج "مثوّر" لأنه يحرك الناس بشعره ويدفعهم إلى النهوض والوقوف دون حقوقهم.

ولكي نعي الدور الذي لعبه الشعر في ذلك الوقت، ما علينا إلا أن نقرأ ما جمعه الشيخ عبدالله بن خميس في كتابه أهازيج الحرب أو شعر العرضة أو ما جمعه المرحوم محمد بن أحمد السديري في كتابه أبطال من الصحراء، أو ما جمعه منديل بن محمد الفهيد في سلسلته من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية. كان فرسان الجزيرة وشعراؤها،حتى عهد قريب، يتغنون بكرمهم وشجاعتهم وشهامتهم، ويسجلون مفاخر قبائلهم بقصائد عصماء كان يتداولها الرواة، ويتلقفها الركبان، وتختزنها الذاكرة الشعبية لسنين طويلة. ومن شيوخ القبائل الذين اشتهر شعرهم بين الناس تركي بن صنهات بن حميد من شيوخ عتيبة، ومحمد بن هادي من شيوخ قحطان، وراكان بن فلاح بن حثلين من شيوخ العجمان. ومن أمراء الحاضرة اشتهر تركي بن عبدالله آل سعود وابنه فيصل، كما اشتهر أيضا عبدالله بن رشيد وأخوه عبيد بقوة شعرهما وجودته، ناهيك عن زامل بن سليم والبواريد والهزازنة وغيرهم. وهناك شعراء مثل رميزان بن غشام، وحميدان الشويعر، ومحمد العبدالله العوني طبقت شهرتهم الآفاق لما في شعرهم من نزعات بطولية وسياسية.

وهكذا نجد أن حياة الصحراء بين أبناء البادية ظلت إلى حد بعيد على ما كانت عليه منذ العصور الجاهلية، ولا يزال الطاعنون في السن بيننا إلى الآن يشيرون إلى العصر الذي سبق توحيد الجزيرة على يد الملك عبدالعزيز بأنه "وقت الجاهلية"، "يوم الدنيا ناهب ومنهوب"، "يوم الدنيا هبهب وانهب"، "نجد لمن طالت قناته" وغير ذلك من العبارات التي تصور ما كانت عليه الحال آنذاك من فوضى وعدم استقرار. ولذا لم يختلف شعر البادية طوال العصور الماضية عن شعر الجاهلية في شيء، اللهم إلا اللغة، إذ ما لبثت لغة البادية على مر السنين والدهور أن رضخت للتغيرات اللغوية التي خضعت لها لغة الحاضرة من قبل. وعرب الصحراء -بخلاف عرب الأمصار- لم يكن لديهم مدارس لتعلم قواعد اللغة الفصيحة وقوانين العروض وأوزان الشعر كما قننها علماء اللغة الأوائل. لذلك نجدهم استجابوا لسليقتهم وتمشوا في كلامهم وشعرهم مع التغير الطارئ على لغتهم المحكية، لغة الكلام التي يستخدمونها في تخاطبهم اليومي. بعدما اكتشف علماء اللغة والأدباء في الحواضر الإسلامية القواعد اللغوية والقوانين العروضية التي كانت تحكم الشعر الجاهلي ألزموا أنفسهم بها بشكل صارم وظلوا محافظين عليها ما وسعهم الجهد ومتقيدين بها ولا يسمحون لأحد بأن يحيد عنها. أما شعراء البادية الأميون والجمهور الذي يتوجهون إليه بأشعارهم فإنهم لم يكونوا على علم بجهود علماء اللغة والأدباء ولا على وعي بما اكتشفوه من قواعد وقوانين. وهم وإن ظلوا ينسجون على منوال الأقدمين بحسب ما يمليه التقليد ووفق ما تفرضه العادة وبقدر ما يقتضيه التوارث إلا أنهم، بخلاف إخوانهم في الحواضر، لم يقيدوا أنفسهم بقواعد النحاة وقوانين العروضيين عن وعي وإدراك وتصميم. لذا فإنه بالنسبة لأبناء البادية لم يكن الباب موصدا أمام التغيرات العفوية الطارئة ولا أمام التطور التدريجي ولم يكن هناك في الصحراء النائية المعزولة أي سياج أيديولوجي أو تيارات فكرية أو مؤسسات تعليمية ودينية تقف في وجه أي بوادر للتغيير في لغة الشعر وأوزانه، كما هو عليه الحال في فصحى الحواضر الإسلامية.

وعلى هذه الصورة بدأت لغة الشعر عند البدو رويدا رويدا تتحلل من فصاحتها، ليس على مستوى المفردات بقدر ما هو على مستوى التراكيب النحوية والصرفية والصوتية. إن أهم ما يميز لغة الشعر الجاهلي عن لغة الشعر النبطي هو الإعراب وما يتبع ذلك بالضرورة من تغييرات في نظم الكلام وتقطيع اللفظ ثم ما ينتج عن ذلك من تأثيرات على البنية الإيقاعية التي تتشكل منها بحور الشعر وأوزانه. أما في مفردات اللغة ودلالاتها فإن الشعر النبطي أقرب إلى الشعر الجاهلي من الشعر العربي الفصيح في عصوره المتأخرة. وعلماء العربية يلقون أهمية خاصة على حركات الإعراب دون غيرها من مسائل اللغة. لكننا لو تفحصنا الأمر بموضوعية وأعطينا كل عنصر لغوي ما يستحقه من التقييم، بما في ذلك المفردات والمعاني والدلالات والاستعمالات ومستويات الخطاب وطرق التخاطب، وأحصينا جملة الفروق اللغوية فلربما وجدنا أن لغة الشعر النبطي الشفهي وكلام البدو وطريقتهم في المرافعات القضائية وفي سرد السوالف وفي إلقاء الشعر أقرب إلى لغة الشعر الجاهلي من لغة الأدب المكتوب. وهنا يعن في الذهن سؤال وتراود الخاطر فكرة. أيهما أقرب حقيقة إلى لغة الشعر الجاهلي، الشعر النبطي أم العربي الفصيح؟ لو نهض الشنفرى من الأجداث أو ذو الرمة أو رؤبة بن العجاج هل نستطيع التفاهم معه بلغتنا الفصحى ولغته الجاهلية؟ في تصوري أن عروة بن الورد لو نهض من قبره لاستعذب الحديث مع شليويح العطاوي أو تريحيب بن شري بينما يصعب عليه التفاهم مع أحمد شوقي أو الأخطل الصغير.

ولعل القارئ يوافقني أن التغير اللغوي، أو ما يسميه علماؤنا اللحن، أسهل وأسرع في تسربه إلى لغة الكلام العادي، لغة الحديث اليومية، منه إلى لغة الأدب، وخاصة لغة الشعر بطبيعتها المحافظة. لغة الشعر ولغة الكلام كلاهما متوارث لكن الأولى يتم تناقلها حفظا صما عن طريق الرواية وتتضمن صيغا لفظية وتراكيب لغوية تكاد تكون مجمدة بعدما صقلها الشعراء الأولون وصاغوها في قوالب شعرية وإيقاعية تتماشى مع متطلبات الوزن والقافية. والراوي حينما يؤدي نصا شعريا فإنه يستظهر نصا ثابتا قلما يتغير شكله اللغوي من رواية لأخرى، بخلاف النصوص النثرية التي تتميز بالمرونة وعدم الثبات. والراوية الذي يحرص على نقل القصيدة وروايتها طبق الأصل في كل مرة يلقيها لا يجد حرجا في التصرف في لغة النص النثري المصاحب للقصيدة. ولذلك نجد النساخ غالبا ما يصرفون جهودهم لتدوين القصائد ولا يولون اهتماما يذكر لتدوين النصوص النثرية المصاحبة لها والتي تحكي مناسباتها وظروف نظمها.

وبدون أن ننفي إمكانية التغيير والتجديد، إلا أنه من البداهة أن الشاعر، بخلاف المتكلم، ينظم قصائده وفق قوالب ماثلة في الذهن، وأعني بذلك ما تختزنه ذاكرته من القصائد، بما تتضمنه من مفردات وصور شعرية وأساليب بلاغية متوارثة عبر الأجيال. الصور المجازية والموتيفات الفنية التي يبني الشاعر منها قصيدته تقولب على شكل صيغ لفظية وقوالب لغوية جاهزة للاستعمال، وتكاد تكون مجمدة في طريقة نطقها وعلاقة السواكن فيها بالحركات، لأنها لو اختلت هذه العلاقة لاختلت القيمة الإيقاعية للعبارة. الاحتفاء بحفظ الشعر وروايته وتوارثه وكذلك الشروط الشكلية الصارمة من وزن وقافية وما إلى ذلك تجعل من الشعر بناء متماسكا ونظاما لغويا يصعب اختراقه لأن أي تغيير يطرأ على لغته لا بد وأن يتسرب ويتذبذب حتى يعم الموروث الشعري كله ويقلب المعايير، مثل أحجار الدومينو التي حالما تسقط الأولى منها تبدأ الأخريات بالتدافع والتساقط واحدة بعد الأخرى. لنضرب مثلا على ذلك حركات الإعراب في أواخر الكلمات. حذف حركة الإعراب ينتج عنه تغيير في عدد وتركيب مقاطع الكلمة syllables مما يؤدي بالتالي إلى اختلال قيمتها الوزنية الموسيقية. فأنت لو قلت بيتا عربيا بدون تحريك أواخر الكلمات فيه فقد لا يستقيم وزنه، كذلك قد لا يستقيم وزن البيت النبطي لو قلته بالحركات. هذا يعني أن منظومة الكلمات التي تحصل منها بنطقها الفصيح على بحر من البحور مثل الرمل أو الرجز أو الطويل ربما لن تحصل منها على نفس البحر بنطقها العامي. لكي تحصل على نفس البحر لا بد من إعادة ترتيب الكلمات حتى يستقيم الوزن أو تبديل الكلمات ذاتها أو ربما ابتداع وزن جديد أو غير ذلك من الاحتمالات والحلول. المهم أن تنتظم علاقة السواكن بالحركات بما يتطابق مع القالب الوزني للبحر المطلوب، سواء كان ذلك نتيجة النطق الفصيح أم نتيجة النطق العامي. ومن المرجح أن الشعراء ظلوا لمدة طويلة محتفظين بالحركات حتى بعد أن فقدت وظيفتها الإعرابية وذلك فقط من أجل المحافظة على بنية الكلام الإيقاعية ومن ثم إقامة الوزن. نجد مثلا أن لهجة أهل نجد لا تزال تحتفظ بالتنوين الذي اختفى من اللهجات العربية الأخرى، لكن هذا التنوين دائما يجري على الكسر مهما كان موقع الكلمة من الإعراب، أي أنه فقد قيمته الإعرابية واحتفظ بقيمته الإيقاعية فقط. وحينما نتحدث لاحقا عن أوزان الشعر النبطي وبحوره سوف نرى أن الاختلاف بين بحور الشعر الجاهلي وبحور الشعر النبطي مرده إلى ما جره التغير اللغوي الصرفي والصوتي من تبدل في تقطيع الكلمات واختلاف في توزيع السواكن والحركات.

هذا يعني أن تغيير لغة الشعر يترتب عليه تضحيات فنية وشكلية لا يمكن الإقدام عليها إلا بحذر وتلكؤ. وهذا ينطبق على المضامين مثلما ينطبق على الأشكال. لماذا لم يسارع شعراء النبط، مثلا، إلى ركوب السيارة والطيارة في عصرنا هذا وظلوا يقطعون الدروب والفيافي في خيالهم الشعري ممتطين ظهور "الهجن" و"الجيش" و"الركاب" حتى بعد الاستغناء عن الإبل كوسيلة للتنقل؟ السبب أنهم لم يشأوا التفريط بمفردات وعبارات وصيغ لفظية وتراكيب لغوية وصور شعرية جاهزة تتعلق بالإبل واحتاجوا لبعض الوقت ليوجدوا بدائل تتلاءم مع مستحدثات التكنولوجيا ومستجدات القرن العشرين وتتماشى مع متطلبات اللغة الشعرية وقيود الوزن والقافية. وكلما ازدادت هذه الحصيلة اللغوية الشعرية وتراكمت زحفت الآلة على القصيدة واستبعدت الإبل لتحل محلها في البناء الشعري. ويبدأ هذا الزحف عادة بعقد مقارنات عابرة بين الشيء القديم المألوف وبين المستحدث كأن يقارنوا مثلا بين سرعة الناقة أثناء وصفها وبين سرعة القطار أو السيارة.

وهكذا أمكن للشعر الجاهلي في موطنه الأصلي وعلى أيدي ورثته الشرعيين أن يتكيف مع التغيرات التي كانت تمر بها لغة الكلام اليومي عند البدو وظل بذلك قريبا منها وبالتالي قريبا من جماهير الناس الذين يتخاطبون بها. لغة الشعر الجاهلي ولغة الشعر النبطي هما في واقع الأمر البداية والنهاية أو قطبين للغة أدبية واحدة. إلا أن هذه اللغة تتغير بصورة بطيئة ولكن مستمرة ومواكبة للتغير الطارئ على اللغة المحكية. ومع تراكم التغيرات الطفيفة على مدى الزمن الطويل أصبح الاختلاف واضحاً بين العربية في أطوارها السابقة، أطوار الفصحى، وأطوارها اللاحقة، أطوار العامية.

وعلينا أن لا ننسى في ذات الوقت أن الفصحى المكتوبة هي أيضا بدورها ابتعدت عن لغة الشعر الجاهلي. تعمد النظرية اللسانية التقليدية عندنا إلى إقامة نوع من التضاد بين الفصحى والعامية كما لو كان التغير الوحيد الذي حدث للعربية هو تغيرها من الفصحى إلى العامية. لكن الصورة أكثر تعقيدا وتداخلا من هذه النظرة المبسطة. لو استعرضنا تاريخ الفصحى لوجدناها مرت بعدة مراحل من فصحى الجاهلية وصدر الإسلام إلى فصحى العصر العباسي إلى فصحى السيطرة العثمانية إلى فصحى وقتنا هذا. واللهجات العامية أيضا لها مراحلها وأطوارها، ناهيك عن الاختلافات بينها من موطن لآخر. وحينما انقلب الخطاب اللغوي في بادية الجزيرة العربية من النظام الفصيح إلى العامي فإن التغير اللغوي لم يتوقف عند هذا الحد؛ بل إننا نجد اختلافا في لغة الشعر العامية بين عصر وآخر. لغة أبي حمزة العامري كانت تختلف عن لغة رميزان بن غشام والتي كانت بدورها تختلف عن لغة ابن سبيل. ثم انظر إلى التطور اللغوي الحاصل في أسلوب الشعراء المعاصرين الذين ابتعدت لغتهم ومفرداتهم بمساحات شاسعة عن لغة شعراء النبط التقليديين لدرجة أننا نتردد في إطلاق المسمى "شعر نبطي" على نتاج هؤلاء الشباب.

التفسير التقليدي الذي يقدمه اللغويون العرب لظهور اللحن والعاميات هو أن السبب وراء هذه الظاهرة احتكاك العرب بأجناس وشعوب أخرى تتكلم لغات أعجمية. وقد عبر ابن خلدون عن هذا الرأي في قوله إن العرب "لما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع." (ابن خلدون 1988، ج1: 754). ويقول في موضع آخر "ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي." (ابن خلدون 1988، ج1: 765). ولا شك أن عمليات الاحتكاك والتثاقف تلعب دورا هاما في هذه العملية، لكن ينبغي لنا أن لا نغفل حقيقة أخرى في غاية الأهمية مفادها أن اللغة نفسها تدفعها قوة ذاتية وتسيرها آليات داخلية في حركة تطور مستمر وتغير لا يتوقف ما دامت اللغة حية نابضة. إن عدم استيعاب مبدأ التطور في البنية الذهنية عندنا كثيرا ما يقف عائقا أمام فهمنا فهما سليما لحقائق الطبيعة والوجود. ومن خصائص التطور أنه يقود من التجانس والتشابه إلى التشعب والتمايز والاختلاف؛ مثال ذلك ما نشاهده من الاختلاف بين العاميات العربية المنحدرة من أصل واحد هو الأصل الفصيح. ولكن نلاحظ أن هذه العاميات، بما أنها انحدرت من أصل واحد وبما أن خطوط التطور التي مرت بها تكاد تكون متوازية، لم تنفصل عن بعضها البعض وبقيت متقاربة وبينها ما لا يحصى من الخصائص المتماثلة. وقد تتفشى ظاهرة من ظواهر التغير اللغوي في واحدة من هذه العاميات قبل الأخريات. ولكن بما أن تطور هذه العاميات يسير في اتجاهات تكاد تكون متوازية فمن المرجح أن ما تتأثر به لهجة من اللهجات سوف يسري إن عاجلا أو آجلا وبشكل أو بآخر على البقية. وهناك عوامل خارج اللغة ذاتها، اجتماعية وثقافية وسياسية مثل الأمية والتخلف والعزلة، تساعد قوى الدفع الطاردة التي تسير في اتجاه المباعدة بين اللهجات والتفريق بينها لتستقل كل واحدة منها وتصبح لغة قائمة بذاتها. وبالمقابل هناك عوامل تساعد قوى الجذب نحو المركز، عوامل تسير في اتجاه التقريب بين اللهجات مثل التعليم والتواصل وما إلى ذلك. ولا شك أن الروابط التاريخية والثقافية والاحتكاك المكثف بين من يتكلمون اللهجات العربية، وما ينتج عن ذلك من تأثير متبادل، يساعد كثيرا على التقريب بين اللهجات والابقاء على التفاهم المشترك فيما بينها.

إننا هنا نحدد عاملين من أهم عوامل التغير اللغوي. أحدهما التغير عن طريق آليات التغيير الداخلية، أو ما يسمى التطور evolution، والآخر عن طريق التأثر بواسطة الانتشار diffusion والتثاقف acculturation. بناء على ذلك نستطيع القول بأن ما بدأ يطرأ على لغة بدو الصحراء العربية من تفشي اللحن ثم العامية ليس مرده فقط إلى التأثر بما حدث في الأمصار العربية من تغيرات لغوية، لكن التغيرات التي حدثت هناك كان من المحتم لها أن تحدث في البادية نظرا لحتمية التطور، وكان لها أن تحدث بنفس الصيغة التي حدثت فيها هناك نظرا لأن اللهجات العربية تسير في تطورها في خطوط متوازية. لكن لغة أهل نجد كانت أبطأ في التغير نظرا لعزلتها وطبيعتها المحافظة لذلك لم تصلها بعض مظاهر التغير اللغوي إلا بعد أن تفشت في الأقطار الأخرى. ووجود الظاهرة في مكانين مختلفين وفي فترتين متباعدتين لا يعني بالضرورة أن اللاحق جاء متأثرا بالسابق، ربما يكون ذلك كذلك ولكن أيضا ربما يكون السبب عائدا إلى ما يسمى اتجاهات التطور المتوازية parallel development. أي أن احتكاك اللغة البدوية باللهجات العربية الأخرى ربما ساهم في تسريع تغيرها لكنها كانت في ذاتها تختزن من الآليات الداخلية ما يمكنها من التغير تلقائيا وبنفس الاتجاه الذي كانت تسير فيه اللهجات العربية الأخرى. والعامية التي نتحدث عنها ليست في حقيقتها إلا تراكم ظواهر لغوية تدخل في نطاق ما يسميه علماء اللغة عندنا اللحن وتضافرها وتغلغلها في الخطاب اللغوي على مختلف مستوياته لتغير ملامحه وتحوله من النظام الفصيح إلى النظام العامي.

أعلي 

مراحل التحول من الفصحى إلى العامية

قلنا إنه بعد انتقال الخلافة الإسلامية إلى دمشق وبغداد، أصبحت الجزيرة العربية مسرحاً للفوضى السياسية وأصبحت في شبه عزلة عن بقية العالم العربي والإسلامي، ولم يعد علماء المسلمين ينظرون إليها كمصدر إشعاع روحي وأدبي كما كانت في السابق، ولم يعد علماء العربية ورواة الشعر قادرين ولا راغبين في شد الرحال إلى هناك، كما كان يفعل أسلافهم، للأخذ عن الأعراب "البوالين على أعقابهم". وإذا ما استثنينا طرق الحج والتجارة والسابلة وبعض الحواضر مثل مكة والمدينة وبعض المدن الساحلية فإن الشمس المحرقة والجفاف وشح الموارد المائية والقفار الموحشة والمفازات المهلكة والغزاة وقطاع الطرق والسباع جعلت اختراق الصحاري والفيافي العربية أمرا متعذرا على غير أهلها. ولكي ندرك هذه المخاطر ما علينا إلا أن نقرأ مغامرات الغربيين في العصور المتأخرة في الصحاري العربية.

تتسم تلك الفترة من تاريخ الجزيرة العربية بالغموض وشحة الوثائق المدونة. ومرحلة انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النمط النبطي يلفها الغموض نظرا لاتساع الفجوة الزمنية التي تفصل ما بين آخر نماذج وصلتنا من الشعر العربي الكلاسيكي وبين أول نماذج وصلتنا من الشعر النبطي. والواقع أننا مهما أعملنا الفكر واجتهدنا في البحث عن بداية الشعر النبطي فإنه لا سبيل إلى معرفة ذلك معرفة يقينية ولن نصل إلى نتيجة مرضية في ظل الدلائل المتوفرة لدينا حاليا، وسيظل الغموض يلف هذه البداية. والشعر النبطي لا يختلف في ذلك عن الشعر الجاهلي إذ وصلنا كلاهما تاما مستويا بعدما اختفت البدايات في غياهب المجهول وانطمست معالمها.

ولا بد من الالتفات هنا إلى مسألة دقيقة سبق وأن نبه لها الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل، كعادته في تحسس المسائل الجوهرية وإثارة القضايا الأساسية في موضوع أصل الشعر النبطي وبداياته. أعني ضرورة التفريق بين اللحن في اللغة وبين عامية اللغة التي "تغمرها معنى ومبنى وتركيبا بحيث يتصور العقل منها أدبا عاميا غامرا." (ابن عقيل 1402: 32). والسؤال الذي لا تزال الإجابة عليه في منتهى الصعوبة نظرا لانعدام الأدلة والقرائن هو متى غمرت العامية اللغة وبدأ أعراب الجزيرة الأميون ينظمون شعرهم بلغة لا نتردد ولا نتحرج في إطلاق صفة العامية عليها؛ لغة تخطت مرحلة الفصاحة وتجاوزت ظاهرة اللحن لتصبح عامية غامرة لا تخطئها العين؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب منا أن نستعرض واقع الأدب العربي واللغة العربية منذ عصور الفصاحة حتى العصور المتأخرة حينما تفشت العامية وظهر الشعر النبطي.

بينما أحدث المد الإسلامي تغيرا سريعا في اللغة العربية بين أهل الأمصار نتيجة اختلاط العرب بالأجناس الأخرى، ظل عرب البادية يتكلمون اللغة الفصيحة وينظمون الشعر على غرار شعراء الجاهلية لمدة طويلة. ومنهم جمع علماء العربية الأوائل المادة اللغوية التي استنبطوا منها قواعد اللغة العربية الفصحى. ظل هؤلاء الأعراب يتكلمون بلغة فصحى بينما شاعت العاميات بين سكان الأمصار الذين أصبحوا لا يملكون إتقان الفصحى إلا عن طريق الدرس والتحصيل والدربة والمران. ومن المعروف أن عصر الاحتجاج اللغوي والاستشهاد غير المقيد انتهى في حدود منتصف القرن الثاني الهجري. واقتصر علماء اللغة بعد ذلك على أخذ اللغة عن البدو الأقحاح وتوقف الأخذ عن الحضر أو من يطيل الإقامة في الحضر. وكان أبو عمرو بن العلاء يحتج بشعراء الجاهلية وصدر الإسلام لكنه بعد ذلك لا يحتج إلا بشعراء البادية من أمثال رؤبة بن العجاج وذي الرمة. ومن الأقوال المأثورة عنه قوله "ختم الشعر بذي الرمة والرجز برؤبة" وقوله "فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة (ت 117هـ)" (الجاحظ 1975، ج4: 84). ومات رؤبة في البادية ولما سمع الخليل بموته قال عنه "دفنا الشعر والفصاحة واللغة". أما ذو الرمة فإنه كان بدويا يرعى الإبل ويجيد نعتها ويجيد وصف الصحراء وحياة البادية وقال عنه الفرزدق أنه يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات. لكنه لما طالت إقامته في الحضر بدأت الشكوك تساور العلماء في فصاحته وأخذ عليه الأصمعي أنه طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. وقد تنبه العلماء إلى أن البدوي إذا طال مثواه في الحضر لانت سليقته وهجنت لغته وتشبعت باللحن مثل زيد بن كثوة الذي يقول عنه الجاحظ أنه كان هناك بون بعيد بين لغته يوم قدم البصرة وبينها يوم وفاته. (الجاحظ 1975، ج1: 163). وكان أبو عمر بن العلاء يقول "لم أر بدويا في الحضر إلا فسد لسانه غير رؤبة والفرزدق". ومع نهاية العصر الأموي وبداية العباسي لم يعد علماء اللغة يحتجون بشعراء الحاضرة. ويؤثر عن الأصمعي قوله إن خاتمة الشعراء الفصحاء سليقة هم رؤبة بن العجـاج (ت 145هـ) وابن ميـــادة (ت 149هـ) وحكم الخضري (ت 150هـ) وابن هرمة (ت 176هـ) وقد رآهم أجمعين. (ابن قتيبة 1966-1967، ج2: 753). ومن شعراء البادية المتأخرين المشهود لهم بالفصاحة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الشاعر (ت 239هـ) الذي قال عنه المبرد "ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل".

هذه نبذة من أمثلة أخرى كثيرة يمكن إيرادها تبين لنا أن لغة البدو بقيت محافظة على فصاحتها بعد أن تفشى اللحن في لغة الحواضر وتحولت إلى لهجات عامية. لذا نجد علماء اللغة ابتداء من القرن الثاني الهجري لم يعودوا يكتفون بالأخذ عن الشعراء وعن الأعراب الذين يفدون من البادية إلى سوق المربد في البصرة وسوق الكناسة بالكوفة وإنما صاروا يقومون برحلات ميدانية ويشدون الرحال إلى جوف الصحراء بحثا عن البدو الفصحاء لأخذ اللغة عنهم. واستمر هذا التقليد في القرنين الثالث والرابع ثم توقفت بعد ذلك رحلات الطلب وتوقف الأخذ عن البدو وانقطعت الرواية عنهم ولم يعد العلماء يحتجون بكلامهم لتفشي اللحن فيه.

يبدو أن القرن الرابع الهجري يشكل مرحلة حاسمة فيما يتعلق بانتقال لغة الشعر البدوي من الفصيح إلى العامي. استمرت الفصاحة بين أبناء البادية في الجزيرة العربية حتى مطلع هذا القرن حيث نجد أبا علي هارون بن زكريا الهجري الذي يجزم الشيخ حمد الجاسر أنه "عاش في القرن الثالث وفي أول القرن الرابع." (الهجري 1413، ج1: 24) يورد في التعليقات والنوادر أشعارا رواها له أو قالها أبناء البادية الذين احتك بهم في حياته أثناء مروره بنجد وخلال إقامته بالمدينة. يقول الجاسر إن أبا علي الهجري استطاع "أن يجمع ذخيرة طيبة من علم أهل البادية وهو يعيش بينهم لم يغادر بلادهم ولم يتلق شيئا من ذلك العلم المتعلق بهم عن غيرهم." (الهجري 1413، ج1: 13). ويكرر الجاسر هذه الحقيقة ويؤكدها على صفحات أخرى من نفس المصدر (ص ص 33 ، 50-51 ، 56-59 ، 150). وفي مقدمة الجزء الثاني من كتاب التعليقات والنوادر يقول الجاسر إن المؤلف "عني عناية خاصة بتدوين أدب الجزيرة ومعارفها عن معاصريه من أهلها، ولهذا قل -إن لم يكن ندر- ما ينقل عن غيرهم، ووجه عنايته لتدوين أشعار معاصريه ومن قاربهم في الزمن… ويبدو أن الهجري عاش أثناء تأليف كتابه في العقيق بقرب المدينة، حيث كان رؤساء القبائل وشعراؤهم يفدون على أمراء تلك البلدة، فكان يتلقفهم، ويتلقى عنهم، ويسجل ما يملون عليه، ولهذا نجد كتابه يحوي شعر كثير من القبائل التي كانت ذات صلة بالمدينة." (الهجري 1413، ج2: 496-497). وبلغ عدد أبيات القصائد والأراجيز التي تلقاها الهجري مشافهة من أبناء البادية أكثر من سبعة آلاف بيت من الشعر الفصيح. وقد يفيد كثيرا لو نشط أحد الباحثين وتتبع آخر النماذج التي وصلتنا من الشعر العربي القديم الذي جمع من بادية الجزيرة مثل تلك التي جمعها الهجري لتلمس بدايات اللحن فيها مقارنة بما هو أقدم منها، فلربما عثرنا على نوع من العلاقة اللغوية والموضوعية بين هذه النماذج وأقدم النماذج التي لدينا من الشعر النبطي، ولربما ألقت مثل هذه الدراسة بمزيد من الضوء على بداية الشعر النبطي.

وحتى منتصف القرن الرابع كان علماء اللغة لا زالوا يقرون لأهل البادية بالفصاحة. ففي هذه الفترة نجد أن أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370هـ) الذي وقع أسيرا في يد القرامطة التقى بأعراب البادية أثناء فترة الأسر ونقل عنهم في معجمه تهذيب اللغة. يقول الأزهري في مقدمة كتابه "وكنت امتحنت بالإسار سنة عارضت القرامطة بالهبير. وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربا عامتهم من هوازن واختلط بهم أصرام من تميم وأسد نشأوا في البادية يتبعون الغيث أيام النجع ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ ويرعون الغنم ويعيشون بألبانها ويتكلمون بطبائعهم البدوية ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش. فبقيت في أسرهم دهرا طويلا وكنا نشتي الدهناء ونرتبع الصمان. واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا." (الشلقاني 1977: 167). إلا أن شمس الفصاحة عند البدو بدأت بالأفول في نهاية القرن الرابع حيث نجد أن عالم اللغة الشهير عثمان بن جني المتوفى عام 392هـ يقول في كتابه الخصائص "لو فشا في أهل الوبر ما شاع في أهل الحضر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه." (عيد 1976: 42، 153).

ومن النماذج الشعرية التي قيلت في القرن الخامس ويفترض أنها جاءت من البادية تلك التي أوردها أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الباخرزي المتوفى سنة 467هـ في القسم الأول من الجزء الأول من كتابه دمية القصر وعصرة أهل العصر تحت عنوان "في محاسن شعراء البدو والحجاز." (الباخرزي 1968، ج1:27-86). إلا أنه على الرغم من هذا العنوان يلاحظ المتتبع لهذه النماذج أن غالبيتها لشعراء متعلمين من الحاضرة، لذا يصعب التأكد مما إذا كانت فصاحتهم فصاحة فطرية أم مكتسبة. ومع ذلك نجد بين هذه النماذج مقطوعات بدوية، وهذه بالذات هي التي نلاحظ فيها بعض مظاهر اللحن مثل قصيدة منسوبة لقيس العامري من ربيعة يقول فيها:

    قِفا صاحبي قليلا عليّا // ولا تعجلانِيَ ياصاحبيّا

    وعوجا على طلل داثر // لريا وأين من العين ريا

    معاهد لم يُبق صرف الزما // ن منها ومنِّيَ إلا شُويّا

وقد أورد الدكتور غسان حسن أحمد الحسن هذه الأبيات وعلق عليها بقوله "في البيت الأول امتدت ياء "علي" بإشباع الفتحة، وتحركت ياء المتكلم في "تعجلاني" بالفتحة حركة ثقيلة. أما في البيت الثالث فقد تحركت ياء المتكلم في "مني" تحركا ثقيلا، إضافة إلى استعمال كلمة "شويّا" بصيغتها العامية المعروفة." (حسن 1990، ج1: 58-59). ومن المقتطفات التي نجدها في دمية القصر مقطوعة لشاعر من اليمامة يدعى أبو محمد علي بن الأزهر بن عمرو بن حسان (الباخرزي 74-76) منها قوله:

    أيا بأبي الفوران طَنّبت فيهما // وأرض من الفورين كنت وطيتِ

    وماء حللتيه وإن كان آجنا // وروض رعيت العشب فيه رُعيت

    فقالت ولمْ أمسيت تطوي بلادنا        فقلت أمرتيني غداة نهيت

ومن مظاهر اللحن في هذه الأبيات "وطيت" بتخفيف الهمزة و"حللتيه" و"أمرتيني" بإشباع كسرة التاء وذلك بدلا من "وطئت" و"حللته" و"أمرتني". وأرسل الشاعر محمد بن عصام الأعمى الربعي بأبيات إلى صاحبين له يشكو حاله وهو موثوق بالجامعة، وهي نوع من الأغلال مصنوع من الخشب، منها هذا البيت:

    وقل لابن كيسان وقل لابن مطرف // خليلكما بين الحنايا مشبح

ويقول الباخرزي إن قافية القصيدة موقوفة، أي ساكنة، مما يذكرنا بالقصيدة النبطية. كما أن كلمة "الحنايا" في البيت غير فصيحة لكنها ترد كثيرا في الشعر النبطي للإشارة إلى الأعواد المقوسة، كتلك التي تستخدم في صناعة كور البعير والهودج وما شابه ذلك. ويقول الباخرزي عن أم كلثوم المغنية:

حدثني الشريف أبو طالب محمد بن عبدالله الأنصاري، قال: جمعني وإياها الطريق، وهي وافدة على دغفل، فاستنشدتها فأنشدت قصيدة، منها:

          كأن الرياح الجون غادرن فوقها // من البارح الصيفي بُردا مسهّما

قال: فورد في هذه القصيدة بيت مرفوع، وهو:

          وقلت اسلمي من دار حي تميزت // بهم شُعَب النيات فالقلب مغرما

قال: فقلت لها: لحنت.

قالت: أولحن هو؟

قلت: نعم والله.

قالت: فأصلحه بيض الله وجهك. (الباخرزي 1968، ج1: 85-86).

إضافة إلى اللحن فإن عبارة "بيض الله وجهك" عبارة عامية.

في تلمسنا لبدايات الشعر النبطي لن نطنب في حشد الشواهد اللغوية التي تدل على تفشي اللحن بين أبناء البادية لأن اللحن ظاهرة تختلف عن ظاهرة العامية، وإن كانت تمهد لها. ولعل الأبيات التي قالها أبو العلاء المعري الذي عمر حتى منتصف القرن الخامس الهجري (363-449) أبلغ بكثير من الشواهد اللغوية لأنها تسجل الانطباع السائد بين العلماء آنذاك بأن عرب البادية فقدوا فصاحتهم ولم تعد سليقتهم تسعفهم ليتحدثوا بالفصحى. يقول أبو العلاء يقارن ما كان عليه الوضع اللغوي في زمن امرئ القيس وما آل إليه في وقته هو:

    اين امرؤ القيس والعذارى // إذ مال من تحته الغبيط

    استنبط العرب في الموامي // من بعده واستعرب النبيط

هذا الشاهد يسمو فوق الشواهد اللغوية التي تتحدث عن ظواهر لحن محدودة لأنه يلخص الوضع اللغوي العام ويشير إلى مدى تفشي اللحن لدرجة تنقله من مجرد لحن إلى نشوء لهجة عامية. ومما يضفي على هذا الشاهد أهمية خاصة أنه يأتي من نفس الفترة التي بدأت فيها هجرة بني هلال من الجزيرة العربية أو بعيد ذلك؛ كما أن أبا العلاء لم يكن من أهل الأندلس أو المغرب أو مصر وإنما من معرة النعمان الواقعة على الطريق بين حلب ودمشق في بلاد الشام التي كان عرب بني هلال يجوسون خلالها في تلك الفترة. ومن المفترض أن لغة بني هلال كانت فصيحة زمن هجرتهم من نجد مع نهاية القرن الرابع الهجري وبداية الخامس. ولكن في ظل هذه المعطيات النظرية والقرائن التاريخية ليس من المستبعد أن بداية زحف العامية على لغة الشعر البدوي تزامن مع هجرة بني هلال فيما بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، أو بعد ذلك بفترة قصيرة.

وفي محاولتنا تحديد نهاية الشعر الفصيح وبداية الشعر النبطي علينا أن نحترس من الخلط بين الفصاحة الفطرية الموروثة بالسليقة وبين الفصاحة المفتعلة. وقد مر بنا أن الأزهري في مقدمة معجمه تهذيب اللغة يشيد بفصاحة الأعراب الذين عاش معهم حينما أسره القرامطة في منتصف القرن الرابع. ولكن يبقى هناك تساؤل مفاده هل فصاحة الشعر الذي قاله أمراء القرامطة وقادتهم والذي نجد نماذج منه في كتاب محمد بن عبدالله آل عبدالقادر تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد (ص ص 92-96) فصاحة موروثة أم فصاحة مكتسبة بالتعلم والمران؟ تكمن مشروعية هذا التساؤل في أن أمراء القرامطة وقادتهم تبنوا مذهبا يقوم على المحاجة الفقهية والتضلع في العلوم الشرعية وفي أمور الدين والعقيدة، مما يفرض عليهم مستوى معينا من التعليم، كما لا ننسى تغلغل العنصر العجمي، غير العربي، في دولة القرامطة. أما الأخيضريون الذين حكموا اليمامة قبل القرامطة فإننا لا نعثر لهم على أي موروث شعري.\

وتدور الدوائر على القرامطة وتنتقل السلطة إلى أيدي العيونيين الذين امتدت فترة حكمهم إلى شرق الجزيرة العربية من 466 إلى 636هـ، ومؤسس دولتهم هو عبدالله العيوني من مدينة العيون. والشاعر الوحيد الذي يصلنا إنتاجه من عصر العيونيين هو علي بن المقرب العيوني. وابن المقرب شاعر فصيح لكن فصاحته فصاحة رجل العلم المتبحر باللغة العربية وعلومها. يقول الدكتور علي الخضيري عن ثقافة ابن المقرب "وهو متبحر أيضا في اللغة العربية، متمكن من أسرارها ودقائقها ومفرداتها كما يبدو ذلك من الاطلاع على أي قصيدة من قصائده. ولعله قد درس النحو والصرف دراسة مفصلة." (الخضيري 1412: 89). ويورد الخضيري في كتابه علي بن المقرب: حياته وشعره (ص34) بيتا من الشعر الفصيح يفترض أن قائله أعرابي كان يرعى إبله في حمى الفضل الذي تولى إمارة العيونيين بعد موت أبيه عبدالله مؤسس الدولة. والسبب الذي حدا بالأعرابي إلى قول البيت أن صاحبه قال له "ويحك أما تخاف من الأمير فضل بن عبدل على مالك ونفسك وأنت تعلم أن هذا المكان من حماه؟!" فقال الأعرابي مستبعدا معرفة الفضل بذلك:

    من يلتقي من نار برد محله // وآخر سودي بعيد مذاهبه

رافعا بذلك عقيرته فسمعه الفضل، فقال: الساعة ياأخا العرب. فبهت الرجل وتناقل الناس هذه الحادثة مثلا لشدة مراقبة الفضل لأحوال مملكته. ولو ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن قائل هذا البيت الفصيح هو ذلك الأعرابي الأمي لقام ذلك دليلا على استمرار الفصاحة بين أهل البادية على زمن العيونيين. لكن هذا البيت يرد بنصه مضمنا في قصيدة لابن المقرب يحكي فيها هذه القصة شعرا في عرض مديحه للأمير الفضل. لذا فمن المحتمل جدا أن الأعرابي لم يقل هذا البيت بهذه الصيغة وإنما الأرجح، كما يقول الدكتور الخضيري في تعليقه (ص34)، أن القائل هو ابن المقرب لكن الرواة فيما بعد ضمنوا البيت في القصة وأضافوه لها بعد أن أشار إليها ابن المقرب في قصيدته ظنا منهم أن البيت من كلام الرجل. خلاصة القول، أنه كما سبقت الإشارة، لا تصلنا أي نماذج شعرية من زمن الدولة العيونية، سواء بالفصحى أم بالعامية، عدا ما قاله شعراء متعلمون من أمثال ابن المقرب والثعلبي الشاعر العراقي الذي مدح أبا سنان محمد بن الفضل العيوني.

وتأتي بعد الدولة العيونية في منطقة البحرين (الأحساء) دولة بني عصفور ثم دولة بني جروان. ولا يصلنا من هذه الدول المتتابعة في تلك المنطقة أي موروث شعري حتى قيام الدولة الجبرية، لذا يصعب علينا البت بصورة جازمة ما إذا كانت الفصاحة مستمرة بين البدو في ذلك العهد، لكن الاحتمال الأقوى أن العامية كانت قد تفشت بينهم آنذاك وصار شعراؤهم ينظمون بها. ومما يؤيد هذه الفرضية أن ابن خلدون الذي عاصر إمارات العقيليين التي قامت في شرق الجزيرة بعد زوال الدولة العيونية أورد في مقدمته عدة أسماء على ما نسميه نحن الآن بالشعر النبطي وذلك في قوله "وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسي." فهو لم ينسبه إلى معاصريه من العقيليين بل نسبه إلى القيسيين الذين جاءوا قبلهم، أي إلى العيونيين. ومعلوم أن مؤسس الدولة العيونية، عبدالله العيوني، ينتسب إلى مدينة العيون بالأحساء وينتمي إلى عبدالقيس. وفي غياب النماذج الشعرية فإن هذه النسبة التي أوردها ابن خلدون ربما تقوم دليلا على وجود الشعر النبطي في زمن العيونيين، وربما قبلهم. كما يؤيد هذه الفرضية قصيدة المرأة الحورانية التي أوردها ابن خلدون في مقدمته والقصائد التي وصلتنا منسوبة لأبي حمزة العامري الذي يرجح أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن الثامن.

أعلي

<< الصفحة السابقة  |  الشـعر النبـطي  |  الصفحة الرئيسية  |  الصفحة التالية >>