الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

مقدمة

دراسة الشعر النبطي بين المشروعية والرفض

 

مقولات الرفض

نقض المقولات 

أهمية الدراسات الشعبية 

مسألة اللغة وقضايا الالتزام 

تداخل الشعبي والفصيح 

مشروعية دراسة الشعر النبطي

 

ما من أحد يجازف بالكتابة والتنبيه إلى ضرورة الاهتمام بجمع الشعر النبطي ودراسته إلا يجد نفسه مضطرا لتنزيه قصده وتبرئة ذمته والنأي بنفسه عن الدعوة إلى العامية والانفصالية. والواقع أن هذا هو المناخ الفكري السائد، ليس فقط عندنا في الجزيرة العربية، بل في عالمنا العربي قاطبة. لا تكاد تخلو مقدمة أي كتاب من الكتب التي تتناول موضوع الأدب الشعبي العربي من تسويغ هذا الاهتمام والدفاع عن هذا التوجه، سواء كان الكاتب من المشرق العربي أم من إخواننا في بلاد المغرب. من يتخصص عندنا بدراسة اللهجات وفنون القول العامية دراسة أكاديمية علمية يصرف كثيرا من الوقت والجهد والطاقة التي ينبغي له تكريسها لمتابعة أبحاثه وتطوير وسائله وأدواته البحثية في مدافعة من يطعنون في انتمائه ويشككون في نواياه. لماذا ترفض الثقافة العربية، دون غيرها من الثقافات العالمية، التعامل مع الثقافات الفرعية وآدابها العامية برحابة صدر وموضوعية؟ لماذا نتعامل، دون غيرنا من الأمم، مع هذا الموضوع بهذا القدر من التشنج؟

رفض الأدب الشعبي والتنكر له من قبل الكتاب والمفكرين في عالمنا العربي ظاهرة تكاد تنفرد بها الأمة العربية. هذه الظاهرة الفريدة تمليها ما للشعوب العربية والإسلامية من خصوصيات حضارية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ العربي والإسلامي من ناحية، وما تعاني منه الأمة العربية في وقتنا الحاضر من تخلف فكري وثقافي من الناحية الأخرى. وهي ظاهرة تشكل في حد ذاتها موضوعا فلسفيا خصبا يستحق الاهتمام والدراسة، ليس فقط من قبل المشتغلين بعلوم الفلكلور والإثنولوجيا، بل أيضا من قبل من يتعاطون قضايا الفكر والحضارة بشكل عام. المواقف الفكرية الرافضة لفكرة دراسة فنون القول الشعبية مواقف تستحق وقفة تأملية للوقوف على أسبابها والبحث عن جذورها الأيديولوجية والاجتماعية. حينما نتلمس الإجابة عن مثل هذه التساؤلات نجد أنفسنا وجها لوجه مع قضايا أولية تتمحور حول المكونات الأساسية، ذهنية وعاطفية، التي ترتكز عليها البنية المعرفية في ثقافتنا العربية. لذا فإنه من المتعذر بحث المواقف الرافضة لدراسة الشعر النبطي بمعزل عن البيئة الفكرية التي أفرزتها والمنظومات الأيديولوجية التي تعززها وتغذيها. سوف نحاول في هذا الفصل أن نستكشف أبعاد هذه الإشكالية الفكرية لعلنا نتمكن من إزالة ولو بعضا من الغشاوة وسوء الفهم اللذين يحيطان بالجانب الشعبي من ثقافتنا. لقد حان الوقت، في ظل زمن الحرية والديموقراطية والتعددية والليبرالية الفكرية والسياسية، أن تنتهي الحرب الباردة بين الشعبي والرسمي ويتصالحا ويتعايشا ويحترم كل منهما الآخر ويعيان ما بينهما من وشائج قوية وروابط لا تنفك.

أعلي 
 

مقولات الرفض

دأبت الثقافة العربية منذ عصورها التاريخية الأولى على اتخاذ مسارين رئيسيين لكل منهما تعرجاته وتشعباته وتضاريسه. يبتعد هذان المساران عن بعضهما حينا ويقتربان حينا آخر، لكنهما لا يلتقيان ولا ينفصلان أبدا بل تظل علاقة المد والجزر بينهما قائمة على مدى السنين ولا ينفك أحدهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. هذان المساران هما مسار الثقافة النخبوية الرسمية (العالمة) ومسار الثقافة الشعبية الجماهيرية. عناصر الثقافة الشعبية متغلغلة في حياة الناس اليومية تمنح كل جماعة خصوصيتها الثقافية وتضفي على كل منطقة طابعها المحلي المميز. أما الثقافة الرسمية فإنها تمثل الاستمرارية التاريخية وعامل التوحيد والتماسك بين مختلف فئات المجتمع وطبقاته وهي مدعومة من قبل مختلف المؤسسات البيروقراطية والجهات الرسمية وعلى رأسها المؤسسات الدينية ومناهج التعليم ووسائل الإعلام.

والتوتر الجدلي بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية قائم منذ الأزل. ما يحمله حماة الثقافة الرسمية في أذهانهم من قناعات أيديولوجية وتوجهات نخبوية مناوئة للثقافة الشعبية، خصوصا الآداب العامية، تحول دونهم ودون الانصراف لدراستها دراسة أكاديمية متخصصة. وأبلغ دليل على عدم الاكتراث بهذا الموضوع الحيوي في منطقتنا أن مؤسساتنا الأكاديمية حتى الآن لم تهتم اهتماما حقيقيا بتدريسه وتخريج مختصين فيه. بل إنها أغفلت مظاهر الثقافة الشعبية ولم تلتفت لها، فهي لا تدرس في الجامعات وليس لها دوريات متخصصة ولا تكتب عنها البحوث الجادة. يحدث هذا العزوف الأكاديمي من قبل النخبة المثقفة على الرغم من ثراء الثقافة الشعبية التي تشكل مادة خصبة للبحث العلمي. تنظر الغالبية العظمى من المثقفين العرب إلى الثقافة الشعبية بقدر غير قليل من الازدراء والاستهجان والريبة والتردد. فهم قد لا ينكرون عليها حيويتها وتلقائيتها ويدركون مكامن الطاقة فيها والإبداع. لكنها أيضا تشكل، في نظرهم، مؤشرات التخلف والتشرذم وعدم الانضباط والاستعداد للانحراف والانفلات. وانطلاقا من هذا التوجه السائد دأب المثقفون العرب على دس الثقافة الشعبية وإخفائها تحت البساط. وينسحب هذا العزوف على الثقافة الشعبية بمختلف تجلياتها وأشكالها المادية والروحية لكنه يبدو على أشده حينما يتعلق الموضوع بالفنون القولية والأدب الشعبي واللهجات المحكية. جل من يعترضون على الاهتمام الأكاديمي بالمأثور الشعبي يبنون اعتراضهم على افتراض أن الجانب القولي من المأثور الشعبي يمثل معول هدم يهدد اللغة العربية الفصحى بكل ما ترمز إليه من موروثات وقيم روحية وقومية وفكرية توحد بين أبناء الأمة العربية والإسلامية.

سوف نحاول فيما يلي تحديد المقولات التي تساق عادة لتبرير مواقف الرفض ونعبر عنها من وجهة نظر أصحابها. ومن يطلب الاستزادة والوقوف على هذه المقولات مفصلة في مصادرها الأصلية يمكنه الرجوع إلى أعمال الدكتورة نفوسة زكريا سعيد والدكتورة عائشة عبدالرحمن والدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك والأستاذ أنور الجندي وتوفيق علي وهبة.

المقولة الدينية. يمكن تلخيص المقولة الدينية كما يلي: نزل القرآن الكريم باللغة التي كان يتكلمها النبي محمد وأصحابه في القرن السابع الميلادي، أو ما نطلق عليه الآن اللغة العربية الفصحى. لذا اكتسبت العربية الفصحى، اللغة التي نزل بها القرآن، كلام الله تعالى، قدرا من القداسة. ويمكن نقل معاني الآيات القرآنية إلى لغات أخرى لكنه يستحيل ترجمة الآيات لأن إعجازها البياني يكمن في شكلها اللغوي. والدين شأن يومي بالنسبة للمسلم متغلغل في جميع شؤون حياته العامة والخاصة. وهو في صلاته يتلو أذكاره ودعواته والآيات القرآنية، التي لا تصح الصلاة بدونها، باللغة العربية الفصحى. بل إن شعائر الدين الإسلامي كلها تكاد لا تصح إلا بالعربية الفصحى. وتحتضن الفصحى العلوم الشرعية ومسائل العقيدة التي يحتاج إلى التفقه فيها كل مسلم يصبو إلى حياة مستقيمة وفق تعاليم الدين الحنيف. ومعلوم أن الدراسات اللغوية والبلاغية عند العرب كان مبعثها أساسا حفظ الألسن وصونها من الزلل حين تلاوة الذكر الحكيم بالإضافة إلى ضرورة الوعي اللغوي ومعرفة أسرار العربية الفصحى من أجل تدبر الآيات القرآنية وتفسير معانيها وتلمس أوجه الإعجاز فيها. هذا هو الهدف الأسمى والغاية القصوى للدراسات الأدبية وعلوم اللغة. وقد عبر عن ذلك ابن خلدون في حديثه عن علوم اللسان حيث يقول إن "معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلَتُها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة." (ابن خلدون 1988، ج1: 753). ويقول أيضا عن لسان مضر "وكان القرآن منزلا به والحديث النبوي منقولا بلغته وهما أصلا الدين والملة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل سماه أهله بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فنا محفوظا وعلما مكتوبا وسلما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقيا." (ابن خلدون 1988، ج1: 767).

هذا الارتباط العضوي بين اللغة وبين الدين بشعائره ونصوصه المقدسة يضفي على المسألة اللغوية عند المسلمين حساسية من نوع خاص. إن تكريس الفصحى هو في حد ذاته تكريس للإسلام وأي تقاعس في تنفيذ هذه المهمة يعد إخلالا بالواجب الديني لأن التفقه في العربية هو الجسر الذي لا بد من عبوره إلى التفقه في نصوص الدين الإسلامي وتعاليمه. إن أي انحراف عن النهج اللغوي السليم الذي نزل به القرآن وتكلم به النبي وصحابته هو، من وجهة نظر علماء المسلمين، بمثابة حواجز تقوم بين المسلم وعقيدته. وكلما بعدت المسافة اللغوية بين المسلم والعربية الفصحى ابتعد عن ينابيع العقيدة المتمثلة في الذكر الحكيم والسنة الشريفة. إن الواجب الديني يملي على كل مسلم أن يتقن العربية الفصحى ليتمكن من التفقه في أمور دينه. إتقان العربية والتفقه في الدين ينبغى أن يكونان على قائمة أولويات البرامج التعليمية في أي مجتمع إسلامي. ومن مؤشرات هذا الاهتمام أن مناهج التعليم في معظم البلدان الإسلامية كانت وإلى عهد قريب تكاد تقتصر على علوم اللغة وأصول الدين. وحتى الآن نجد بعض الدول الإسلامية تجيز للطالب الانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى حتى ولو رسب في مادة أو مادتين شريطة ألا تكون من مواد اللغة العربية أو الدين.

في ظل هذه الاعتبارات، لا غرو أن تنظر المؤسسات الدينية إلى اللغات العامية وآدابها بشيء من التحفظ لأنها مظاهر وأعراض تتنافى مع قناعاتها وأهدافها لذا ينبغي التصدي لها ومحاولة الحد منها. ويستند الموقف الديني المتحفظ تجاه الأدب الشعبي على ثلاثة اعتبارات؛ أولها موقف الإسلام المعروف من الشعر ومن مختلف أجناس الإبداع الفني والأدبي، عاميها وفصيحها، وثانيها أن الوعاء اللغوي للأدب الشعبي هو العامية، وثالثها أن الأديب الشعبي بحكم أميته وابتعاده لغة وفكرا وثقافة عن منابع الحضارة الإسلامية والعقيدة الدينية غير معصوم من الزلل وعرضة للانزلاق في ما يتنافى مع تعاليم الدين. وأوضح مثال على ذلك ما تحتوي عليه الحكايات الشعبية والأساطير من مضامين تتنافى مع أصول العقيدة والتوحيد الخالص لله. الإقبال الجماهيري على الأدب الشعبي يجعل منه أداة فعالة في تكريس العامية وترسيخها وكذلك ترويج ما يتضمنه هذا الأدب من خرافات ومعتقدات باطلة. وذوق المسلم الورع يمج ما تنطوي عليه بعض نماذج الشعر القبلي من مبالغات في المدح المفرط والهجاء المقذع والمفاخرات القبلية التي تحمل بذور الفتنة وتحرض على سفك الدماء.

الموقف الديني المتحفظ يتجاوز المادة ذاتها ليشمل حتى دراستها والاهتمام الأكاديمي بها. وأخشى ما تخشاه المؤسسات الدينية أن الانصراف إلى دراسة اللهجة العامية وآدابها وتشجيع البحوث العلمية في هذا المجال سوف يعلي من شأنها ويرفع من قدرها فتحل محل الفصحى وتصبح وسيلة الاتصال ولغة العلم والتعليم. وهذا نذير خطر بالنسبة للفصحى التي ستؤول في هذه الحالة إلى ما آلت إليه اللاتينية وتصبح لغة ميتة.

المقولة القومية. ينظر القوميون إلى اللغة العربية كواحد من أقوى الأواصر التي توحد بين الشعوب العربية على اختلاف مشاربهم وتباعد أوطانهم وتصهرهم في أمة واحدة ذات تاريخ واحد وتراث مشترك يعود إلى ما يربو على خمسة عشر قرنا. لو أن كل بلد عربي بدأ يبرز ثقافته المحلية وينمي لهجته العامية وآدابه الشعبية لانفرط العقد وتمزق النسيج وجاء وقت تستقل فيه اللهجات وتتباعد عن بعضها وعن أصلها الفصيح لتصبح لغات مستقلة يستحيل التفاهم فيما بينها. هذا يعني موت العربية الفصحى واندثارها مما يؤدي إلى القطيعة التامة بين الإنسان العربي وتراثه الفكري والحضاري والقضاء على مفهوم الوحدة الحضارية والشعور القومي المشترك بين أبناء الأمة العربية. إنهم يرون أن الاهتمام بالفنون القولية الشعبية يعني تشجيع اللهجات المحلية وبعث النعرات الإقليمية وتكريس لعوامل الفرقة بين أبناء الوطن العربي الكبير.

ويؤكد القوميون أن مخاوفهم هذه ليست بدون أساس. يقولون إن هناك أصواتا، تبدو الآن ضعيفة وخافتة لكنها ربما تتنامى وتعلو لو سنحت لها الفرصة، بين المستشرقين، بل حتى بين بعض المفكرين العرب، وخصوصا من ينتمون إلى أقليات عرقية ودينية، تروج للادعاء القائل بأن الفصحى لغة محنطة معقدة في نحوها وصرفها ولا تتلاءم في مفرداتها وتراكيبها مع متطلبات الحياة اليومية في وقتنا الحاضر. وتدعي هذه الأصوات أن تعلم الفصحى يحتاج إلى جهد جهيد ولا يترك للطالب مزيدا من الوقت وفائضا من الطاقة الذهنية لتعلم ما هو أجدى وأهم بالنسبة لمقتضيات العصر الذي نعيش فيه. أما اللهجة المحلية، حسبما يرى هؤلاء، فهي اللغة الطبيعية التي يتعلمها الفرد بالفطرة والسليقة من خلال احتكاكه بأهله وأقرانه، لذا فهي مفعمة بالحيوية وأقدر على التعبير عن المشاعر وحاجاتنا اليومية ومن المحتم أنها سوف تكسب الجولة إن عاجلا أو آجلا ضد الفصحى. ومن وجهة نظر القوميين، فإنه لا شيء أخطر من هذا التوجه بالنسبة لتطلعات الأمة العربية نحو الوحدة السياسية ولم الشمل العربي. ويجدر بنا الالتفات إلى القضايا المشتركة التي توحد فيما بيننا وتشد من تماسكنا بدلا من لفت الانظار إلى القضايا التي تباعد بيننا وتمايزنا عن بعضنا مثل اللهجات المحلية والثقافات الشعبية والتي قد يستغلها الأعداء والمناوئون لشق صفوفنا.

المقولة السياسية. التاريخ العربي في معظم فصوله سجل حافل بالحروب والمشاحنات القبلية والنزاعات الإقليمية والصراعات الدامية بين الإمارات والمشيخات والسلالات الحاكمة التي تحاول كل منها طمس الماضي من قبلها وتمزيق صفحات التاريخ السابقة وبدءِ كتابته من الصفر. هذا التاريخ أشبه بالطبقات الجيولوجية المتعاقبة التي تطمر كل منها ما تحتها وتخفي معالمه. إن طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية ليست سلسلة متصلة من التطور التدريجي وحلقات متتابعة من الإنجازات المتراكمة، بل هي أقرب إلى عمليات النسخ والنسف، إذ تحاول كل مرحلة أن تلغي تماما ما جاء قبلها وتغيّب معالمه وتمحوه من ذاكرة المجتمع. لكن الأدب الشعبي لا يموت ولا ينمحي، بل يبقى مطمورا تحت السطح مثل بذور الأعشاب الصحراوية في أزمنة الجفاف والتي تنبعث فيها الحياة عند أول زخة مطر. الأدب الشعبي يقوم مقام اللقى والمستحاثات التي ينبشها الآثاريون ويستدلون بها على أحداث الماضي وسماته. ولما كان العالم العربي يحيا الحياة الشعبية ويعيش الحالة الشفهية فإن الأدب الشعبي عندنا في أغلب الأحوال يحل محل التاريخ وهو انعكاس لواقع الحياة اليومية وأحداثها المعاشة. لكن الصورة التي يقدمها قد تكون في بعض الأحوال صورة فاضحة ومحرجة تختلف عن تلك التي تحاول الأوساط الرسمية تمريرها على الناس.

كما أن مضامين هذا الأدب تدافع عن مصالح وتتبنى قضايا وتحمل توجهات سياسية وقيما أخلاقية ومفاهيم اجتماعية تتعارض في بعض نماذجها مع بعضها البعض وكذلك مع الأوضاع السياسية المستجدة التي تسعى بكل السبل المتاحة لتثبيت وضعها وترسيخ وجودها. الترويج لهذه القيم والمفاهيم قد يؤدي إلى إشاعة البلبلة وزعزعة الأمن والاستقرار. نجد مثلا أن كثيرا من القصص التاريخية (السوالف) والقصائد النبطية التي دأب على سردها الرواة الشعبيون في الجزيرة العربية، باديتها وحاضرتها، تدور حول العصبيات القبلية والنعرات الإقليمية التي تستدعي المصلحة الوطنية ووحدة الصف عدم إثارتها الآن. إن التحول من مرحلة النظام القبلي والتمزق الإقليمي إلى مرحلة السلطة المركزية والوحدة الوطنية يتطلب الحذر في التعامل مع مواد الأدب الشعبي الملغمة، والتي لو تفجرت ألغامها لعصفت بوحدتنا الوطنية.

وليس القصد هنا أن السلطة المركزية وحدها أو الدولة ذاتها بمختلف مؤسساتها وأجهزتها الرسمية هي التى تتصدى لحملة "تنقية" و"تهذيب" الأدب الشفهي من الشوائب التي تهدد بتعكير صفو الحياة السياسية والاجتماعية، بل إن غالبية أفراد الشعب أنفسهم والذين يدركون مزايا الوضع القائم ويقبلونه ودخلوا ضمنيا مع الدولة في عقد اجتماعي للمحافظة علىه وتعزيزه يتفهمون الموقف الرسمي ويتعاونون مع الجهات الرسمية في عدم تداول المواد المتفجرة من الأدب الشعبي والتاريخ الشفهي والترويج لها، وخصوصا في وسائل الإعلام والمناسبات العامة.

المقولة النخبوية. في الدول النامية يصعب إقناع الناس بأهمية دراسة المأثورات الشعبية والثقافة التقليدية والعناية بها. لا يعد مثل هذا المطمح من أولويات الدول النامية وإنما تنصب الأولوية في هذه الدول على كيفية تجاوز الحياة التقليدية وتخطيها. الدول النامية تبذل قصارى جهدها لتلحق بركب الدول المتحضرة والمتقدمة في المجالات العلمية لتحسين مستوى المعيشة ورفع مستوى دخل الفرد وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية. ويرى البعض أن المأثورات الشعبية والتنمية ضدان لا يتفقان. الأولى ترجيع لأصداء الماضي وترسيخ لقيمه وتقاليده الرجعية والأخرى استشراف للمستقبل وسعي جاد نحو التغيير والتحديث. مظاهر الحياة التقليدية بالنسبة لهؤلاء تمثل رواسب الجهل وبقايا التخلف التي تعيق التنمية وتقف عقبة كأداء في طريق التطور والتقدم وذلك بما تنطوي عليه من قيم وممارسات بالية مثل العصبية القبلية والروح الإقليمية وامتهان العمل اليدوي والنظرة الدونية للمرأة. وقد يصل التعصب بالبعض إلى حد احتقار كل ما هو قديم ورفضه جملة وتفصيلا واعتباره من الخزعبلات والخرافات التي لا تستحق التوقف عندها ولا التفكير فيها والانشغال بها بل ينبغي محاربتها والقضاء عليها. وهناك من يخجل من الارتباط بمظاهر الحياة التقليدية ويتحرج من الانتماء لها على اعتبار أنها تتنافى مع أساليب الحياة العصرية ولا تتمشى مع سمات السلوك الحضاري وأنه من غير اللائق أن نقدم أنفسنا على هذه الصورة البدائية للعالم المتمدن. وإذا ما كانت هناك ضرورة ملحة للاحتفاظ ببعض مظاهر الحياة التقليدية لأغراض محدودة كالترفيه مثلا أو تشجيع السياحة فمن الأفضل معالجة هذه المظاهر وتلميعها وإخراجها بالشكل "اللائق".

كما أننا لو تفحصنا طبيعة المجتمعات المدنية المعاصرة، بتركيبتها الطبقية وتكتلاتها السياسية المتصارعة بما يسند كلاً منها من بنى فكرية ومنظومات أيديولوجية، لوجدنا أن ثقافة الطبقة العليا من النخبة السياسية والاجتماعية هي الثقافة السائدة والمسيطرة التي تطفو على السطح وتعلو على الواجهة لتشكل ما نسميه الثقافة الرسمية. أما ما تلفظ به الثقافة الرسمية، كما تشكلها قيم النخبة وممارسة العلية، فإنه، بفعل التقادم ومرور الزمن، يترسب إلى قاع التركيبة الاجتماعية لتتشكل منه رموز الثقافة الشعبية وعناصرها. وبحكم ما بين الطبقات الاجتماعية من صراع دياليكتيكي فإن الثقافات الطبقية، بما لكل منها من مقومات وما تمليه من مصالح وتتبناه من قيم، تدخل كأطراف مؤثرة وفاعلة في هذا الصراع. وكثير من مواقف الرفض والقبول لعناصر الثقافة الشعبية مرده إلى حركة الدياليكتيك الثقافي بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وقد ألمح الدكتور التلي بن الشيخ إلى شيء من ذلك في حديثه عن الشعر الشعبي في الجزائر حينما قال:

وظاهرة الزهد في الأدب الشعبي من قبل الأدباء والعلماء القدماء ينبغي ألا تحلل بمعزل عن الإطار العام لاتجاه الثقافة العربية والعالمية معا. ذلك أن بنية التركيب الاجتماعي قبل عصر النهضة الحديثة كانت تقوم على أسس طبقية تفاضل بين أنماط التعبير حسب الوضع الاجتماعي. وقد كان الأديب أو العالم متأثرا بهذا الواقع، ينظر إلى الأدب الشعبي نظرة أقل من الأدب الرسمي. بل إن بعض الأدباء قد تعرضوا إلى النقد لأنهم كانوا يجلسون إلى العامة ويعجبون بأدبهم وبلاغتهم. (الشيخ 1983:66).

أعلي 
 

نقض المقولات

لا شك أن المقاصد من وراء مقولات الرفض مقاصد نبيلة والدوافع سامية ومن واجبنا التنبه واليقظة ضد كل الأخطار التي تحيق بأمتنا، مهما كان مصدرها. لكن المقاصد النبيلة والنوايا الحسنة شيء والتفكير العلمي شيء آخر. ولو أن دراسة فنون القول والآداب الشعبية واللهجات المحكية سوف تؤدي إلى أي من النتائج الوخيمة التي تحذر منها مقولات الرفض لكان من المؤكد أن أي عالم شريف أو مفكر حر لن يقبل على اقتحام هذا المجال. معظم التحفظات والشكوك التي تتضمنها مقولات الرفض لا أساس لها في الواقع وإنما منشؤها سوء الفهم وعدم استقامة طرق التفكير. شُيدت مقولات الرفض على أسس منطقية خاطئة وعلى طرق في التفكير ومناهج في التحليل تُنافي الروح العلمية مما يستدعي الكشف عنها وإصلاحها. وسوف استطرد هنا لأحاول الكشف عما أعتقد أنه أبرز عيوب الأطر الذهنية التي تستند عليها مقولات الرفض وكذلك ما تتضمنه هذه المقولات من سوء فهم حيال الهدف الحقيقي وراء دراسة اللهجات والأدب الشعبي، بما في ذلك الشعر النبطي.

الرؤية السكونية في فهم الكون. النظرة السكونية نظرة بدائية ماقبلعلمية تقوم على التفسيرات الأسطورية لنشأة الكون وتقوم على أساس أن الأرض وغيرها من الكواكب والأجرام السماوية أشياء ثابتة لا تتحرك ولا يقوم بينها أي علاقة أو نظام. هذه النظرة الفلكية السكونية انعكست على مفهوم الزمن فثبتته وألغت فكرة التغير والتطور وألغت حركة التاريخ. في ظل الرؤية السكونية للكون يعيش الإنسان خارج الزمن وتقتصر نظرته إلى التغير على ملاحظة حالات فردية من الأشخاص والأشياء التي يصادفها في حياته ويراها تشيخ وتبلى أمام ناظريه. التغير وفق هذه النظرة ليس قانونا طبيعيا يسيّر هذا الوجود ويحكمه، وإنما مجرد أحداث فردية منعزلة يعايشها الإنسان ويمر بها في تجربته الشخصية وهو يكبر ويتقدم به العمر نحو الشيخوخة والهرم ثم الفناء.

بعد اكتشاف الجاذبية وقوانين الحركة التي تسير هذا الكون بما فيه من شموس وكواكب، بدأ الإنسان يتساءل عن نشأة هذا الكون وعمره. ومع تقدم الأبحاث الفلكية والجيولوجية بدأ عمر الكرة الأرضية يتراجع ويمتد ليقفز من مئات الآلاف إلى مئات الملايين من السنين. كما أنه بفضل الأبحاث الأركيولوجية والأنثروبولوجية قفز عمر الإنسان على الأرض من الآلاف إلى عشرات الآلاف من السنين، التي قد تزيد وتنقص تبعا لطبيعة الأدلة العلمية التي نحتكم إليها وتبعا لأي مفصل من مفاصل مسيرة تطور الجنس البشري نريد أن نطلق صفة "إنسان عاقل" على هذا الكائن البشري. ومع اكتشاف المنظومة الشمسية والدورة الدموية بدأ يطغى مفهوم "النظام" على التفكير العلمي. وعرف العلماء النظام بأنه كل يتألف من وحدات يقوم بينها علاقات تمليها طبيعة هذا النظام. وتدخل الأنظمة الصغيرة مع بعضها في تكوينات نظامية أكبر. العلاقات الديناميكية القائمة بين وحدات النظام في حركة دؤوبة لا تستقر.

وبدأت تتراكم الشواهد العلمية التي تشير إلى أن التغير ليس عملية عشوائية ولا حدث فردي وإنما هو مفهوم عام يحكم الكون كله وأنه ناموس من نواميس الطبيعة الذي يخضع لنظام يسيره من البساطة إلى التعقيد ومن التشابه إلى التمايز. وعلى هذا الأساس تقوم نظرية التطور التي تعد، بعد اكتشاف الجاذبية والنظام الشمسي، أعظم خطوة على مسيرة تقدم الفكر الإنساني.

والتفسير الأسطوري لنشوء الكون يضيف تعقيدا آخر لمفهوم الزمن البدائي. إنه يقود بالضرورة إلى ما يمكن أن نسميه النظرة الارتجاعية في تفسير التاريخ. التاريخ البشري، وفق هذه النظرة، يسير بانحدار نحو هاوية محتومة. كل زمن أفضل من الزمن الذي يليه وأفضل الأزمان أولها وأسوأها آخرها. هذه النظرة تضفي على القديم شيئا من القداسة والرهبة يصعب الانفلات منهما وتقود إلى الاعتقاد بأن الجنس البشري، وكل شيء آخر في هذه الدنيا، يسير في طريق الانحلال والضعف والشيخوخة والانحطاط ماديا ومعنويا، بدنيا وعقليا وخُلقيا، وكذلك عمرانيا. إن أي تغيير يطرأ على أي شيء في هذا الكون هو حتما تغير إلى الأسوأ، إلى الفساد. وعلى هذا الأساس شاع بين علماء اللغة الكلاسيكيين مفاهيم مثل مفهوم "فساد اللغة" وهو مفهوم مدجج بالأيديولوجيا، بدلا من مفهوم "التغير اللغوي" الذي يبدو أكثر حيادية.

بعد الاكتشافات الفلكية الحديثة تصحح مسار التاريخ وانعدل اتجاهه من الخلف إلى الأمام، نحو التطور والتقدم. ومع تقدم البحث العلمي تبين أن التغير قانون طبيعي وآلية قسرية لا يمكن الوقوف في وجهها. وبذلك تغيرت النظرة إلى الماضي والمستقبل وأصبح الناس يحاولون فهم التغير والتعامل معه تعاملا ديناميكيا وعقلانيا بعد أن كانوا يخشونه ويقفون ضده.

وعلى هذا الأساس يرى علماء اللغة المحدثون أن التغير اللغوي ليس فساداً وتدهوراً في اللغة كما يحلو للبعض أن يسميه، بل هو ضرورة يحتمها عامل الزمن وتمر بها أي لغة حية. فالتغير لا يقتصر على الأشياء الحسية فقط بل يعتور حتى المعنويات، بما فيها السلوك الإنساني، وخصوصاً السلوك اللغوي الذي يتغير مع مرور الزمن ولا يثبت على حال. قد يكون التغير تدريجياً غير محسوس لكنه يتراكم على مر السنين ويصبح أمراً ملحوظاً. وقد توجد عوامل تاريخية وحضارية تساعد في دفع حركة هذا التغير وتعجل بنتائجه. الزمن كفيل بتغيير أي شيء وكل شيء. والقواعد النحوية والصرفية والصوتية في أي لغة من اللغات، كغيرها من الأشياء، عرضة لتغير دائم وتشكل مستمر. ولكن هذا التغير محكوم بنظام، ولذلك نستطيع رد العامي إلى الفصيح. الاختلاف الذي نلمسه بين الفصحى والعامية أتى نتيجة التغير اللغوي الذي يخضع لقوانين صوتية وصرفية ونحوية من السهل اكتشافها وصياغتها في قواعد نستطيع بواسطتها رد العامي إلى الفصيح. وهذا شيء مألوف في اللغات الإنسانية جميعها. ومن الأسس التي يتفق عليها اللغويون أنه إذا كان الاختلاف بين لغتين محكوماً بقوانين مطردة فإن ذلك يؤكد العلاقة التاريخية بينهما. مهما اختلفت اللهجات العامية عن بعضها ومهما ابتعدت عن العربية الفصحى فإن أصلها واحد. انحدرت العاميات من الفصحى وتفرعت عنها.

الخلط بين الذات والموضوع. أي الخلط بين ذات الدارس وبين موضوع الدراسة. وهذا يؤدي بالتالي إلى الخلط بين الدعوة إلى الشيء وتبنيه وبين الدعوة إلى دراسته بموضوعية وتجرد. قد يصعب على البعض أن يتخيل أنه من الممكن للعالم المتجرد أن يبحث، وبعمق، في مسألة من المسائل دون أن يكون له حيالها أي موقف أو يترتب له منها أي مصلحة. العلم مسائل تبحث عن حلول وليس قضايا ومواقف تبحث عن دعاة وأنصار. العالم ليس واعظا وليس داعية وليس إنسانا أيديولوجيا يؤمن إيمانا عقائديا وأخلاقيا بما يقول ويدعو إليه. سمة التجرد التي لا بد من توفرها في العالم تعني عدم وجود أي ارتباط شعوري أو مصلحي بين الدارس والموضوع. الدارس والموضوع مستقلان تماما أحدهما عن الآخر. هل علماء الجريمة والانحراف يدعون إلى هذه الرذائل؟ وهل دراسة ظاهرة المخدرات تشجع على الإدمان؟ هل يصبح الممثل الذي يقوم بدور الشرير شريرا؟

البعض قد لا يدرك الفرق بين التعامل مع الأدب الشعبي كمادة والتعامل معه كموضوع. المبدع والمتلقي ينظران إلى الأدب الشعبي من زاوية المنتج والمستهلك لهذه المادة أما العالم المتجرد فإنه ينظر إلى الأدب الشعبي كموضوع للدراسة والتحليل ويتعامل معه مثلما يتعامل أستاذ التشريح مع ضفادعه وفراشاته والمخبري مع مواده الكيماوية. والمتخصص لا يطرب لمضامين الأدب الشعبي ولا ينتشي بلغته بقدر ما يطرب لما يتكشف له من خلال البحث والدراسة في هذا المجال من حقائق علمية وتعميمات نظرية تسهم في تقدم المعرفة الإنسانية وتعميقها. بل إن هناك نماذج من الأدب الشعبي ربما لا تتفق في مضامينها وأشكالها مع ذوق المتخصص وتتنافى مع قناعاته لكن هذا لا يمنعه من فهم مادتها ومحاولة استنباط القوانين التي تحكمها. الدافع العلمي الصحيح من وراء دراسة أي موضوع هو أساسا حب المعرفة وغريزة الاستطلاع وليس بالضرورة حب الموضوع نفسه والتشيع له.

المبدأ الذي تقوم عليه فلسفة العلم هو أن المفكر الحر يهمه معرفة الحقيقة بكل موضوعية وتجرد ويرى أن كل شيء في الوجود قابل للبحث والتنقيب ولا ينكشف له ناموس من نواميس الطبيعة أو سر من أسرار هذا الكون إلا ويسعى لكشف سر آخر، لأن حب الاستطلاع غريزة جبل عليها الإنسان ليعمر بها الأرض وتتجلى له من خلالها قدرة البارئ عز وجل. ويلجأ العالم إلى توظيف أدوات المنهج العلمي ليحترس بذلك من الانطباعات الحسية والمشاعر الشخصية والنزعات الذاتية ومن ترسبات القيم والتقاليد والأيديولوجيات التي قد تحجب النور عن بصيرته وتحول دونه ودون التوصل إلى الحقيقة المطلقة. أما من يرفض التعامل مع الحقائق التي يفرضها واقع الحياة فإنه يسقط اسمه من قائمة العلماء الحقيقيين والمفكرين الخليقين بالاحترام ويصبح بذلك أقرب إلى الديماغوجيين والطوباويين منه إلى المفكرين والعلماء. لا اعتقد أنه بإمكاننا أن نطلق صفة عالم أو مفكر على من يرفض أي شيء كان لأن المفكر الحقيقي لا بد أن يتحلى بسعة الأفق وحب الاستطلاع والرغبة الصادقة في المعرفة أيا كان مصدرها ومحاولة فهم الأمور بموضوعية وتجرد ودونما أحكام مسبقة ومسلمات تتنافى مع الروح العلمية.

وبقدر ما ينطبق هذا الكلام على العلوم الطبيعية ينطبق أيضاً على العلوم الإنسانية والاجتماعية. السلوك الإنساني، وجميع أنساقه الثقافية والاجتماعية، تحكمهما قوانين يمكن اكتشافها عن طريق البحث والاستقصاء. فالسلوك الإنساني مهما بدا عفوياً وتلقائياً فإنه محكوم بقوانين بالغة الصرامة والتعقيد. لا يوجد فوضى في هذا الوجود المنتظم، حتى نجوم السماء ليست مبعثرة بغير نظام كما يتراءى للعين المجردة. المعضلة تكمن دائما في كيفية استكشاف النظام الداخلي للظاهرة والقواعد التي تسيّرها. قد لا يدرك البعض مثلا أن اللهجات المحكية والآداب العامية تخضع لقواعد نحوية وصرفية وبلاغية وأسلوبية، تماماً كما هي الحال بالنسبة للغة الفصحى والأدب المكتوب. وهذا ما تنبه إليه ابن خلدون في قوله عن اللهجات العربية "ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات وملكاتها مجانا." (ابن خلدون 1988، ج1: 767). وقوله "ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه." (ابن خلدون 1988، ج1: 768). ويقصد ابن خلدون في عبارته الأخيرة أنه لا توجد دوافع لدراسة اللهجات مثل الدوافع الدينية التي حدت بعلمائنا لدراسة اللغة الفصحى من أجل تدبر معاني القرآن الكريم والحديث الشريف. وعدم العلم بالقوانين التي تسيّر سلوك الإنسان وتحكم الظواهر الاجتماعية والثقافية أو عدم الوعي بها لا يعني عدم وجودها. وتقع على عاتق العالم المتخصص مهمة اكتشاف هذه القوانين ووصفها وصفاً علمياً دقيقاً دون أن يتخذ موقفاً حيالها، لأن الهدف الأول والأساسي هو فهم القواعد والدوافع التي تسير سلوك الإنسان حتى نستطيع بالتالي أن نسبر غور العقل البشري ونتغلغل إلى أعماق الطبيعة الإنسانية.

الخلط بين العلم والاختراع. هذه المسألة تتعلق بما قبلها. مثلما أن المنهج العلمي يحتم علينا التمييز الدقيق والفصل الواضح بين الذات والموضوع، كذلك علينا الاحتراس من الخلط بين الجانب البحثي الاستكشافي من المعرفة الإنسانية، أي العلم، وبين الجانب الفني التقني التطبيقي، أي التكنولوجيا. هناك فروق دقيقة وحساسة بين العلم والتكنولوجيا. البحث في نواميس الطبيعة وأسرار الكون مسألة معرفية صرفة، أو قل فلسفة بحتة. أما فيما يتعلق بكيفية تطبيق النتائج التي يتوصل إليها البحث وطرق توظيفها فتلك قضايا فنية تقنية تأتي في المقام الثاني ولنا الخيار في قبولها أو رفضها وتكييفها وفق المصالح والأهداف المرسومة وحسب الإمكانات المادية المتاحة والظروف البشرية السائدة. وهذه مسألة لا دخل للعالم المتخصص فيها بل هي تخضع لاعتبارات نفعية واستراتيجية تمليها الرغبة والمصلحة. الحقائق والمكتشفات العلمية بطبيعتها محايدة متجردة لا تضر ولا تنفع إلا بحسب ما يوظفها الإنسان. فالعقار الذي يستخدمه المريض للشفاء يمكن لليائس أن يستخدمه للانتحار، والعالم الذي اكتشف الذرة لم يكن يحلم أنها ستستخدم لتحقيق المطامح الاستعمارية وربما تدمير البشرية. وقياسا على ذلك فإن دراسة الأدب الشعبي لا تعني تبنيه وتشجيعه وإنما معرفته وفهمه للتعامل معه بوعي وإدراك.

ويمكننا أن نضيف في هذا المقام أن الحقائق التي يكتشفها العلم هي أشياء موجودة أصلا وليس العلم بها أو استشعارها هو الذي يوجدها. العلم فقط ينبه إلى وجودها ويحاول تفسيرها واكتشاف القوانين الذاتية التي تسيرها وتعطيها شكلها ومادتها. فاللهجات والآداب الشعبية أمر قائم وواقع معاش لا مناص منه ولا محيص عنه، ودراستها ليست هي السبب في وجودها وإنما هي تأتي نتيجة لوجودها. وفي محاولاتهم لتفسير ظاهرة تفشي اللحن كان علماؤنا الأوائل أكثر علمية منا الآن فلم يعزوا ذلك مثلا إلى دراسة العامية أو تشجيع الأدب العامي وإنما إلى ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية مثل اتساع رقعة الإسلام ومخالطة العرب لغيرهم من الأمم الأخرى.

وكما أن دراسة الأدب الشعبي ليست هي السبب في وجوده فإن تجاهله لن يؤدي إلى تلاشيه وذهابه. إن أهم سمة تميز الأدب الشعبي هي الشيوع والتفشي والاستشراء مما يجعل القضاء عليه أو صرف الناس عنه أمرا مستحيلا. الأبيات الشعبية والأمثال العامية مكروبات مجهرية تنتشر في الجو وتبقى عالقة فيه نستنشقها مع الهواء ويعدي بها بعضنا بعضا دون أن نراها أو نشعر بها. إنه لا يمكن صدها ولا ردها ولا درء خطرها، فهي تسري في المجتمع سريان الدم في العروق وتجري منه مجرى النفس. ومهما تحرج البعض من الانتماء إلى بعض مظاهر الثقافة الشعبية ومضامين الأدب الشعبي فإنها تبقى جزءاً من تاريخنا الثقافي والاجتماعي الذي لا يمكن الانسلاخ منه أو التملص وإنما يجدر بنا فهمه حق الفهم والتعامل معه تعاملا ذكيا ومدروسا. الموروث الشعبي بثور الجدري وآثار الكي التي لا تزول إلا بخدش الوجه وتقشيره وطمس قسماته. إنه ندوب على الجسد لا يمكن إزالتها إلا بتقطيع الجلد والانسلاخ منه.

ولا أحد ينكر أن الأدب الشعبي ليس تمردا على قواعد اللغة الرسمية المدرسية (الفصحى) فقط؛ بل إنه في بعض نماذجه تمرد على كل المناهج المدرسية وعلى قواعد الالتزام والانضباط وعلى الرقابة الإعلامية وعلى وضعيات وحيثيات رسمية أخرى كثيرة. الشعراء الشعبيون أشقياء باعترافهم هم (قال المشقّى/قال المعنّى) والأدب الشعبي بطبيعته لا يخلو من العبث والشغب والنزق وهو يحمل مضامين خطيرة وقضايا ملتهبة قابلة للتفجر. لكن هذه الخطورة هي التي تجعل من الغباء تجاهل الأدب الشعبي وإنكاره بل ينبغي أخذه مأخذ الجد والتعامل معه بمسؤولية علمية ووفق منهجية مدروسة وإلا انتقض جروحا تنزف منها الدماء.

الخلط بين الفكر والأيديولوجيا. من المؤكد أن جل من يترددون في قبول دراسة المأثور الشعبي وخصوصاً اللهجات والأدب الشعبي ينطلقون من مبدأ الحرص على العقيدة الإسلامية والقومية العربية. لكن حماية الإسلام والعروبة لا تتحقق بالانغلاق الفكري ورفض العلوم العصرية. قوة العرب والمسلمين مرهونة بقدرتهم على استيعاب معطيات العصر ومجابهة تحدياته بروح علمية وفكر نير متفتح وتسخير جميع العلوم الحديثة لخدمة قضايانا وأهدافنا التنموية.

إن علينا أن نفكر بوضوح وأن نحترس من الخلط بين الاتجاهات الأيديولوجية والأحكام التقريرية من جهة وبين التقويم الموضوعي للأمور من جهة أخرى. فكلنا ملتزمون أيديولوجيا بمبدأ إنعاش الفصحى والمحافظة عليها. لكن لا ينبغي أن يقف هذا المبدأ حاجزاً بيننا وبين الرؤية الموضوعية والاتجاه العلمي نحو دراسة اللهجات والأدب الشعبي دراسة أكاديمية متخصصة. وهذا بالطبع لا يعني تشجيع العامية على حساب الفصحى أو تلقينها للطلاب على جميع المستويات كما هي الحال بالنسبة للفصحى. المقصود هو سد الحاجة بإيجاد نخبة من المختصين الأكاديميين في هذا المجال الذي سوف يقتصر الاهتمام به على الجامعات ومعاهد البحوث والتي سوف تدرسه لعدد محدد من المختصين كما تدرس غيره من التخصصات الدقيقة.

النزعة التآمرية في تفسير الصراع الإنساني. لا أحد ينفي احتمال سوء استخدام اللهجات والآداب العامية واستغلالها من قبل القوى المناهضة والاستعمار. وكما أسلفنا، هناك بالفعل من يرى أن دراسة اللهجات والأدب الشعبي مؤامرة استعمارية تحيكها دول الغرب بقصد تفتيت الأمة العربية. ولكن هذه الدول دائما تحاول تسخير جميع العلوم العصرية لصالحها، ليس فقط علم اللهجات والفلكلور. هل لنا والحالة هكذا محاربة هذه العلوم برمتها لأن الاستعمار استطاع أن يسخرها لصالحه أم أن علينا أن نأخذ بزمام المبادرة ونسخر نحن بدورنا هذه العلوم لتحقيق مصالحنا ومحاربة الاستعمار؟! وليست الرغبة في التسلط والسيطرة والاستعمار دائماً هي الدافع الوحيد الذي حدا بعلماء الغرب إلى دراسة اللهجات والآداب الشعبية في المجتمع العربي وغيره من المجتمعات الأخرى. فهم لم يلتفتوا إلى تلك المجتمعات إلا بعد أن قتلوا لهجاتهم وآدابهم الشعبية بحثاً ودرساً. هل كانوا بذلك يتآمرون ضد أنفسهم؟ إنه الحب في المعرفة والبحث عن الحقيقة. ولا يعدمون من اتجه إلى دراسة المجتمعات الأخرى مدفوعاً بحب صادق في المعرفة والبحث عن الحقيقة، وربما حباً في تلك الشعوب. ولا ننس أن المناهج العلمية التي تسير أبحاثهم تحتم عليهم مقارنة ما لديهم بما لدى غيرهم من اللهجات والآداب الشعبية ليعمقوا فهمهم لأنفسهم وللعالم كله وليؤسسوا نظرياتهم وتعميماتهم على أسس متينة. إن غريزة الاستطلاع وحب المعرفة والاستكشاف دفعت بهم للصعود إلى المريخ والسير على سطح القمر. فهل يستكثر عليهم دراسة أي شيء على كوكبنا هذا؟ العلم ليس له حدود؛ لا جغرافية ولا موضوعية. وما كرسه المستشرقون من الجهد والوقت لدراسة لهجاتنا وآدابنا الشعبية لا يعادل شيئا مما كرسوه من جهد ووقت لدراسة القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي واللغة العربية وآدابها. هل لنا أن نرفض هذا كله لأنها دنسته أيدي المستشرقين؟!

رفض التعددية. المكان لا يقل أثرا عن الزمان كعامل من أهم عوامل التغير التي تعتور الأشياء وكسبب من أهم الأسباب المؤدية إلى الاختلافات التي تميز المجتمعات البشرية وتمنح كل منها سمات التفرد والخصوصية. لا يمكن لأي شيء أن يفلت من قبضة الزمان والمكان ومن ثم من حتمية التغير والتحول. من المستحيل أن يكون الشيء هو الشيء نفسه من لحظة إلى أخرى. فأنت لا تعبر النهر نفسه، بل أنت لا تعبر الطريق نفسه مرتين. والاختلاف ضرورة تحتمها متطلبات التكيف مع البيئة والتأقلم مع المحيط والاستجابة للعوامل المؤثرة. لذا فإن الاختلافات والفوارق بين عناصر الثقافة الشعبية من قطر لآخر في وطننا العربي الكبير أمر طبيعي يحتمه عامل الزمان والمكان، وحتى في البلد الواحد نجد اختلافاً بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. إلا أن هذه الاختلافات التي نراها على السطح ما هي إلا تشكيلات على نفس النمط وإيقاعات على نفس النغم. فالأمثال والحكايات التي نسمعها على ساحل الخليج هي تلك التي نسمعها على ساحل المحيط. الأعياد هي الأعياد والطقوس هي الطقوس. كذلك الحلي والأزياء والأغاني والرقص إن لم تكن متفقة فهي متشابهة. والسير الشعبية كسيرة عنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي ينشدها المغنون الشعبيون في المقاهي والأماكن العامة في مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير. وكلما أمعنا النظر في هذه الحقائق تبين لنا أن الحدود السياسية التي وضعت لتجزئتنا وفصل بعضنا عن بعض ما هي إلا خطوط وهمية لا حقيقة لها في الواقع الاجتماعي والثقافي. بل إن الإنسان ليأخذه العجب حينما يرى ما نعانيه من تمزق سياسي مقارناً بتلاحمنا الثقافي على المستوى الشعبي. فالوحدة التي فشلنا في تحقيقها سياسياً هي قائمة بيننا ثقافيا واجتماعيا. إنه ما من شيء يسهم في تأكيد الوحدة القومية للعرب وتجسيد غاياتها ومثلها قدر ما ساهمت الثقافة الشعبية في صنعها ابتداء من وحدة العادات والتقاليد وإنتهاء بوحدة الإبداع الشعبي كالقصص والملاحم والسير والحكايات والأمثال والنوادر. المأثورات والآداب الشعبية في البلاد العربية ليست عامل فرقة وعنصر تفتيت، كما يرى البعض، بل هي من أقوى عوامل الائتلاف وأبرز عناصر الوحدة. وهذه الوحدة التي نتحدث عنها ليست وحدة وهمية أو مفتعلة أو مفروضة من لدن جهات فوقية، بل هي وحدة حقيقية وطبيعية وشعبية تصهر أبناء الأمة العربية على اختلاف مشاربهم في بوتقة واحدة من الشعور المشترك والقيم المتجانسة وتجعل منهم أمة متماسكة.

ما من شخص عربي إلا ويترقب ذلك اليوم الذي تصبح فيه جميع البلدان العربية بلداً واحداً لما في ذلك من قوة اقتصادية ومنعة عسكرية وهيبة سياسية. لكن هذه الوحدة ينبغي ألا تفهم على أنها تعني كون كل إنسان عربي نسخة كربونية طبق الأصل من الإنسان العربي الآخر ولا كل بقعة من الوطن العربي صورة مماثلة للبقع الأخرى. الشيء الذي ينبغي أن نعيه ونتنبه إليه أن الوحدة تكون أقوى وأمتن إذا كانت مبنية على التكامل والتكافل لا على التناظر والتماثل. التماثل يعني الرتابة الباهتة المملة، والتكامل يعني التنوع والتلوين والعمق والثراء. ما نشاهده في الثقافات الشعبية العربية من تعددية وتنوع ليس مثلبة من المثالب بل منقبة يجدر بنا أن نرعاها ونحافظ عليها. إنها وحدة في التنوع وتكامل في التباين. هذا مما يضفي على ثقافتنا وفنوننا الشعبية عمقا وتلوينا وتنويعا ينأى بها عن الرتابة المملة الباهتة. هذه ثروة فنية ينبغي استنباطها واستلهامها وتوجيهها لخدمة أهدافنا وقضايانا القومية والثقافية.

عدم بلورة رؤية نظرية. إن قصر التعامل مع الأدب الشعبي عندنا على أساتذة اللغة العربية وانصراف علماء التاريخ والنفس والاجتماع والاثنولوجيا عن هذا الموضوع كرس النظرة الآحادية والمنهجية الاختزالية في تناول الفنون القولية على أساس أنها مجرد مادة لغوية وأدبية دون التنبه إلى أهميتها كوثيقة تاريخية واجتماعية ومادة للدراسات النفسية والأنثروبولوجية. وعلى الرغم من أن جامعاتنا تعج بأساتذة اللغات العربية والانجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات فإنه ليس لدينا علماء لغة بالمعنى العصري لهذا التخصص. وأساتذة اللغة في مؤسساتنا الأكاديمية يحملون لواء المعيارية وشعارهم "قل ولا تقل" وهمهم تمييز "الخطأ" من "الصواب" دون بذل أي جهد لفهم اللغة كسلوك بشري ونشاط ذهني تتكشف من خلاله خفايا الطبيعة الإنسانية وديناميكية العقل البشري. ومدى ما تعاني منه أقسام اللغة العربية في جامعاتنا من عجز فكري جراء سيطرة المناهج التقليدية أمر معروف لا يحتاج منا إلى إيضاح أو تأكيد. وأقسام الاجتماع هي الأخرى تعاني من التقليد لكنه تقليد من نوع آخر. إنه تقليد علمائنا لعلماء الاجتماع الغربيين من فلفريدو باريتو إلى تالكوت بارسونز إلى روبرت ميرتون وترديد مقولاتهم دون بذل محاولات جادة لفهم واقع مجتمعاتهم العربية وثقافاتهم المحلية.

يقول الدكتور شكري عياد في مقدمة كتابه اتجاهات البحث الأسلوبي "إننا إذا نظرنا إلى تراثنا بعيون مفتوحة على ثقافة العصر أمكننا أن نعرف قيمة ذلك التراث بلا مبالغة، وأن ننقده بلا خجل، وأن نعيشه بلا جمود، فنجدد ونبتكر ولا نقف عند حدود المحافظة على القديم أو تقليد الوافد. ذلك أن إعادة تفسير الماضي في ضوء حاجيات الحاضر وتطلعات المستقبل تحيل كتلة الماضي إلى زخم يدفع الحاضر نحو المستقبل." (عياد 1985: 5). ويضيف الدكتور عياد أنه "قد آن أن ننظر إلى الثقافة العربية كثقافة عالمية تشارك غيرها من الثقافات في الاهتمامات وتجاريها في الوسائل والأدوات، وإن كانت لديها نظرتها الخاصة للمسائل، وحلولها الخاصة للمشكلات. هكذا ندفع بالنقد العربي إلى ساحة الفكر العالمي." (عياد 1985: 8).

وبقدر ما ينطبق هذا الكلام على قضايا التراث المكتوب، فإنه ينطبق بنفس المصداقية على قضايا الأدب الشعبي. إننا لن نتمكن من تخطي الحواجز الذهنية والإفلات من دائرة الهجوم والدفاع في معالجتنا لقضية الأدب الشعبي ما دمنا نتناولها من خلال منظور إقليمي ضيق. علينا أن نعي دورنا كجزء من هذا العالم الكبير ونعرف أن خصوصيتنا وتفردنا لا يعني خلق هوة بيننا وبين العالم حولنا وما يجري فيه من أحداث ثقافية وتقدم فكري وتطور علمي. إننا بدراسة آدابنا الشعبية والقيام بهذا الواجب العلمي على الوجه المطلوب نكون أسهمنا وبشكل فعال وأصيل في تطوير الدراسات الاجتماعية وإثراء البحوث الإنسانية في هذا المجال وأثبتنا حضورنا على المستوى العالمي. كما أن توثيق آدابنا الشعبية ودراستها دراسة علمية صحيحة مما يضمن لها الخلود والشهرة العالمية كغيرها من الفنون والآداب الشعبية التي حظيت بنصيب وافر من الدراسة والتحليل مما أتاح الفرصة للمفكرين والمثقفين في جميع أنحاء العالم للتعرف عليها وتذوقها وتقديرها والتعاطف معها.

والاهتمام بالمسائل اللغوية والفنية، الذي يتحفظ البعض حياله، ليس إلا جانبا من جوانب الاهتمامات العديدة بدراسة الأدب الشعبي. المسائل اللغوية بالنسبة للباحث الإثنولوجي مثلا أمر عارض ومطلب ثانوي يأتي كضرورة لفهم هذا الأدب. يهتم الباحث الإثنولوجي أساسا بالأدب الشعبي كرصيد فكري ومصدر تاريخي ومرآة تعكس الحياة الاجتماعية والقيم الثقافية في سالف العصور. واهتمام الإثنولوجي بالأدب الشعبي في جزء معين من العالم يشكل جزءا من اهتماماته الأكاديمية بالأدب الشعبي في كل أنحاء المعمورة والعقلية الشعبية على وجه العموم. إنه جزء من الاهتمام الأشمل في مجالات علوم الفلكلور والأنثروبولوجيا والمراحل الشفهية من تاريخ الإنسان عموما. يهتم الإثنولوجيون بالأدب الشفهي لأنهم يريدون عن طريق البحث المقارن أن يتوصلوا إلى الفروق الذهنية والشعورية والسلوكية التي تميز المراحل الشفهية على سلم التطور البشري عن العصور اللاحقة التي تنتشر فيها الكتابة والتدوين.

أعلي 
 

أهمية الدراسات الشعبية

كلما ارتقى الإنسان درجات على سلم التطور الحضاري وسار خطوات في طريق التقدم العمراني تشعبت ثقافته وازداد تركيبها تعقيداً. وفي عالمنا المعاصر تعددت مصادر الثقافة وتفرعت قضاياها وتباينت مظاهرها وتداخلت مكوناتها، المادية منها والقولية والروحية والمعنوية. وأصبحت لكل أمة ثقافة عامة شاملة تنضوي تحتها ثقافات فرعية شعبية لكل منها وسائلها التي تعبر بها عن تميزها وخصوصيتها. هناك ثقافة كتابية عالمة تتوارى خلفها ثقافات تقليدية وموروثات شعبية يتناقلها عامة الناس ويتوارثونها عبر الأجيال.

وما من أمة تعتز بذاتها، وتحرص على أصالتها، وتطمح إلى أن يكون لها شأن بين بقية الأمم، إلا وتبذل قصارى جهدها في رصد المكونات التقليدية والمظاهر الشعبية من ثقافتها وتوثيقها ودراستها. هذه المكونات والمظاهر هي بمثابة الخيط الحضاري الذي ينتظم عقد الأجيال عبر القرون، والسداة التي تلتحم مختلف فئات الشعب وطبقاته في صفوف متراصة وحلقات مترابطة من التلاحم والتواصل. مأثورات الأمة هي الروح التي تعيش بها، والسمة التي تميزها، ووجهها الذي تطل به على العالم. وبدون التعرف على هذه المأثورات، وإبرازها بالشكل الملائم، فإنه يصعب إدراك كنه الأمة، وتمييز نكهتها، وتحديد شخصيتها ومكانتها بين الأمم الاخرى.

العناية بالثقافة التقلبدية، بما تتضمنه من موروثات وآداب شعبية، ظاهرة حضارية تدل على مستوى وعي الأمة ورقيها الثقافي ونضوجها الفكري. حيث نجد أن الدول المتحضرة قد أنشأت المعاهد وأسست المتاحف والأرشيفات، وألفت المعاجم والموسوعات لجمع مأثوراتها الشعبية وتوثيقها وتصنيفها على أسس سليمة، وذلك لما رأته من الفائدة العلمية والقيمة الفنية لها. وهذه الأمم المتحضرة لم تعن بمأثوراتها الشعبية حسب، ولكنها قامت بمجهودات كبيرة لمسح المجتمعات الأخرى -لا سيما المجتمعات البدائية ومجتمعات العالم الثالث- لجمع مأثوراتها ودراستها في حين نجد أبناء هذه المجتمعات أنفسهم يعزفون عن دراسة مأثوراتهم وآدابهم الشعبية لاعتقادهم أنها ليست إلا خزعبلات وخرافات لا تستحق أي عناية أو اهتمام وأنها ليست إلا معاول هدم ورموزا للتخلف ينبغي تجاوزها ونسيانها. وهذا شيء مؤلم حقا. فأبناء أي شعب هم أحق من غيرهم وأقدر على دراسة ما خلفه لهم الآباء والأجداد. موروثاتنا ملكنا نحن قبل غيرنا من الأمم. نحن أحق بها وأقدر على فهمها وتقديرها والاستفادة منها، ونحن أحوج ما نكون إلى فهم أنفسنا وربط حاضرنا بماضينا.

وإذا كان المجتمع يمر بمرحلة تطور سريع وتغير مفاجئ، كما هى الحال بالنسبة للمنطقة العربية، فإن جمع ودراسة المأثورات الشعبية وتوثيق مادتها بجميع أشكالها وأجناسها يصبح أمراً ملحاً لا يمكن إرجاؤه ويتحتم علينا أن نوليه عناية خاصة لسببين: أولاً حتى لا تنعدم الصلة بين ماضينا وحاضرنا، وثانيا حتى لا يغيب حملة هذا التراث عن مسرح الحياة ويندثر معهم ما ورثوه عن الأسلاف من أشعار وأمثال وحكايات وعادات وتقاليد وقيم اجتماعية وغير ذلك من المعارف والفنون والآداب. ولا شك أن التغير الجذري الذي تمر به المنطقة العربية وما ينتج عنه من تحوير في النسيج الاجتماعي وتبديل في البنية الاقتصادية وكذلك المد الحضاري الجارف والتيارات المعاصرة التي تحيق بنا، وما صاحب ذلك كله من وسائل الترفيه والاعلام الحديثة، تكاد تكتسح ثقافتنا الشعبية وتوشك أن تطمسها تماماً. يتحتم علينا المسارعة بتوثيق موروثاتنا الشعبية من جميع جوانبها ومختلف أبعادها قبل أن تصبح نسيا منسيا.

ليست المأثورات الشعبية بمختلف جوانبها المادية والقولية والروحية إلا متاريس إذا اكتسحت أصبح اكتساح الذات العربية والحضارة العربية بتراثها الديني واللغوي والأدبي أمراً سهلاً وميسوراً. وفي إهمالنا لثقافتنا الشعبية وأد لأحد أهم جوانب الإبداع والعطاء فى حضارتنا وتكريس لوضعنا كمستهلكين لصناعة الغرب وفكره وثقافته وفنه. وأوضح مثال على هذه التبعية ما نطالعه كل يوم من أفلام ومسلسلات تلفزيونية وبرامج ترفيهية وتثقيفية. لو ذهبنا إلى الحوانيت التي تسوق أشرطة الاستمتاع المرئية والمسموعة لوجدنا أن الإنتاج العربي يشكل أقل من القليل والبقية إنتاج غربي وأجنبي. حتى في الموسيقى والرقص والغناء أصبحنا مستهلكين لمنتجات الغرب التي بدأت تشكل حسنا الفني. بل إن ذوقنا في المأكل والمشرب وآداب المائدة بدأت تحكمه المعلبات التي تأتينا من حيث تغيب الشمس. هذه الأطعمة المعلبة كتبت محتوياتها وطريقة إعدادها بلغة أجنبية ولربما ترجمت هذه الإرشادات بلغة عربية ركيكة هزيلة مخجلة. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، لكن أخص خصوصياتنا مثل دلة القهوة والمبخرة والشيشة وثيابنا العربية صارت تصنع في الخارج وتأتينا معلبة ومكتوباً عليها إرشادات الاستعمال بلغة أجنبية أو مترجمة إلى لكنة أقرب إلى الرطانة الأجنبية منها إلى اللغة العربية.

كيف لنا أن ننهض بمجتمعنا ونغرس في نفوس أفراده المفاهيم الحضارية التي تقوم عليها التنمية مثل الدوافع والحوافز والإنجازية في العمل والترشيد في الاستهلاك ونظافة البيئة وغير ذلك من المفاهيم الأخرى إذا كنا نجهل القيم والعادات التي تسير سلوك الناس وتلون نظرتهم للحياة؟ لقد آن الأوان الذي ينبغي فيه لنا أن نتنبه إلى أن التنمية ليست تنمية القطاعات الإقتصادية والتقنية فقط. بل لا يقل أهمية عن ذلك، إن لم يكن أهم، تنمية القطاع الإنساني والثقافي. ولا أعني بالإنسان كتلة اللحم والدم وإنما هذا الكيان المركب والكل المتناسق من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد. التنمية الحقيقية هي التي تقوم أساساتها وتثبت دعاماتها على الإدراك الواعي لثقافة الإنسان وحقائق المجتمع.

العناية بثقافتنا التقليدية وموروثاتنا الشعبية منبعها الحرص على ترسيخ الذات القومية ورفض التبعية الفكرية والاقتصادية ومجابهة الغزو الثقافي الذي يتهددنا، وكذلك تنمية مواردنا المحلية، المادية منها والبشرية. إن الأنماط الإستهلاكية التي بدأت تغزو منطقتنا هي المسؤولة في المقام الأول عن تدمير ثقافتنا المادية وصناعاتنا التقليدية وفنوننا المحلية. نحن الذين دفعنا بفنانينا الشعبيين وحرفيينا التقليديين ليصبحوا شبه عاطلين عن العمل ويتحولوا إلى فراشين وبوابين في المدارس والمؤسسات الحكومية. لقد استغنينا بالدخيل عن الأصيل وبالمستورد عن المحلي. هذه كارثة اقتصادية وإنسانية. إننا لو تداركنا الوضع وعملنا على تشجيع الصناعات والحرف والفنون التقليدية فسوف نضمن بذلك دخلا جيدا وحياة كريمة لشريحة عريضة من أبناء المجتمع، علاوة على ما يمكن أن يعكسه ذلك من أثر إيجابي على الوضع الإقتصادي بشكل عام.

إن تجاهل المأثورات والآداب الشعبية ورفض دراستها لا ينفي وجودها إطلاقاً. وإذا نحن تجاهلنا ثقافتنا الشعبية وأهملناها فنحن الخاسرون، وسيأتي أناس غيرنا من الشرق والغرب يلتقطونها من مظانها لاحتضانها ودراستها. إذاً أليس من الأولى أن نبادر نحن بتبني حفظها وتوثيقها ودراستها في مؤسساتنا العلمية؟

ومن المظاهر التي يقف الإنسان أمامها مندهشا تتملكه الحيرة والعجب ذلك التناقض بين الموقف الأكاديمي الرافض للمأثور الشعبي وبين موقف الإعلام الرسمي الذي يحتضن هذا المأثور ويحتفي به. هنالك الصفحات الشعبية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والمهرجانات الوطنية وغير ذلك من القنوات والمنابر الرسمية والإعلامية التي تعنى بالمأثور الشعبي. وإذا كانت برامج التنمية الثقافية عندنا جادة في تأكيدها على ضرورة تأسيس المتاحف وإقامة المهرجانات وتقديم البرامج الإعلامية والمسرحية الهادفة والعروض الترفيهية والسياحية التي تستوحي أفكارها وتستمد مادتها من بيئتنا وتراثنا فلا بد من السعي الحثيث إلى سد ما نعاني منه من ندرة في الكفاءات وشح في المبدعين والمؤدين المتخصصين الذين لديهم الاطلاع الواسع والخبرة العميقة والمهارات الضرورية التي تؤهلهم للتعامل مع المادة الشعبية بجميع أشكالها وأجناسها وتقديمها بصورة أصيلة وطريقة مدروسة. وفي هذا المجال بالذات نجد أن مدى الاستعانة بالخبرة الأجنبية محدود جدا وقد تأتي بنتائج عكسية. والخبرة المحلية ضرورية حتى تكون الجهود المبذولة ناجحة ومثمرة. والتعامل مع المأثور الشعبي لابد أن يكون مبنيا على مناهج علمية سليمة ونابعا من منطلق المسؤولية والوعي القومي وتكون المبادرة بأيدي أناس يجيدون العمل ويحسنون التصرف حتى نصل إلى نتائج إيجابية بناءة.

لا شك أن هناك شعورا عاما لدينا في العالم العربي على المستويين الرسمي والشعبي بأهمية المأثور الشعبي وضرورة رصده والمحافظة عليه. خذ مثلا المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الذي يقام سنويا في الرياض تحت رعاية الرئاسة العامة للحرس الوطني السعودي. ان رعاية المسؤولين لهذا المهرجان وما يحظى به من اهتمام إعلامي وما يجند له من طاقات بشرية ويرصد له من مبالغ مالية وما يؤمه من حشود غفيرة من المواطنين والاجانب كل ذلك يوضح تعطش الناس وتلهفهم على معرفة حياة آبائهم وأجدادهم ورغبة التواصل مع الماضي. كذلك نجد أن الرئاسة العامة لرعاية الشباب ممثلة بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون لها جهود ملموسة ومشكورة في هذا المضمار. ولا يقام معرض من معارض المملكة في الخارج إلا ويضم بين أركانه الاساسية ركنا لعرض عينات من الصناعات والحرف التقليدية وعرضا للفنون والرقصات الشعبية. وفي كل مناسبة وطنية أو احتفال جماهيري نشهد حضورا مكثفا للفنون الشعبية بجميع أشكالها. وفي كل منطقة من مناطق المملكة يوجد عدد من الأفراد الذين لهم اهتمام خاص بالثقافة الشعبية بمختلف جوانبها المادية والقولية والمعنوية. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن بقية بلدان الجزيرة والعالم العربي.

كل هذه جهود تستحق الإشادة والتقدير وتدل على مدى تشبثنا بأصالتنا واعتزازنا بهويتنا وعلى مدى وعي المسؤولين وعامة الناس بضرورة الالتفات إلى مأثوراتنا الشعبية وتطويرها كوسائل للترفيه البريء ومنابع للإبداع الأصيل لما لها من قيم روحية ومعنوية وجمالية في نفوس الناس. لكن هذه الجهود على أهميتها وعلى الرغم من إيجابياتها التي تفوق الحصر تبقى جهودا مبعثرة متناثرة تتسم بطابع الآنية والارتجال في معظم مقاصدها وتزول بزوال مناسباتها لأنها تفتقر إلى الرصد العلمي والتوثيق الدقيق الذي ينسقها وينظمها ويعطيها طابع التراكم والاستمرار ويلم شعثها ويجمع شتاتها في مراجع مكتوبة وأرشيفات تكون في متناول الجميع على مر الأزمان وتوفر للجمهور معلومات دقيقة موثوقة وافية عن جميع جوانب ثقافتنا التقليدية.

نحن بحاجة إلى تتويج علمي وثائقي لهذه الجهود المتتالية وهذا الاهتمام المتنامي بثقافتنا الشعبية على مختلف القطاعات الحكومية والأهلية. وفي ذلك أيضا استجابة للتوصيات المتكررة التي صدرت عن المحافل والندوات العديدة المنعقدة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية وفي مركز التراث الشعبي لدول الخليج العريية وغيرها من المراكز والجهات المهتمة بهذا الجانب الحيوي من واقعنا الثقافي. إن أي جهد يبذل للمحافظة على مأثوراتنا الشعبية سوف يهدر ويذهب سدى ما لم يدعمه توثيق علمي رصين، خاصة وأن ما يحتاجه هذا العمل التوثيقي لا يشكل إلا جزءا يسيرا من الطاقات البشرية والنفقات المالية التي ترصد لإقامة الحفلات والمناسبات والمهرجانات والعروض الشعبية التي ألمحنا آنفا إلى بعض منها.

وتعد فنون القول والأدب من أهم مظاهر الثقافة البشرية التي تتمركز حولها الدراسات الإنسانية والاجتماعية لذا ينبغي دراستها دراسة شمولية واعية وعميقة لا تقتصر على الفصيح والمكتوب بل تشمل أيضاً العامي والمنطوق. هؤلاء الذين يستنكفون دراسة الجانب القولي من تراث الشعب قد لا يجدون غضاضة في دراسة الجانب المادي وربما المعتقدات والتقاليد الشعبية. لكن الأدب الشعبي يشكل جزءاً هاماً من المأثور الشعبي الذي ينبغي دراسته كاملاً غير منقوص حتى نغوص إلى أعماق الذات العربية ونفهمها. هذه قضية لا تتجزأ، وكما أن الذات العربية موجودة فى الفخاريات والخوصيات والموسيقى والرقص والفن الشعبي، هي أيضاً موجودة في الأهازيج والحكايات والأساطير والسير والأشعار الشعبية. لقد رانت على أمتنا عصور من الأمية وعصور من التفكك والتمزق اتسمت بالغموض والاضطراب وشح المصادر المدونة. ولا نستطيع أن نعرف تاريخنا الحضاري والاجتماعي خلال تلك العصور، بخيره وشره، إلا إذا بادرنا بالالتفات إلى دراسة آدابنا الشعبية، فهى من أهم الوسائل التي بين أيدينا للبحث والتقصي. الأدب الشعبي هو الوعاء الذي يحتضن وجدان الأمة وشخصيتها ولا يمكن الإحاطة بثقافة الشعب إلا من خلال دراسة إبداعاته القولية فهي الطريق الموصل إلى الفهم الصحيح والاستيعاب الشامل لهذه الثقافة. إن في جمع أدبنا الشعبي ودراسته رصداً دقيقاً وتقويماً شاملاً لتاريخنا الاجتماعي والثقافي. الأدب الشعبي وثيقة تاريخية وثقافية، خصوصا في المجتمعات الأمية التي تفتقر إلى الوثائق الخطية، حيث إنه مرآة تعكس ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، لذا يهتم بدراسته علماء التاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا، إضافة إلى علماء اللغة والفلكلور.

من هذه المنطلقات نحن ننادي بدراسة الأدب الشعبي العربي. معظم من ينبرون للهجوم على الأدب الشعبي ودراسته ليسوا على علم بما يبذله العلماء والمختصون في العالم المتحضر من جهود في هذا الصدد، وغالبيتهم تنعم بالجهل التام حيال ما ينشر من كتب باللغات الأجنبية وما يدور من نقاش على صفحات الدوريات المتخصصة حول القضايا المعاصرة في دراسة الفلكلور واللهجات. ومن المؤسف أن يجهل هؤلاء أو يتجاهلوا هذا الركام المعرفي الهائل ويظلوا متشبثين بالمقولة التي مؤداها أن الاهتمام بالأدب الشعبي واللهجات مجرد مؤامرة تحاك ضد اللغة العربية الفصحى أو أن الأدب الشعبي أدب بدائي فطري لا يرقى إلى مستوى الأدب المكتوب ولا يستحق الجمع والدراسة.

من يطلقون أحكاماً نقدية جائرة على الأدب الشعبي هم في الغالب أبعد الناس عن محيط هذا الأدب وأقلهم قدرة على فهمه وتذوقه. ومن البديهي أنه لا يمكن الحكم على الأدب من الخارج على يد أناس لا يفهمون لغته وأساليبه ولم يستشفوا صوره وأخيلته ولم يعايشوا ظروفه ولم يفهموا وظيفته الاجتماعية ووسائل نظمه وأدائه وتداوله. ومن الأمور الأساسية والمسلم بها في النقد الأدبي أن أدب أي مجتمع هو كائن حي قائم بذاته يستمد وجوده وعناصر بقائه من ظروف هذا المجتمع ومحيطه الثقافي، مما يضفي عليه قيماً ومفاهيم خاصة به قد لا تنطبق على غيره من الآداب. لذا فإن مهمة الناقد تنحصر في البحث عن الأسرار الجمالية والأسباب الموضوعية التي تجعل هذا المجتمع أو ذاك يتشبث بأدبه ويعتز به ويجد فيه تعبيراً صادقاً لتطلعاته ومثله الفكرية والخلقية، سواء كان هذا الأدب شفهياً أم تحريراً، وسواء كان عامياً أم فصيحاً. صحيح أن هناك نماذج جيدة وأخرى رديئة في أي إنتاج أدبي، أما أن يتجرأ الناقد على تسفيه شعب بكامله بأن يزدري أدبه ويرفضه جملة وتفصيلاً فهذا تعسف واضح وخطأ فاحش لا يقبله العقل ولا يرضاه الذوق السليم. ليس من حق الناقد أن ينصب نفسه حكماً على الشعوب ومفاهيمها الأدبية. الحكم على أدب أي شعب من الشعوب أو فئة من فئات هذا الشعب يجب أن يترك لهؤلاء الذين تتحرك مشاعرهم لهذا الأدب والذين لديهم القدرة على فهمه وتذوقه والذين يجدون فيه انعكاساً لواقعهم وتجاربهم.

وليس من الموضوعية في شيء أن يتربع الكاتب أو الناقد في برجه العاجي ويصم أذنيه ويوصد الأبواب على نفسه، ويطل على الناس من نافذة ضيقة ليسفه آراءهم ويسخر من مفاهيمهم، ويملي عليهم بطريقة اعتباطية نظرياته، حيث أن هذا المذهب التقريري لا يتفق مع مناهج البحث الحديثة التي تبني نتائجها على الملاحظة والاستقراء. فمهمة الباحث هي سبر الظواهر الإنسانية من جميع الزوايا وبدون حكم مسبق حتى يتسنى له فهم هذه الظواهر فهماً سليماً أساسه البحث عن الحقيقة المطلقة. ولاشك أن هذا هدف مثالي يستحيل تحقيقه أحياناً إذ أنه ليس من السهل على الإنسان أن يتجرد من نزعاته الذاتية وظروفه الاجتماعية التي قد تحجب عن بصيرته بعض الجوانب المهمة من الموضوع الذي يزمع دراسته. غير أنه يجب على الباحث أن يتوخى الموضوعية قدر الإمكان وأن يسعى جاهداً لتجنب الخلط بين آرائه الشخصية ومواقفه الأيديولوجية من جهة والحقائق العلمية من الجهة الأخرى. والناقد الأدبي أحوج ما يكون لتطبيق هذه المقاييس، لأن وظيفته ليست فقط أن ينقل إلى قرائه احساساته وانطباعاته الأولية تجاه العمل الأدبي، بل عليه أن يقوم هذا الأدب على أساس موضوعي حتى يتجنب الكثير من المزالق التي يقع فيها هؤلاء الذين يتوقعون من أي عمل أدبي يقع تحت أيديهم أن يكون صورة طبق الأصل لما يخيل إليهم أنه أدب رفيع، أو لما قرأوه في السابق من نماذج أدبية معينة تركت أثراً في نفوسهم.

هناك من يجعل الشكل اللغوي الفيصل الذي نحكم به على جودة الأدب، فيرفض الأدب الشعبي لا لشيء إلا لأن لغته عامية. لكن النظرية العلمية تقول إن اللغة بمعناها الحقيقي ككلمات وقواعد نحوية وصرفية، ليست هي المقياس الموضوعي لتقييم جودة الأدب ومكانته الفنية والدليل على ذلك تعدد اللغات التي تكتب بها الآداب العالمية. المقياس الحقيقي لجودة الأدب هو استعمال اللغة -أيا كانت اللغة- بمهارة وأسلوب بليغ وطريقة مؤثرة للتعبير عن خلجات النفس البشرية والمشاعر الإنسانية والمثل العليا. إضافة إلى سعة الخيال وصدق العاطفة وحرارة الشعور.

عامية اللغة في حد ذاتها لا تسلب الشعر مقومات الأدب الرفيع. هناك قصائد عامية في لغتها لكنها تحمل أفكارا متطورة جدا وعميقة جدا حيال هذا الكون والوجود الإنساني فيه. وفي المقابل هنالك قصائد فصيحة متقعرة في الفصاحة لكنها تحمل رؤية سكونية للكون وفهما ارتجاعيا للتاريخ. العامية في جوهرها فكر ومضمون ورؤية وسياق وأداء. من هذا المنطلق فإن الأفكار والإبداعات التي يطرحها بعض المتحمسين ضد الأداب العامية هي عامية في فكرها ونظرتها وتوجهاتها، حتى لو ظن هؤلاء خلاف ذلك، وحتى لو كان وعاؤها اللغوي فصيحا. بل إن مبدأ رفض الأدب الشعبي والثقافة الشعبية مبدأ مبني على أسس فكرية وأطر ذهنية هي أقرب إلى تركيبة الذهنية الشعبية وطرائقها في التفكير والتحليل منها إلى التفكير العلمي المتفتح الذي يحكم العقل وينشد الموضوعية.

إن أدبنا الكلاسيكي الذي نقف جميعا وفاء له هو في رؤيته وآليات إبداعه وتداوله واستهلاكه أدب شعبي، رغم لغته التي نسميها فصيحة. وإذا كان العازفون عن الأدب الشعبي بلغته العامية ينشدون أصالة الشعر العربي القديم بحسه العربي ولغته البدوية فإن هناك أجناسا من الشعر العامي، مثل الشعر النبطي وخصوصاً القديم منه وما أبدعته قرائح الشعراء من البادية، هي أقرب إلى روح الأدب العربي القديم في اللغة والموسيقى والنفس الشعري والصور الفنية والأخيلة من كثير من نماذج الشعر العربي المعاصر.

وهناك حقيقة أساسية نحب أن ننبه إليها وهي أن بقاء الأدب المكتوب يصبح مضموناً فور طبعه على الورق، بغض النظر عن جودته. أما الأدب الشفهي الذي يعتمد على النقل والرواية ويعيش على الألسن والشفاه فلا يمكن له أن يبقى ويستمر وجوده إلا إذا كان أدباً جيداً جديراً بالنقل يتشوق الناس إلى روايته وسماعه وكان قادرا على تحقيق وظائف في المجتمع وإشباع رغبات نفسية لدى أفراده، وإلا لأهمل وانمحى من الذاكرة. أي أن خلود الأدب الشفهي وبقاءه مرهون بجودته وإقبال الجمهور عليه.

ولا بد للعمل المكتوب أن يترجم إلى لغات أخرى حتى يصبح أدباً عالمياً. لكن المدهش حقاً أن هناك أجناساً من الأدب الشفهي تنتشر بصورة مذهلة في جميع أنحاء العالم بدون دعاية وبدون ترجمة بل بصورة تلقائية وسريعة. إذا كان هناك أدب عالمي بالمعنى الصحيح فإنه الأدب الشفهي. فالعناصر الفنية التي تتألف منها الحكاية الشعبية كقسوة زوجة الأب وتفوق الابن الأصغر والكنوز والجان وما إلى ذلك نجدها منتشرة في جميع أنحاء العالم. بل إن الحكاية الشعبية بكاملها قد تنتشر من الشرق إلى الغرب متخطية جميع الحواجز اللغوية والسياسية والحضارية. وقس على ذلك الأمثال والأحاجي وغيرها من أجناس الأدب الشعبي.

ثم انظر إلى الآداب المكتوبة المستقاة من الأدب الشفهي، مثل ملاحم هومر وحكايات إيسوب وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وغيرها كثير. هل هناك أعمال أدبية تضاهي هذه الأعمال؟ ولولا جمال الأدب الشعبي لما تسابق لاستلهامه أدباء كبار أمثال الشاعر الألماني يوهان جوته والأديب الأسكتلندي وولتر سكوت.

والأدب الشعبي كموضوع متخصص له نظرياته ومناهجه يتقدم كثيرا على الأدب المكتوب. فمعظم المناهج والنظريات التي يمارس تطبيقها أساتذة النقد الأدبي يرجع أصلها إلى الدراسات الشعبيية. خذ مثلاً المنهج النفسي في تفسير الأدب ودراسة وظائفه النفسية. من المعروف أن الكثير من المفاهيم الأساسية كعقدة أوديب ومفهوم النمط الأصلي archetype وغير ذلك من المفاهيم التي نادى بها كارل يونج وسغموند فرويد وغيرهما من أساطين علم النفس أتت نتيجة لدراسة وتحليل الخرافات والحكايات الشعبية. وإذا كانت الأحلام تدل على شخصية الفرد فإن الحكايات الشعبية، في نظر علماء النفس، هي أحلام اليقظة التي تكشف شخصية الأمة. فبالإضافة إلى وظيفة الأدب الشعبي كوسيلة من وسائل التسلية والترفيه فإنه متنفس للرغبات النفسية والنزعات المكبوتة. وإذا كان العمل المكتوب يعبر عن شخصية الكاتب، أي الفرد، فإن الأدب الشفهي يعبر عن شخصية الشعب ويرصد وجدان الناس ويسجل اهتزازات الضمير الجمعي. وهو كذلك يساعد على الإستمرارية الحضارية بين الأجيال ويساهم في تثقيف النشء ويسهل عليهم عمليات التكيف الاجتماعي والثقافي.

أما أصحاب الاتجاه الأنثروبولوجي فينصب اهتمامهم بالدرجة الأولى على وظيفة الأدب في المجتمع وعلاقته بجوانب الثقافة الأخرى. فهم يرون أن الأدب ليس مجرد إبداع فني بل هو أيضاً وثيقة تاريخية إثنوغرافية، خصوصاً في المجتمعات الأمية التي لا تملك وثائق مكتوبة، وهو كذلك صورة للواقع الاجتماعي ومرآة تعكس أنماط الثقافة من جميع جوانبها. كما أنه بمثابة الدستور التشريعي الذي يوجه سلوك الفرد ويحيطه علماً بالأوامر والنواهي الاجتماعية والتصرفات المحبذة وغير المحبذة في المجتمع. وعلى هذا الأساس فإنه يستحيل فهم ثقافة أي مجتمع من المجتمعات فهما حقيقياً إلا بالرجوع إلى إبداعاته الأدبية، كما أنه في الوقت نفسه من العبث أن نحاول فهم الأدب بمعزل عن إطاره الاجتماعي وبيئته الثقافية.

ومن المناهج النقدية المعاصرة التي نشأت في رحم الدراسات الشعبية المنهج البنائي في النقد الأدبي. من أول من طبقوا هذا المنهج هو عالم الفولكلور الروسي المشهور فلاديمير بروب V. Propp في تحليله لبنية الحكايات الشعبية الروسية التي جمعها زميله أفاناسيف A. N. Afanasev، ثم تطور هذا المذهب على يد عالم الفولكلور الفرنسي كلود ليفي ستروس Claude Ievi-Strauss والذي طبقه على دراسة الميثولوجيا البدائية.

والمنهج المقارن في النقد الأدبي أيضا نبت وترعرع في تربة الدراسات الشعبية. من أول من طبقوا هذا المذهب علماء الفولكلور الألمان والإنجليز مثل جيمز فريزر James Frazer في كتابه الغصن الذهبي وتطور هذا المذهب على يد علماء الأدب الشعبي في فنلندا أمثال الياس لونروت Elias Lonnrot وجولويوس كرون Julius Krohn وابنه كارل Kaarle Krohn وآنتي آرني Anti Aarne وغيرهم.

وإضافة إلى هذه المناهج في الدراسات الشعبية هنالك المقترب الأدبي الذي يعنى بدراسة الشعر الشعبي بجميع أجناسه وخصوصاً البالاد ballad والملاحم epics وذلك من أجل اكتشاف القوانين التي تحكم أساليب الإبداع الشفهي وكيف تختلف عن تلك التي تحكم أساليب الإبداع التحريري. كما يعنى أصحاب الاتجاه الأدبي بجمع النصوص والدراسات المقارنة لعناصر الأدب الشعبي motifs ومواضيعه themes ودراسة الموطن الأصلي لحكاية ما وتاريخها وطرق هجرتها وسبل انتشارها وروايتها المتعددة وعوامل التغير في شكلها ومضمونها. كما يدرسون اسلوب الحكاية وبنيتها وعلاقتها بغيرها من الحكايات وغير ذلك من المسائل التي تجعل من الفلكلور موضوعاً قريباً من الأدب. بل إن أحد المواضيع الرئيسية التي يبحثها أصحاب هذا المقترب هي استكشاف الجسور وعلاقات الأخذ والعطاء التي تربط الأدب الشعبي بالأدب المكتوب، دون النظر إلى صلته بجوانب الثقافة الأخرى. فهنالك الكثير من الأدباء يستلهمون مواضيعهم ويستقون أفكارهم من الأدب الشعبي ومن حياة الشعب، كما أن هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي تتسرب إلى عامة الناس وتشيع بينهم ويتداولونها شفهياً فتدخل في نطاق المأثور الشعبي.

وفي وقتنا هذا تحتل دراسة الشعر الشعبي في سياقه الأدائي وإطاره الاجتماعي مكانة مرموقة في الأوساط العلمية، ولاسيما في حقلي الأدب والفلكلور، وذلك بعد أن نجح العالمان الأمريكيان ملمان باري Milman Parry وألبرت لورد Albert Lord في فرض نظريتهما التي سمياها نظرية الصياغة الشفهية The Oral Formulaic Theory وهي نظرية تعد الآن من أحدث النظريات في مجال البحث الأدبي وأكثرها رواجاً. والعلماء الغربيون الآن يتجشمون المصاعب ويتكبدون الخسائر للقيام برحلات ميدانية إلى المجتمعات التي توجد فيها طبقات أمية تحتفظ بتراث شعري شفهي من أجل دراسته. وحيث أنه لاتزال هنالك في مجتمعنا قلة قليلة وبقية باقية من الأميين في البادية والقرى النائية ممن لايزالون يحفظون القصائد والملاحم ويلقونها بالطريقة التقليدية، فإنه يجدر بنا أن نغتنم هذه الفرصة النادرة وأن نسارع إلى دراسة هذه الشرائح الاجتماعية التي توشك أن تزول تماماً من مسرح التاريخ الإنساني وتختفي إلى غير رجعة.

ومن المسائل التي أولاها باري ولورد عناية خاصة عمليات الإنشاء والإنشاد الشفهي. يختلف الأدب الشفهي عن الأدب المكتوب في أنه لا ينتقل عن طريق الكلمة المكتوبة بل عن طريق الكلمة المنطوقة، أي مشافهة. وتختلف النصوص الشفهية عن النصوص التحريرية في أنها مرنة وغير ثابتة؛ فهي عرضة لتغير دائم وتشكل مستمر مما يؤدي إلى ظهور روايات متعددة للنص الواحد. ومهمة الباحث الميداني أن يتفحص مدى ثبات النص الأدبي وتغيره في مجتمع أمي يعتمد على الرواية الشفهية، وكيف يتغير النص من خلال الرواية الشفهية، وما العوامل التي تتحكم في هذا التغير، وما أثر البعد الزماني والمكاني في ذلك. ولا يكتفي الباحث بتسجيل رواية واحدة لهذه الحكاية أو تلك القصيدة، بل عليه أن يجمع كل ما يعثر عليه من روايات وأن يجمع الحكاية نفسها من عدة أشخاص، بل حتى من الشخص نفسه على فترات متفاوتة حتى يتسنى له رصد التغيرات التي يتعرض لها النص والعوامل التي تؤدي إلى ذلك. لو استطعنا التحقق من هذه المسائل وبلورة موقف نظري حيالها لساعدنا ذلك على فهم طبيعة الأدب الشعبي والشعر الشفهي سواء في العصر الجاهلي، عصر الفصحى، أو في عصرنا هذا، عصر العامية.

وقد أوضحت هذه الدراسات الحديثة الخطأ الفاحش الذي يقع فيه بعض النقاد في حكمهم على الأدب الشفهي وتقييمهم له من الناحية الجمالية لأنهم يطبقون عليه معايير نقدية ومقاييس فنية لا تنطبق عليه لأنها صيغت أصلاً للحكم على الأدب المكتوب الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن الأدب الشفهي. المقترب الصحيح لفهم الأدب الشعبي وتقييمه هو أن ندرسه ضمن بيئته الاجتماعية وإطاره الحضاري من أجل استكناه معالمه الفنية وطبيعته الأدبية التي تميزه كأدب شفهي يعتمد على النقل والسماع قبل أن يكون أدباً تحريرياً يعتمد على القراءة والكتابة. وعن طريق فحص الشعر الشعبي في سياقه الشفهي سنتوصل إلى فهم الخصائص التي يتميز بها عن الشعر التحريري من حيث الخلق والإبداع ومن حيث طريقة النظم والأداء والإلقاء والارتجال والتداول والحفظ ودور الذاكرة في ذلك. ومن الأمور التي نهدف إلى استجلائها أيضاً في هذا الإطار الأدائي الشفهي مدى ثبات النص الشعري وتغيره في مجتمع أمي يعتمد على الرواية الشفهية، وكيف يتغير النص من خلال الرواية الشفهية، وما العوامل التي تتحكم في هذا التغير، وما أثر البعد الزماني والمكاني في ذلك. كل ذلك من أجل استنباط معايير نقدية تتلاءم مع الصبغة الشفهية والطبيعة الأدبية والوظيفة الاجتماعية والنفسية للشعر الشعبي.

أعلي 
 

مسألة اللغة وقضايا الالتزام

أخطر تهمة توجه للأدب الشعبي من قبل الرافضين لدراسته والاهتمام به هي أن لغته عامية. يرى هؤلاء أن الأدب الشعبي بلغته العامية جرثوم خطير يجب محاربته واجتثاثه وتسخير كل الطاقات للاجهاز عليه وسحقه ومحقه حفاظا على نقاء وصفاء أجوائنا الروحية والسياسية والفكرية. ومن هذا المنطلق تبذل جهود ومحاولات دائبة لطمس معالم الثقافة الشعبية وتطهير المجتمع من شوائبها وتعقيم الجماهير ضدها وتحصينهم بجرعات كافية من الثقافة الرسمية.

الخلط بين الفكر والأيديولوجيا وعدم الفصل بين الذات والموضوع وعدم التمييز بين العلم والاختراع أدى إلى الخلط عند البعض بين الدعوة إلى هجر العربية الفصحى وإحلال العامية محلها وبين التنبيه إلى أهمية دراسة الأدب الشعبي واللهجات المحلية؛ وذلك على الرغم من البون الشاسع بين هذين الموقفين المختلفين تمام الاختلاف. الموقف الأول باطل ومرفوض، أما الموقف الآخر فهو موقف علمي نزيه لا غبار عليه.

دراسة اللهجات العامية والأدب الشعبي دراسة أكاديمية متخصصة لا يقصد منه بالضرورة تكريس الآداب التقليدية وتشجيعها والأخذ بيد العامة ومساعدتهم على الاستمرار في قرض الشعر الشعبي والتحدث بلهجة عامية. دراسة الآداب واللهجات العامية لا تعني إحلالها محل الفصحى مثلما أن دراسة الصناعات اليدوية والحرف التقليدية لا تعني المطالبة بإغلاق المصانع ولا دراسة الطب الشعبي يقصد منها المطالبة بإغلاق المستشفيات.

قد تكون هناك بعض الأصوات داخل الوطن العربي تنادي بالانفصال اللغوي والثقافي، وهي أصوات قليلة جداً وضعيفة جداً، لكن هذه الأصوات لم تصدر أبداً من الأكاديميين المتخصصين بدراسة اللهجات والأدب الشعبي، وإنما من أشخاص ينطلقون من منطلقات عرقية أو دينية بحتة. هؤلاء لا يحسون بأنهم جزء من حركة التاريخ العربي ولا يحسون بالإنتماء للحضارة العربية، لذا فهم يطالبون بالانفصال. أما الإنسان العربي صميم العروبة حتى وإن كان أمياً عامياً فإنه يعتز بانتمائه العربي ويقدس العربية الفصحى ولو كان لا يجيد الحديث أو النظم بها. ولن يفرط العربي بلغته الفصحى لأنها أولاً وقبل كل شيء لغة الدين القويم والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذا في حد ذاته كفيل بحفظها ضد جميع الأخطار. ثم إن التراث العلمي والفكري والأدبي الهائل الذي تحتضنه هذه اللغة جعل منها لغة عالمية مرموقة تحتل مركزاً قوياً راسخاً ليس في العالم العربي والإسلامي وحده، بل في جميع أنحاء الدنيا. فاللغة العربية الفصحى بالنسبة للإنسان العربي ليست لغة ضعيفة لتستبدل بأقوى منها ولا لغة استعمارية لتستبدل بلغة قومية.

قد يغرب عن أذهان من ينادون إلى نبذ الآداب العامية ورفض دراستها أن دعوتهم تحمل ضرراً بالغ الخطورة وخسارة فادحة يستحيل تلافيها بعد فوات الأوان. فدعواهم هذه تعيق البحوث العلمية النافعة في هذا الميدان، وتعرقل مساعي المتخصصين في هذا المجال، بينما هي في الحقيقة لا تغني فتيلاً في محو الأمية واستئصال العامية من أفواه الناس. كذلك فهي لا تجدي شيئاً في احياء اللغة الفصحى وبعثها لغة للتخاطب. وياحبذا لو أن كل إنسان عربي من المشرق إلى المغرب يصبح إنساناً مثقفاً يتكلم العربية الفصحى بطلاقة في البيت والشارع والمقهى. ولكن هذه أحلام وأماني تتحطم على صخرة الواقع الذي نعيش فيه.

إن وسائل رفع مستوى الثقافة بين الناس وتشجيعهم على استعمال اللغة الفصحى كثيرة معلومة، منها فتح المدارس وتشجيع التعليم وتطوير المناهج. أما التهجم على تراث الشعب الفكري والفني فهو لن يؤدي في النهاية إلا إلى خلق هوة سحيقة بين طبقة المثقفين وعامة الناس. إن إنعاش اللغة العربية الفصحى ورفع مستوى الثقافة بين الناس يجب أن يتم وفق خطة واقعية وبرنامج مدروس. وكما أن هذا لا يتنافى قطعياً مع دراسة المأثورات الشعبية، فإنه لا يمكن تحقيقه بمجرد تجاهل اللغات العامية وآدابها. فهنالك أناس كثيرون على مدى القرون الماضية زموا بأنوفهم واستهجنوا شعر العامة ومجوا نظمه وحذروا الناس منه. غير أن هذا التعالي لم يؤد إلى تلاشي العامية واختفاء الأدب الشعبي ولم يجد شيئاً في بعث العربية الفصحى ورفع مستوى الثقافة لدى الإنسان العربي.

مصدر الخطر الذي يتهدد الفصحى ليس اللهجات العربية وإنما اللغات الأجنبية التي بدأت زحفها ضد العربية مع هجمة الغزو الثقافي والتكنولوجي. هنالك قطاعات ومؤسسات داخل مجتمعنا وخصوصاً تلك التي تمثل قمة التقدم العلمي والازدهار الحضاري ونعدها من مفاخر التنمية عندنا مثل المستشفيات المتخصصة والفنادق الراقية والبنوك والمطارات لا يمكن لشخص لا يجيد الإنجليزية أن يجد طريقه فيها ويستفيد من خدماتها. ما دخل الأدب الشعبي واللهجات في هذه النكسة؟! أليس الأولى إذا أعوزتنا الحيلة في استخدام الفصحى أن نلجأ إلى ربيبتها العامية بدلاً من الإنجليزية أو الفرنسية؟! الخطر الحقيقي الذي يتهدد العربية ليس العامية وإنما اللغات الأوروبية التي بدأنا نسمعها ونقرأها في بلادنا أكثر من العربية. الغربة التي تعاني منها اللغة العربية اليوم مردها إلى ما نعاني منه من تمزق سياسي وتفكك حضاري وتخلف علمي. طالما نحن نبعث طلابنا إلى الجامعات الأجنبية بأعداد هائلة ونترجم كتب الغرب ونستورد منه الأفكار والمخترعات فكيف نأمل أن تزدهر اللغة العربية؟! ازدهار العربية مرهون بازدهار العلم وحرية الفكر. إذا عدنا كما كنا حملة فكر وأصحاب حضارة فسوف تعود إلى اللغة العربية حيويتها وفتوتها.

ومن الطبيعي أنه كلما ازدادت نسبة الأمية وتقلص الوعي اللغوي بين الناس انحسرت اللغة الفصحى، لغة العلم والكتابة. وهذا ما حصل في عصور الانحطاط حينما انهارت المؤسسات التعليمية في الأقطار العربية. لكن الفصحى في الوقت الراهن بدأت تنشط بنشاط المؤسسات التعليمية وانتعاش حركة التأليف. ونتفق هنا مع الدكتور عبدالعزيز المقالح في أن العامية حالة ثقافية وحضارية. "ولا يمكن أن يكون المواطن العربي مثقفا ومتحضرا، ثم عاميا. فالثقافة والتحضر نقيض الأمية والعامية. وانتصار الإنسان العربي على معوقاته الثقافية والاجتماعية بمثابة انتصار اللغة الفصحى أو لغة العلوم والفنون والآداب." (المقالح 1978: 32). ويضيف المقالح أن "الإنسان العربي في كل الأرض العربية يعاني اليوم من معوقات كثيرة، ومن انحطاط شامل في حياته المعاشية وفي صحته وفي لغته. وحتى ترتقي أداة التفكير -وهي اللغة- ينبغي أن يرتقي مستواه المعاشي والفكري… فالإنسان الذي لا يستطيع قراءة الفصحى هو نفس الإنسان الذي لن يستطيع القراءة بالعامية، وهو نفسه الذي لا يكاد يعرف شيئا عن حقوقه ولا عن واجباته." (المقالح 1978: 35).

ومن المسلم به أنه توجد لدى كل أمة من الأمم ما لا يقل عن مستويين لغويين هما المستوى المحكي والمستوى الرسمي. ومهما ارتفع مستوى التعليم لدى الأمة فإن نسبة عالية من أبنائها تظل تستخدم العامية لا أداة للتخاطب حسب، بل أيضاً وسيلة للتعبير الفني والأدبي وصياغة الأشعار والأمثال والحكايات والأقوال المأثورة التي يتناقلها الناس مشافهة ويعنى بجمعها ودراستها علماء اللغة والنفس والاجتماع والفلكلور وغيرهم من المختصين في مختلف الدراسات الإنسانية والاجتماعية. إذا كانت جميع الأمم تستطيع التعايش مع عدة مستويات لغوية وأدبية فلماذا يعتقد البعض أن الأمة العربية عاجزة عن ذلك؟! إن وجود لغة حية نابضة، كالعربية مثلاً، كفيل بتوحيد الأمة ثقافياً وحضارياً مهما تعددت اللهجات المتفرعة عنها.

من المردودات الإيجابية التي قد لا يتصورها المناهضون لدراسة اللهجات والأدب الشعبي أن هذه الدراسة وما يترتب عليها من نتائج سوف تساعد في إيصال اللغة الفصحى والأدب الفصيح إلى الدارسين وفهمهما فهماً صحيحاً. فحينما ندرس اللهجات والآداب العامية فإننا مضطرون إلى مقارنتها بالفصيح لنعرف أوجه الشبه والاختلاف وطرق التأثير والتأثر وكيف تحور هذا عن ذاك وهكذا. هذه الدراسات المقارنة سوف تضطرنا ليس فقط إلى دراسة العامي بل أيضاً إلى دراسة الفصيح دراسة جادة متأنية. وتعطينا أفقاً أرحب ونظرة أوسع وفهماً أشمل وأعمق للغتنا وأدبنا، عاميه وفصيحه. كما أننا إذا عرفنا قواعد اللهجات المحكية وأساليب العامة في التخاطب وسبرنا حسهم اللغوي سهل علينا توصيل قواعد الفصحى وأساليبها إليهم، لأننا نبدأ بما هو سليقي إلى ما هو مكتسب، وهذا ما تنص عليه البرامج العصرية في تعليم اللغات. إذا كان هدفنا هو تعليم اللغة العربية وآدابها إلى النشء بشكل جيد ومؤثر فأعتقد أن أي شيء يؤدي إلى هذا الهدف ويوصل إلى هذه الغاية شيء مشروع ومستحب. ولقد فشلت طرق تعليم اللغة العربية التي نتبعها الآن لأنها تعزل المتعلم عن محيطه الاجتماعي وعن سليقته اللغوية والأدبية. أما دراسة الآداب الشعبية فإنها ستفيدنا حتما في حل بعض القضايا العلمية التي تعترضنا الآن في فهم طبيعة أدب الجاهلية وصدر الإسلام وإضاءة جوانب كانت خافية في السابق، خصوصاً فيما يتعلق بالوظيفة الاجتماعية والسياق الأدائي وظروف النظم والتداول. فأدب الجاهلية وصدر الإسلام كان في أساسه أدباً شعبياً وتراثاً شفهياً يعتمد على الرواية والحفظ.

بقي أن نضيف إلى ما سبق ذكره أن عامية اللغة لا تعني بأي حال من الأحوال التفريط بالالتزام الديني أو التحلل من قيود العقيدة. ومن يجيل النظر في شعرنا العامي يجد أنه أكثر تشبعا بروح الدين وتشبثا بقضاياه من الشعر الفصيح، الذي لا يخلو من قصائد الزندقة والإلحاد والمجون والتشبيب بالغلمان. ولا أقصد بذلك فقط تلك الأجناس الشعرية في آدابنا العامية الموقوفة على مواضيع دينية مثل تمجيد الذات الإلهية أو مدح الرسول. ما أرمي إليه أن الإنتاج الشعري العامي العربي برمته يطفح بالنفس الروحاني ويفيض بالمشاعر الدينية. فلا تكاد تجد قصيدة إلا وتبدأ بذكر الله وحمده وتنتهي بالصلاة على رسول الله، إضافة إلى ما يتخللها من تضرع وابتهال إلى وجه الله وحث على مخافة الله وطاعته وملازمة الصلاة والصوم وشعائر الإسلام الأخرى.

كما أن عامية اللغة لا تعني عدم الالتزام الوطني ولا تنفي الشعور القومي الصادق. لو أردنا أن نبرهن على أن الشاعر الذي ينظم بالعامية قد يرتقي مستوى تفكيره وثقافته والتزامه الوطني وانتمائه العربي فوق مستوى كثير من شعراء الفصحى لما وجدنا دليلا أنصع وأبلغ من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي. وكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم التي يشدو بها المرحوم الفنان الشيخ إمام مذهلة في بساطتها وفي قدرتها على النفاذ مباشرة إلى الذهن والوجدان. وبالرغم من الامكانات المادية المتواضعة جدا التي بذلت في انتاج هذه المقطوعات وتسجيلها إلا أن الموهبة الحقيقية والالتزام الصادق والجرأة في الطرح جعل منها قطعا فنية من أروع ما قدمه الفن المصري. ولا ننسى من لبنان أيضا الفنان المتميز مارسيل خليفة الذي يتعامل مع الفن على أنه رسالة وطنية وإنسانية وأداة للرفع من مستوى الوعي الجماهيري والإحساس عند الإنسان العربي. كما أن تجربة فيروز والرحابنة تجربة فريدة توفرت لها جميع مقومات الفن الراقي والإبداع الأصيل بشكل متكامل متناسق، على الرغم من عامية اللغة. ولا شك أن المناخ الفني والفكري في مصر ولبنان إضافة إلى ما يتمتع به هؤلاء الشعراء من سعة اطلاع وثقافة عالية كل ذلك مكنهم من التحليق في أجواء عالية من الفن والإبداع في معالجة القضايا الوطنية والاجتماعية والانسانية كما مكنهم من تحسس واستيعاب هموم الإنسان العربي في هذا العصر. هؤلاء الشعراء قادرون على النظم بالفصحى لكنهم يلجأون إلى العامية الوسط ليتمكنوا بذلك من مخاطبة الفرد العربي والتأثير فيه سواء كان أميا أو من المتعلمين والمثقفين. وعلى الرغم من عامية اللغة فإن المضامين والمواضيع والصور والأخيلة التي يعبر عنها شعرهم ليست عامية. إنهم يلجأون إلى العامية لا اضطرارا (فهم ليسوا أميين) بل طوعا واختيارا لأنها أداة التوصيل التي تتناسب مع طبيعة الرسالة الشعرية التي يطرحونها والجمهور الذين يتوجهون إليه بهذه الرسالة.

وفي حركات التحرير العربية لعب الأدب الشعبي العربي دورا هاما لا ينبغي اغفاله أو التهوين من شأنه ونجد فيه برهانا على أن عامية اللغة لا تسلخ الأدب الشعبي من هويته العربية ولا تشكك في التزامه القومي. وقد أوضح كل من الدكتور عباس بن عبدالله الجراري في كتابه الزجل في المغرب: القصيدة والأستاذ محمد سعيد القشاط في كتابه أصداء الجهاد الليبي في الأدب الشعبي، والدكتور التلي بن الشيخ في كتابه دور الشعر الشعبي الجزائري في الثورة والدكتور عبدالله ركيبي في كتابه الشعر الديني الجزائري الحديث، والأستاذ صالح خرفي في كتابه شعر المقاومة الجزائرية؛ أوضح هؤلاء وغيرهم أن المشاعر الدينية والوطنية التي يعبر عنها أدباء الشعب تفوق في كثير من الأحيان ما يعبر عنه أدباء الطبقة الراقية من المثقفين والمتعلمين. يتفق الركيبي وخرفي والشيخ في أن الشعر الشعبي الجزائري كان سلاحا وطنيا فعالا في مقاومة الاستعمار الفرنسي واحتفاظ الجزائر بانتمائها العربي والإسلامي ضد حملات الفرنسة. وكانت القصيدة الشعبية الجزائرية طوال فترة الاحتلال تفيض بالعواطف الدينية وتطفح بالمشاعر الوطنية وكانت كلمات الشاعر الشعبي تلهب الحماس في نفوس المجاهدين وتوقظ فيهم الروح الوطنية والنخوة العربية وتدفعهم إلى التضحية والفداء. وهكذا كان للشعر الملحون دوره في التعبير عن الروح الدينية والوطنية معا وفي تسجيل أحداث وقضايا قومية وصوّر المأساة الجزائرية والأمجاد والمواقف البطولية. (ركيبي 1981: 376). وحينما هاجمت الدانمارك الجزائر وقصفتها بالقنابل سجل الشعر الشعبي هذه الحادثة بقصيدة رائعة مما يوضح لنا عناية شعراء الملحون بتسجيل الأحداث السياسية ومقاومة أعداء الدين والوطن. (ركيبي 1981: 371). كذلك حينما سقطت الجزائر سنة 1830 في يد العثمانيين، قبل مجيء الفرنسيين، كان الشعر الشعبي "أول من بكاها وسجل مأساتها بدمعة سخية، وزفرة ملتهبة، وشنع بالغطرسة التركية التي تستأسد على الشعب، وتستنوق في وجه الغزاة." (خرفي د. ت. 21). ويقول الدكتور التلي بن الشيخ في هذا المعنى:

وقد واكب الشعر الشعبي تطور المقاومة الجزائرية، وصور الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي عاشها الشعب الجزائري، مثلما ربط هذا الواقع المؤلم بالماضي المجيد، فدعا إلى ضرورة المحافظة على مقومات الشخصية القومية، دينا ولغة وثقافة، لأنها تشكل المناعة ضد محاولات الذوبان في "الفرنسة" التي عمل الاحتلال الفرنسي بكل الوسائل لفرضها على الشعب الجزائري. (الشيخ 1983: 6).

ويؤكد المعنى نفسه في مكان آخر حيث يقول:

ويتضح دور الأدب الشعبي في المحافظة على عروبة الفكر الشعبي، وتمسكه بالدين الإسلامي. وطوال قرن وزيادة من الاستعمار الفرنسي ظل الأديب الشعبي متمسكا بعروبته نطقا وأخلاقا، متشبثا بأصالة دينه، معتزا بجزائريته، ولم يبهره بريق الحضارة الغربية، ولا خدعه سراب الثقافة الفرنسية، مثلما لم يرهبه أسلوب الظلم والاضطهاد. ولم يفرق الأديب الشعبي بين أشكال الاحتلال، وإنما كان موقفه شاملا لكل جوانب عملية الغزو، حتى ما كان منها في صورة علم وحضارة. (الشيخ 1983: 95).

وفي مقالته "شعر العامية الفلسطينية المقاوم" يورد الدكتور حسني محمود حسين العديد من نماذج الشعر العامي الفلسطيني ويتناولها بالتحليل والدراسة ليبين إلى أي مدى ساهم هذا الشعر في "إذكاء روح النضال وتعميم الروح الثورية في طول البلاد وعرضها." (حسين 1978: 11). ويرى حسين أن الحفاظ على الأدب الشعبي الفلسطيني وتطعيم الأدب المكتوب بأجزاء منه أمر يتصل بالقضية الوطنية والقومية اتصالا مباشرا وأصيلا؛ فهو يساعد على حماية الشخصية الفلسطينية بهويتها الوطنية من الاندثار والفناء.

وقد ظل للأدب الشعبي في فلسطين المحتلة منذ 1948 دور فعال في يقظة الشخصية الفلسطينية وتبصيرها بالواقع الذي تعيشه، ثم في حماية هذه الشخصية أصلا من الأخطار التي تتهددها. وكان أمرا بديهيا أن ينضم القوالون والحداءون الشعبيون في وقت من الأوقات بعد النكبة، إلى جهاز الرفض والتحدي الشعبي، لأنهم، في الحقيقة، التجسيد الواقعي لوجدان الشعب وأشواقه ومعاناته. وقد يفوق دورهم، في كثير من النواحي، دور رفاقهم، شعراء الفصحى. (حسين 1978: 35).

وليس أدل على خطورة الشعر الشعبي الفلسطيني من أن البريطانيين أقدموا على قتل الشاعر الشعبي الفلسطيني نوح إبراهيم لأن أناشيده الحماسية كانت تلهب النفوس وتجري على كل لسان في ذلك الحين، فتلهب الشعور وتثير النخوة والحماسة في الصدور. (حسين 1978: 14). وكان الشاعر والمناضل الفلسطيني توفيق زياد من المتحمسين للأدب الشعبي كأداة من أدوات النضال القومي ضد إسرائيل وتثبيت الهوية الوطنية الفلسطينية وألف في ذلك العديد من المقالات والكتب منها كتابه عن الأدب والأدب الشعبي الفلسطيني، وكتابه صور من الأدب الشعبي الفلسطيني. ولاقى الباحث الفلسطيني نمر سرحان ما لاقاه من العنت والتشرد ولا ذنب له إلا البحث والتنقيب عن تراث فلسطين الشعبي. وعلينا أن نتذكر الدور الفعال الذي تضطلع به حركة احياء التراث الفلسطيني والمحافظة عليه كسلاح من أسلحة الكفاح الوطني ضد حركة الاستيطان الصهيوني.

أما لو نظرنا إلى الوضع القائم في الجزيرة العربية لوجدنا أن المهتمين بدراسة اللهجات والأدب الشعبي أناس لا يرقى الشك إلى نزاهتهم وغيرتهم الدينية والقومية، ولا في مدى تفقههم وتضلعهم في العربية الفصحى وآدابها، وكذلك في الدين والحضارة الإسلامية. وكثير منهم من يراوح بين الأدب الفصيح والأدب الشعبي على المستوى الإبداعي وعلى مستوى الدراسة والنقد. والمهتمون بدراسة اللهجات والأدب الشعبي هم من أمثال المرحوم محمد بن عبدالله بن بليهد والشيخ عبدالله بن محمد بن خميس والشيخ محمد بن ناصر العبودي والشيخ سعد بن عبدالله بن جنيدل والمرحوم الأديب خالد الفرج وأبو عبد الرحمن بن عقيل وعبد الكريم الجهيمان والمرحوم الدكتور عبدالله العتيبي الذي شغل منصب رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الكويت وأمين سر رابطة الأدباء في الكويت ورئيس تحرير المجلة العربية للعلوم الإنسانية وله العديد من المؤلفات القيمة عن الأدب العربي ويعد من شعراء الفصحى المرموقين.

لا أحد من هؤلاء يدعو إلى العامية أو يتشيع لها. ولا أحد من علماء اللغة والفلكلور والأنثروبولوجيا الذين يدأبون على دراسة الثقافات المحلية والآداب العامية واللهجات المحكية يهدفون إلى نبذ الفصحى أو تقليص دورها أو النيل من تراثنا الكلاسيكي. الفصحى لغة يحترمها الجميع ويلتزم بها ويجب أن تبقى هي لغة العلم والثقافة والكتابة. بل حتى في كتاباتنا العلمية وأحاديثنا في المحافل الرسمية عن الأدب العامي واللهجات لا بد أن نلتزم استخدام اللغة الفصحى.

أعلي 
 

تداخل الشعبي والفصيح

بعد الفتوحات الإسلامية واتساع رقعة الدولة الأموية ومن بعدها العباسية بدأت اللهجات العربية تتمايز عن بعضها البعض من جهة وعن العربية الفصحى من جهة أخرى مما فتح الباب ومهد الطريق لقيام أدب عامي إلى جانب الأدب الفصيح. هذا التمايز اللغوي دفع الكثيرين من الكتاب والأدباء إلى الاعتقاد بوجود حواجز يصعب تخطيها بين الأدب العامي والأدب الفصيح. إلا أن النقاد وعلماء اللغة في عصرنا هذا يجمعون على أن هناك مستويات أدبية متباينة تحددها معطيات اللغة، شكلاً ومضموناً. هذه المستويات ليست حقولاً متضادة متنافرة وليست دوائر منغلقة على نفسها، لكنها في الواقع تمثل نقاطاً على امتداد فضاء ثقافي فسيح يسمح بالتداخل والتفاعل. علاقة الأدب الشعبي/ العامي بالأدب الفصيح علاقة قوية متعددة الجوانب، مهما حاول البعض تسطيح هذه العلاقة وتبسيط معطياتها. إنها علاقة أخذ وعطاء وتأثير وتأثر وليست علاقة تنافر وتضاد كما يحلو للبعض أن يصورها.

ولا مشاحة في وجود وأهمية العلاقة بين اللغتين الفصحى والعامية وآدابهما فهما مرفآن على بحر الحضارة العربية الذي تدفع أمواجه مسيرة التاريخ وحركة المجتمع. يتداخل الأدب الشعبي في ثقافتنا العربية مع الأدب الفصيح على عدة أصعدة. فهما متداخلان على صعيد المادة والشكل، كل منهما يغذي الآخر ويمده بالمضامين الأدبية والأدوات الفنية. وقبل أن تشتد حدة التمايز اللغوي بين العامي والفصيح كان الأدب العربي في عصوره المبكرة وفي فجر نشأته أدبا شعبيا يصاغ بلغة كانت آنذاك هي لغة الناس اليومية، وإن رفعنا الآن من قدرها وأعلينا من شأنها وأطلقنا عليها مسمى الفصحى. والمناهج التي سار عليها علماؤنا الأوائل في جمع تلك النماذج المبكرة من مصادرها الشفهية ومن أفواه الرواة خير دليل على شعبيتها. والجهود الميدانية التي بذلها أولئك العلماء في جمع مادة الأدب الجاهلي ولغة العرب يمكننا الاقتداء بها في محاولاتنا المعاصرة لجمع ودراسة آدابنا الشعبية.

تعايش الأدب العامي جنبا إلى جنب مع الأدب الفصيح منذ صدر الإسلام مروراً بالعصر الذهبي، عصر ازدهار العربية وآدابها، ثم عصور الانحطاط أحلك عصور العربية ولا يزالان متعايشين حتى الآن؛ ومع ذلك لم تتغلب العاميات على الفصحى ولم تقض عليها. بل لقد ازدهر الأدب العامي إلى جانب الأدب الفصيح وأصبحا متداخلين متشابكين في مفهومهما وفي مادتهما ولا يمكن النظر إلى أي منهما بمعزل عن الآخر أو اعتبار أن أيا منهما يشكل خطراً على الآخر. وقد لعب التزامن دورا حاسما في علاقات الأخذ والعطاء التي قامت بين الأدب الفصيح في مراحله التي تلت عصور الجاهلية وصدر الإسلام وبين الأدب العامي الذي كان يسايره ويعيش في ظله. وبحكم هذا التعايش والتزامن قامت علاقات وشيجة من الأخذ والعطاء بين العامي والفصيح على صعيد الشكل والمادة. وفي مقدمته لكتاب الدكتور عبدالله العتيبي دراسات في الشعر الشعبي الكويتي يقول الدكتور محمد رجب النجار إن الأدب الشعبي العربي:

شئنا أم أبينا- جزء ضخم من تراثنا الثقافي والأدبي، ومتمم له، به تكتمل دائرة هذا التراث، وبه تكتمل دائرة البحث الأدبي، ذلك أنه لا يمكن فصله- في دراسة الآداب القومية- عن دراسة الأدب المكتوب. لقد كان -ولايزال- هذا التفاعل الخلاق قائماً بين الأدبين، على مر العصور، وهو أمر من شأنه أن يحظى باهتمام كل باحث أدبي. (العتيبي 1984: 8).

ويؤكد الدكتور العتيبي في كتابه المذكور على أن الأدب الفصيح والأدب الشعبي وجهان ناصعان لعملة واحدة هي التراث الإنساني العربي. ويقول إن منزلة الأدب الشعبي في إثراء التراث العربي لا تقل في أهميتها وفعاليتها عن الشعر الفصيح ولكنها تغنيه وتثريه عمقاً وتأصيلاً وذلك لما للأدب الشعبي بحكم تكوينه ومجال انطلاقه وممارساته من مقدرة فعالة في تغطية الجوانب الدقيقة لحياة المجتمع وعلاقاته الخاصة التي تقف حدود الأدب الفصيح دون التغلغل في تصويرها. وحينما يعاني الأدب الفصيح من الفراغ الإبداعي في عصور الانحطاط ويفقد المساحة الكافية للتحرك بفعل الواقع الثقافي فان الشعوب العربية تقصي إلى القرار العميق من وعيها الأدب الفصيح وتلجأ إلى أدبها الشعبي لأنه كما يقول الدكتور العتيبي:

حصنها المنيع ووشيجتها العربية الحصينة، ولسانها المسجل الواعي، وذاكرتها الخازنة لأسباب حضارتها العريقة، وكأنها وجدت في الشعر الرسمي آنذاك رغم فصاحة معجمه وانتمائه الشكلي لموروثها الحضاري خروجاً عن دائرة وجوهر مسيرتها الثقافية والحضارية، فهو شعر يحمل هموماً غير همومها، ويتجه توجهاً يغاير جوهر توجهها وتطلعاتها القومية والإنسانية، فاستعاضت عن هامشيته، بلون شعري مغموس في دفء مشاعرها، محتشد في وجه الردة كاحتشادها، مستشعر حرارة التواصل بين الأجيال كاستشعارها، لأن الابداع الشعري عند الأمم العظيمة قضية، فإذا حاد عن قضيته نبذته واستعاضت عنه ببديل، ولو كان هذا البديل أقل مكانة فنية. (العتيبي 1984: 144).

والمتتبع لتاريخ الأدب العربي يلاحظ أنه كلما حالت الظروف السياسية والثقافية دون تأدية الأدب الفصيح لدوره في المجتمع كان الأدب الشعبي دوما جاهزا للوفاء بهذه المهمة. فحينما انعزل أدباء الفصحى عن هموم الناس ومعاناة الشعوب العربية وانصرفوا إلى الصنعة اللفظية وأغرقوا في الجري وراء الصيغ البلاغية، مما باعد بين أدبهم وبين الحياة العامة، اتسع المجال أمام الأدباء الشعبيين لملء الفراغ الذي تركه الأدب الفصيح. وفي مقدمته لكتاب الدكتور عباس الجراري الزجل في المغرب: القصيدة يؤكد الدكتور عبدالعزيز الأهواني أن:

عبقرية الأمة، ممثلة في جماهيرها الغفيرة، لا بد أن تجد لها متنفسا ومنفذا للتعبير عن مشاعرها، ولا بد أن تصطنع لها من أساليب الفنون ما تصور به ذات نفسها. فإذا ما سد أمامها باب فتحت لنفسها بابا آخر، وإذا كثرت العقبات والعراقيل في طريق سلكت طريقا آخر، وإذا لم تجد عند الأدب المتفصح الاستجابة الكاملة لذوقها وشعورها وفهمها بحثت عن الأدب العامي والفنان الشعبي، غير مقتصرة على فن القول وحده، بل متجاوزة ذلك إلى فنون التعبير الأخرى من موسيقى وغناء وتصوير ونحت وعمارة وزخرفة وصنائع يدوية. وكل هذه الفنون، جملة وتفصيلا، ميراث لهذه الأمة، يحمل فيضا من مواهبها، ويبرز جوانب من عبقريتها، ويظهر سمات وخصائص من حياتها الطويلة العريضة. (الجراري 1970: هـ-و).

ولنأخذ مثلا على ما نقوله الجزائر. حينما دمر الاستعمار الفرنسي المؤسسات الدينية والتعليمية في الجزائر سعيا منه للقضاء على اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها انبرى الأديب الشعبي الجزائري ليقاوم سيطرة الثقافة الفرنسية ويملأ الفراغ الذي تركه ضعف الثقافة العربية واضمحلال مؤسساتها. وخلال فترة الاستعمار الفرنسي الذي جثم على صدر الجزائر لأكثر من قرن ظل الأديب الشعبي متمسكا بلسانه العربي وقيمه العربية ولعب دورا لا يستهان به في المحافظة على عروبة الجزائر وتمسكها بالدين الإسلامي والقومية العربية. (الشيخ 1983: 45، 95). وفي حديثه عن الشعر الشعبي في الجزائر يقول الدكتور عبدالله ركيبي "ملأت قصيدة "الملحون" فراغا كبيرا تركه الشعر الفصيح بعد الاحتلال، وخاصة في الثلث الأخير من القرن الماضي." (ركيبي 1981: 371).

ومن الذين أولوا هذه القضية اهتماما خاصا وتحدثوا عنها بإسهاب صالح خرفي في كتابه شعر المقاومة الجزائرية الذي يرى أن استمرار حياة اللغة العربية في الجزائر على اللسان الشعبي المتفرع عن الفصحى هو الذي ضمن عودة الحياة إلى الفصحى بعد رحيل الاستعمار. يقول خرفي "إن الشعب مهما حطمته الخطوب، وبترت لسانه، لن يعدم أداة للتعبير. التعبير لغات متعددة قد يخرس الطاغي أفصحها لسانا ويبقى أفصحها إيماء وإيحاء. وقد تخمد كل جارحة في الجسد الطريح وتبقى النظرة الشزراء ناطقة صارخة. وقد تنطفئ النظرة ذاتها لتستريح الجثة إلى ملامح ثابتة التعبير هي أصدق ترجمان عن الشعور الذي أسلم الروح إلى خالقها." (خرفي د. ت.: 71). والقصيدة الشعبية عن طريق الرواية الشفهية واللغة العامية التي لا يفهمها إلا أهلها وعلى أفواه الرواة الشعبيين في القرى النائية والأزقة البعيدة عن عين الرقيب تمتعت بحصانة قلما تتوفر للنص الفصيح المكتوب المطارد من قبل الاستعمار. وفي محاولته رصد دور الشعر في مقاومة الاحتلال الفرنسي وتسجيل بطولات الشعب الجزائري يلجأ خرفي إلى القصيدة العامية ويبرر ذلك متسائلا: أفنجد غضاضة في الاستنجاد بهذه القصيدة لملء فراغ تركته القصيدة الفصحى؟ في ظل غياب القصيدة الفصحى لم يجد الشعب الجزائري متنفسا لمكنوناته إلا في القصيدة الشعبية التي تبوأت صدارة التعبير. ويتزامن خفوت صوت القصيدة الفصحى في الجزائر مع رحيل الأمير عبدالقادر مجبرا عنها. يقول خرفي:

يوم كان الأفول يلاحق القصيدة (الأميرية) الحماسية، وهي تتوارى في عرض البحر الأبيض مع (البارجة) المقلة للشاعر الفارس الذي كبت به الأيام، كانت الألفاظ "الدارجة" تتجمع وتترابط لتلتئم في قافية وطنية، تملأ بجدارة -أسلوبا وموضوعا- الفراغ الذي تركته القصيدة الفصيحة التي صدع بها الأمير عبدالقادر. (خرفي د. ت. 69).

ولنتوقف هنا ونعود أدراجنا تاريخيا إلى الوراء، إلى العصور المبكرة من أدبنا العربي. كانت بداية التأليف في ثقافتنا العربية قد قامت أساسا على جمع المادة الشفهية الشعبية من أفواه الرواة وتدوينها، مثل الشعر الجاهلي والنقائض وأيام العرب والأمثال والأنساب وغيرها من المواد التي شكلت النواة الأولى والنموذج الأعلى للأدب العربي في مختلف مراحله اللاحقة. كانت هذه المواد الأولية فصيحة في لغتها لكنها كانت شعبية في طبيعتها. وحتى بعد أن اكتملت مرحلة التدوين وجاءت بعدها مرحلة التأليف، ظل الكتاب، على الرغم من استخدامهم اللغة الفصحى ولجوئهم للكتابة في تدوين مؤلفاتهم، أسرى الأنماط والصيغ الشعبية في التأليف واحتفظت أعمالهم بأساليب الأدب الشفهي مثل التكرار والإرداف والسجع والاستطراد وكان الجمهور يستقبل هذه الأعمال عن طريق القراءة الجهرية والسماع -وليس القراءة الفردية- في المساجد والمجالس والأماكن العامة.

وفي العصور الإسلامية المتأخرة التي تفشت فيها العاميات وتقلص فيها استخدام الفصحى واقتصر على طبقة المختصين والمتعلمين، حاول البعض من شعراء الفصحى تبسيط لغة قصائدهم وتخفيف أوزانها وتقريبها إلى أذهان العامة وأذواقهم ليتحقق لها الرواج بين هذه الطبقات، خصوصا الأشعار الغزلية والقصائد المغناة. وقصص العشق والحب العذري وغير العذري، بما يتخللها من مقطعات شعرية لينة العبارة عذبة الألفاظ قريبة المعنى يسهل حفظها وتداولها، ليست إلا أدبا شعبيا يستمتع به العامة والخاصة على حد سواء. وحركات التجديد المتتالية التي مر بها الشعر العربي على أيدي شعراء مقتدرين من أمثال عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد وأبي العتاهية وأبي نواس ليست إلا محاولات للتقريب بين هذا الشعر بلغته الفصيحة وبين أذواق الجماهير في المدن والحواضر الإسلامية. وكان غاية الشاعر أن تلتقط جماهير الشعب أبياته وتدور على الألسنة ويشدو بها المنشدون والمغنون في حفلات السمر التي تقام في مجالس الخلفاء ووجهاء المجتمع. لذلك نجد أغلب هؤلاء الشعراء ابتعدوا عن العبارات الجزلة الفخمة وعن المفردات الآبدة الغريبة ودأبوا على نظم المقطعات القصيرة ذات العبارة الرشيقة واللغة السهلة الميسورة التي لا تبتعد كثيرا عن لغة الناس اليومية المألوفة حتى يسهل حفظها وتداولها على ألسنة الجميع. وقد وصلت سهولة اللغة، على الرغم من فصاحتها، عند البعض منهم إلى حد مفرط مثل هذين البيتين اللذين خاطب بهما بشار بن برد جاريته رباب:

    رباب ربة البيت // تصب الخل في الزيت

    لها عشر دجاجات // وديك حسن الصوت

وفي كتابه الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور أفاض الدكتور شوقي ضيف في توضيح الصبغة الشعبية التي لم يتحلل منها الشعر العربي الفصيح في مختلف عصوره المتتالية. ولا يقف الأمر عند حد تبسيط لغة الشعر وتقريب معانيه إلى العامة، بل إن العامة أنفسهم، وحتى الأميين منهم، كانوا منتجين، وليسوا مجرد مستهلكين، لهذه المادة الأدبية. وفي رسالة كتبها عن صناعة القواد أورد الجاحظ الكثير من الأشعار الفصيحة التي أبدعتها قرائح العامة من الحاكة والخبازين والكناسين والسقائين والطباخين والفراشين ومن هم على شاكلتهم بحيث يستظهر الشاعر في أبياته بعض المصطلحات التي تتعلق بحرفته، كأن يقول الخباز:

    قد عجن الهجر دقيق الهوى // في جفنه من خشب الصد

    وأقبل الهجر بمحراكه // يفحص عن أرغفة الوجد

ولو استعرضنا حياة الشعراء في العصور المختلفة لوجدنا غالبيتهم من أبناء الطبقات الشعبية ومنهم من لم يسمُ به شعره ويرفعه إلى مخالطة الطبقات العليا في المجتمع وظل يحيا الحياة الشعبية المتواضعة وغلبت على أشعاره ألفاظ العامة والطبقات الدنيا. وحتى الشعراء الذين لمعت أسماؤهم في سماء الشعر العربي لم يبتعدوا كثيرا عن جذورهم الشعبية. يقول الدكتور شوقي ضيف:

هذا الاتصال الوثيق بين الشعر والشعب هو الذي جعل أكثر شعراء الشعب من أبناء الطبقة العامة العاملة، ويكفي أن نعرف أن أعلامهم النابهين وهم بشار بن برد وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام نبتوا جميعاً في الطبقة الدنيا من طبقات الشعب، فبشار كان أبوه طيَّانا يضرب اللبَّن أو حجارة الطين ويعيش منها معيشة بائسة وكان أخواه: بشر وبشير قَصَّابين يبيعان اللحم. وكانت أم أبي نواس التي كفلته بعد موت أبيه وقامت على تربيته غازلة للصوف تعيش من كسب يديها، أما أبو العتاهية فكان أبوه يشتغل بالحجامة، وكان مضيَّقا عليه في الرزق، مما جعل ابنه -بمساعدة أخيه زيد- يحترف بيع الجرار والفخَّار، فكان يحملهما على ظهره وينادي عليهما في شوارع الكوفة، وتفجر ينبوع الشعر على لسانه، فكان يأتيه الغلمان والمتأدبون فينشدهم أشعاره، ويكتبونها على ما يشترونه من فخاره وجِراره. وكان الوليد أبو مسلم حائكاً يعيش في ضيق وإقلال، أما أبو تمام فكان أبوه صاحب حانوت عطارة. (ضيف 1977: 62).

وعلى الرغم من الحساسية التي كان يعاني منها الغالبية من أدبائنا وعلمائنا على مر العصور ضد المادة الشعبية، وعلى الرغم من الرقابة الصارمة التي فرضها البعض على أنفسهم فإن هذه المادة تسربت إلى أعمالهم وتشربتها كتاباتهم تشرب التربة للماء. وأمهات الكتب العربية، سواء في ذلك منها ما كان مناوئا للمادة الشعبية وما كان متعاطفاً معها، تزخر بالإشارات إلى المأثور الشعبي. وهناك من المؤلفين العرب من كانت لهم، خلال مختلف العصور والمراحل الحضارية للأمة العربية، نظرات ثاقبة وممارسات صائبة في التعامل مع المادة الشعبية التي تزخر بها كتبهم وموسوعاتهم اللغوية والأدبية والتاريخية. وقد وضح النجار في كتابه جحا العربي مدى اهتمام المؤلفين العرب القدامى بالمادة الشعبية بقوله:

والحق أن التراثيين العرب أنفسهم، كانوا من رحابة الأفق، وشمول الرؤية، وبعد النظر وموضوعية التفكير، في مؤلفاتهم -الموسوعية منها والخاصة- فلم يعرفوا مثل هذه التفرقة أو النظرة القاصرة المحدودة إلى ضروب الثقافة العامة وفنون التعبير الأدبي بخاصة. ولعل في العودة إلى ما أبدعته مثل هذه القرائح المعبرة، ما يؤكد ذلك، من أمثال المقريزي والقلقشندي والنويري والطبري وابن خلدون والقزويني والدميري والحصري وابن عبدربه، وأبي علي القالي، والمقري، وأبي حيان التوحيدي، وأبي الفرج الأصفهاني والجاحظ والأصمعي وعبدالله ابن المقفع -رائد النثر الفني في الأدب العربي- وغيرهم كثير جداً، بل لقد بلغوا قدراً من الحرية والجرأة والأمانة في التعبير ما نعجز نحن -المعاصرين- عن مجاراتهم أو تقليدهم (بحجة خدش الحياء مثلاً) أو دون أن يتهمهم أحد بالتشيع الإقليمي. (النجار 1978: 6-7).

والحوار بين من ينادون بأهمية دراسة أدب الشعب وبين من يناهضونه صراع قديم متجدد. إلى جانب الحزب المعارض لأدب العامة كان هناك فريق من الأدباء والعلماء الذين تنبهوا إلى قيمة المادة الشعبية وأهمية جمعها والبحث في طبيعتها ومنشأها. ولم يجد هؤلاء غضاضة في جمع المادة الشعبية التي تعكس واقع المجتمع العربي الإسلامي أيا كان مصدرها، حتى من أفواه العامة والسوقة الذين يلحنون في كلامهم. هؤلاء الكتاب والأدباء كانوا يستلهمون الشعب في أعمالهم ويستمدون منه مادتهم الأدبية. غير أن هناك من لمح إلى أهمية الأدب الشعبي كنتاج فني مثل القلقشندي والتوحيدي وابن الأثير وأخص بالذكر ابن خلدون الذي قال بأن البلاغة والجمال الفني أشياء مستقلة تماماً عن قواعد النحاة. ناهيك عن علماء اللغة الذين صنفوا المؤلفات العديدة المفيدة عن لغة العامة. وهناك من يمكن أن نسميهم بالأدباء الواقعيين مثل الجاحظ والذين حاولوا تصوير مجتمعهم من جميع جوانبه ورأوا الأمانة تدعوهم إلى نقل كلام العامة والسوقة دون تفصيح، ليس فقط لأن مهمة الأديب تصوير الواقع الاجتماعي والحضاري بل لأن في ذلك ما يضيف نكهة خاصة وطعماً متميزاً لعمل الكاتب. ومن آراء الجاحظ المشهورة قوله في البيان والتبيين:

ومتى ما سمعت -حفظك الله- نادرة من كلام الأعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إن سمعت نادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً فإن ذلك يفسد الامتاع بها ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها. (الجاحظ 1975، ج1: 145-146).

ويقول أبو حيان التوحيدي في كتاب البصائر والذخائر في محاولة لتبرير وتفسير ما ضمنه كتابه من مادة شعبية:

وهذه نتف ألفتها ها هنا، فبعضها مسموع من العامة وبعضها مروي عن الخاصة. وهي تجري مجرى الأمثال المبتذلة، منها طيب ومع الطيب عبرة. وقد خلت من الأصول الدالة على الفروع، ومن العلل المقتضية للأحكام. وقد عرضتها على الناس أسأل عن أسرارها ومدارها وكيف كان قديمها وفاتحتها وكيف انتشرت الآن بين العامة وكيف أشكل على الجميع معانيها فلم ألحق الناس إلا رجلاً واحداً في الجهل بها وبأسبابها. وقد سردتها لتشركنا في التعجب والطيب إن شاء الله. (التوحيدي 1964: م2، ج2: 652).

ويقول التوحيدي في مكان آخر من كتابه:

وقد مرت من أمثال العامة أشياء تتصل بأغراض صحيحة على سوء التأليف وخبث اللفظ وفيها فوائد وأعجوبة. فاعرف الخبيث واختر أنفعها لك في موضعه وأجداها عليك في استعماله. فلم ينبت هذا كله في العالم إلا ليعرف ويميز وليكون بعضه باعثاً على بعض وناهيا عن بعض. وباختلاف الأشياء تختلف الظنون وتنقسم الأفكار في طلب الحق وتوخي الصواب. وليس الحق شخص في محل يطوى إليه. فلا تزو وجهك عن اللفظة السخيفة والكلمة الضعيفة فإن المعنى الذي فيها فوق كراهتك. وليس العالم تابعاً لرأيك ولا محمولاً على استحسانك واستقباحك. بل يجل عن مقاحم فكرك ويعلو على غايات فهمك. فإنك إن ترى لنفسك محلاً لست به فتقول هذا حسن وهذا قبيح دون أن تقف على حقائق ذلك الحسن والقبيح بفعل ما شابه الهوى ولا تحيفه الألف ولا ضيعته العادة. (التوحيدي، 1964، م2، ج2:660).

ويورد القلقشندي في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا رأيا في غاية الأهمية؛ فقد استخدم القلقشندي مصطلحاً عربياً أصيلاً للدلالة على المادة الشعبية هو مصطلح "أوابد" الذي يقابل المصطلح المعاصر "فلكلور" وعرف الأوابد بأنها "أمور كانت للعرب في الجاهلية بعضها يجري مجرى الديانات وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات (الأعراف) والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات." (القلقشندي 1913، ج1: 398). أما ضياء الدين بن الأثير فإنه في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر يوضح أن صاحب صناعة الإنشاء ينبغي له أن يمتلك ثقافة موسوعية شمولية تحيط بجميع معارف عصره، فهو "يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والماشطة عند جلوة العريس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنك بما هو فوق هذا، وذلك لأنه مؤهل أن يهيم في كل واد، فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن." (ابن الأثير 1983، ج1: 86). وقد سبق ابن الأثير ابن خلدون في تأكيده على أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة وأن الغرض من نظم الشعر ليس إقامة إعراب كلماته وإنما هو أمر وراء ذلك. يقول ابن الأثير إن "الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما، وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة البلاغة والفصاحة، ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام." (ابن الأثير 1983،ج1: 69). ويعقد في كتابه فصلا بعنوان "الحكمة التي هي ضالة المؤمن" يوضح فيه كيف كان يدون ما يسمعه من الأعاجم والنبيط والأحابيش والأفدام وغيرهم من العامة الذين لا يقيمون وزنا للإعراب لكن مع ذلك تجري على ألسنتهم أقوال فصيحة وحكم بليغة لا يقدح في بلاغتها ما فيها من أخطاء نحوية. وفي نهاية ذلك الفصل يورد ابن الأثير هذه الرواية:

وبلغني عن الشيخ أبي محمد (عبدالله بن) أحمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي، وكان إماما في علم العربية وغيره، فقيل إنه كان كثيرا ما يقف على حِلق القصاصين والمشعبذين، فإذا أتاه طلبة العلم، لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك، فليم على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة؟ فقال: "لو علمتم ما أعلم لما لمتم! ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة، تجري في ضمن هذيانهم معان غريبة لطيفة، ولو أردت أنا أو غيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك". ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته، ونظر إلى ما نظرت إليه. (ابن الأثير 1983، ج1: 127).

وقد أوضح الدكتور النجار في مقالته الطويلة "الشعر الشعبي الساخر في عصور المماليك" عالم الفكر (1982، م 13، ع3: 71-78) أن الأدب الشعبي قد حظي في العصور المملوكية باعتراف الصفوة السياسية والأدبية والعلمية وعرف طريقه إلى قلوب السلاطين والنقاد والمؤرخين والكتاب وانبرى للتأليف فيه كبار الشعراء والأدباء. بل إن الفقهاء والوعاظ والمتصوفة نظموا النصائح والمواعظ بالعامية لتروج بين الناس. وغالبية شعراء العامية الذين سجلت أسماءهم ذاكرة التاريخ ودونت أشعارهم في ثنايا كتب الأدب العربي هم من نخبة المجتمع وصفوته من فقهاء وعلماء ومشائخ وشعراء وأدباء وكتاب ومن حظوا بمراتب عليا في العلم والثقافة. وبلغ من احتفاء الناس حينئذ بالفنون الشعرية الملحونة أن كثيرا ممن ترجم لهم كان الواحد منهم يقال عنه في ترجمته من باب الافتخار "ومع ذلك كان عاميا مطبوعا ومن كبار شعراء العوام" أو "صاحب الأزجال اللطيفة" أو يوصف بأنه "نظم القريض فبلغ فيه الغاية وأجاد فنون النظم غير القريض وأتى في الجميع بما هو شفاء القلب المريض" أو "كذلك هو في الموشحات والأزجال والمكفرات والبلاليق والقرقيات والدوبيت والمواليا والكان وكان والقوما." (النجار 1982، م 13، ع3: 72-73).

خلاصة القول أن تداخل العامي والفصيح في ثقافتنا الكلاسيكية لا يتوقف عند حد تسرب بعض الألفاظ والتعابير الشعبية إلى أعمال الجاحظ والتوحيدي والقلقشندي وغيرهم من جهابذة الأدب العربي الذين ضمنوها أعمالهم من باب الطرفة والاستملاح وغير ذلك من الاعتبارات الفنية. بل إن هنالك الكثير من الأعمال التي وإن كانت تعد في قمة الفصاحة من حيث اللغة فهي شعبية في مضمونها وفحواها، وعلى رأس هذه الأعمال كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع والذي يعد في عصرنا هذا مصدرا من أهم مصادر دراسات الأدب الشعبي في العالم. وإذا سمحنا لأنفسنا بأن لا نقتصر في تعريفنا لشعبية المادة الأدبية على شكلها اللغوي بل تجاوزنا ذلك إلى المضمون فإن الكثير من المادة التي تزخر بها كتب الأدب العربي ليست إلا مادة شعبية فُصّحت لغتها وثُبتت عن طريق التدوين بعد أن كانت تعيش في عالم الرواية الشفهية بين الطبقات الشعبية. وأعتقد أن معظم، إن لم يكن كل، الحكايات التي أوردها الجاحظ في كتاب البخلاء مثلا من هذا القبيل. وهذا ما يمكن قوله عما تطالعنا به كتب الأدب من قصص الحمقى والمغفلين ومن النوادر والأسمار والملح والطرائف وقصص الخلاعة والمجون وما شابه ذلك من أجناس الأدب الترفيهي. والكثير من هذه الأجناس الأدبية لا زالت حية فاعلة حتى عصرنا هذا تتردد على مسامعنا باللغة العامية عن طريق الرواية الشفهية، وربما امتدت جذورها إلى العصور الجاهلية السحيقة. تفصيح لغة هذه المادة، مثله تماما مثل الترجمة من لغة إلى أخرى، لا يغير شيئا يذكر من الناحية السوسيولوجية والثقافية، أي من حيث منشأ المادة وطبيعتها الفلكلورية ومضامينها الفنية ووظائفها الاجتماعية.

إضافة إلى تفصيح المادة الشعبية كقناة من قنوات التداخل بين العامي والفصيح، وإضافة إلى تسرب الألفاظ والجمل المشوبة باللحن إلى الأعمال الفصيحة، فقد ظهرت في العصور الأدبية المتأخرة أجناس أدبية في الشعر والنثر تحتل لغتها موقعا وسطا بين الفصحى والعامية. من هذه الأجناس ما يطلق عليه الفنون الملحونة أو الأدب العاطل من الأعراب من أزجال وموشحات ومواليا وقوما وحماق وغيرها من فنون القول التي لا تتقيد لغتها تقيدا صارما بقواعد الفصحى لكنها تسمو فوق اللهجات الدارجة، وإن كانت تستعير منها بعض المفردات والعبارات والتشبيهات. هذا عدا الأعمال النثرية مثل ألف ليلة وليلة وكتب السير الشعبية التي أعدت للاستهلاك الجماهيري. وبالإضافة إلى الأعمال الإبداعية التي ظهرت باللغة العامية شعر ونثرا، ظهرت أيضا وبشكل ملفت للنظر العديد من الدراسات والمؤلفات التي تؤرخ لهذه الفنون الملحونة وترصد أطوارها ظواهرها مثل صفي الدين الحلي الذي ألف العاطل الحالي والمرخص الغالي وابن حجة الحموي الذي ألف بلوغ الأمل في فن الزجل وابن إياس الذي ألف الدر المكنون في سبعة فنون. وابن سناء الملك الذي ألف دار الطراز وابن الدباغ المالكي الذي ألف ملح الزجالين، وغيرهم كثير.

ولا بأس من الإشارة هنا ولو باقتضاب شديد إلى أن سبب ازدهار التأليف باللغة العامية في هذه المراحل من تاريخنا الفكري والثقافي ليس مرده بالضرورة إلى انحسار التعليم وتراجع الفصحى، ذلك لأن هذا الأدب العامي، على الرغم من لغته العامية، لم يكن في معظمه أدبا شفهيا بل كان أدبا يقوم أساسا على التدوين ويحتاج في تأليفه وتداوله إلى إلمام جيد بالقراءة والكتابة، مثله مثل الأدب الفصيح. قد تكون الأسباب الحقيقية والتي لا زلنا نجهلها ذات جذور سياسية واجتماعية واقتصادية، علاوة على الأسباب التي تساق عادة مثل انهيار المؤسسات الدينية والتعليمية نتيجة ضعف السلطة المركزية.

وقد بلغ الاهتمام بثقافة العامة ولغتهم وآدابهم ذروته عند عالم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون. وابن خلدون قد لا يكون هو أول من أشار إلى القيمة الفنية للأدب العامي حيث سبقه إلى ذلك ضياء الدين ابن الأثير كما مر بنا، لكنه، بفكره الثاقب وفطنته المعهودة، هو أول من أفاض في الحديث عن قيمة هذا الأدب ووصفه وصفا مفصلا ونبه إلى أهمية دراسته وحاول صياغة رؤيته هذه صياغة نظرية وطرحها على شكل مقولة علمية. يقول في مقدمته:

ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون. والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد، وخصوصاً علم اللسان، يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها وهذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم. فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره، وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس. وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة: فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة. ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. (ابن خلدون 1988: 806).

هذا الاستعراض لعلاقات التأثير والتأثر بين الأدب العامي والأدب الفصيح يثير العديد من القضايا الجوهرية والأسئلة المحورية التي لم تحظ حتى الآن بما تستحقه من اهتمام وتركيز مثل تحديد معالم الأدب الشعبي العربي وتعريفه وما طبيعة وعمق العلاقة القائمة في ثقافتنا بين الأدبين الشفهي والمكتوب، أو العامي والفصيح؟ كما أنه لا بد لنا من تحديد موقفنا حيال قضية اللغة والشكل والمضمون ودور كل منها في تحديد مستوى الأدب ودوره ومكانته الفنية والاجتماعية. وكذلك معرفة مدى إنطباق المعايير والمقاييس التي تروجها مدارس الفلكلور الغربية للتمييز بين ما هو شعبي وما هو غير شعبي، مثل التواتر والتداول الشفهي والشيوع والتفشي ومجهولية الأصل والمؤلف، إلخ.

الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب منا بطبيعة الحال رصد المؤتلف والمختلف بين الأدب العامي والأدب الفصيح وتتبع حركة التفاعل بين هذين الأدبين في إطارها التاريخي والحضاري. ويمكننا استلهام المصادر العربية القديمة والاتكاء عليها كمصادر أولية إلى جانب المصادر الشفهية والتحريرية المعاصرة لجمع مادة وعناصر المأثور الشعبي ورصد العمق التاريخي والبعد الجغرافي لهذه العناصر. وبقدر ما نحن نلح ونؤكد على ضرورة وأهمية جمع المأثور الشعبي من مصادره الشفهية في الميدان فإننا في الوقت نفسه وبنفس القدر من الحماس ننادي بضرورة وأهمية نخل المصادر العربية واستخلاص ما فيها من مادة شعبية ثم ترتيب المادة المستخلصة وفهرستها حسب الأصول المتبعة في هذا الخصوص لتصبح سهلة التناول وحتى يمكن الاستفادة منها كأدوات بحثية في الدراسات التاريخية والمقارنة. ومن المعروف أن المراجع التي صنفها آنتي آرني Antti Aarne الفنلندي وستيث تومسون Stith Thompson الأمريكي لفهرست طرز الحكايات الشعبية وجزئيات الأدب الشعبي اعتمدت أساساً على المصادر المكتوبة، قديمها وحديثها، وأصبحت أدوات أساسية من أدوات البحث الفلكلوري.

 

أعلي

 

مشروعية دراسة الشعر النبطي

لو ألقينا نظرة شاملة على مجتمع الجزيرة العربية لوجدنا أن الشعر النبطي من أغنى عناصر الأدب الشعبي وأغزرها مادة وأكثرها التصاقاً بواقع الحياة والمجتمع. هذا الشعر، دون بقية آدابنا الشعبية الأخرى، ثروة أدبية ضخمة وظاهرة من ظواهر الأدب الشعبي الفريدة من نوعها والتي تخص مجتمع الجزيرة دون غيره من المجتمعات الأخرى. فهو فريد في شكله ومضمونه، كما أنه فريد في مكانته الأدبية ووظيفته الاجتماعية وقيمته العلمية. الشعر النبطي وثيقة نستطيع من خلالها أن نستشف أنماط الحياة الماضية ونستشرف آفاقها. وما ذلك إلا لأنه يستقي مواضيعه من حوادث التاريخ وقيم المجتمع وممارسات الناس اليومية، وهو في محتواه ليس إلا انعكاسا مباشرا للظروف الاجتماعية والحضارية في بلادنا قبل نهضتها الحديثة. إنه حصيلة التجارب التي يقتدي الناس بها في سلوكهم ويحتكمون إليها في معظم شؤونهم وهو التعبير الصادق لما يختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس. كان الشعر النبطي حتى عهد قريب رافدا من أهم روافد الثقافة ومصدرا من أهم مصادر المعرفة ووسيلة من أهم وسائل رصد ظواهر المجتمع وتسجيل حقائق التاريخ وأرشفتها وتداولها. يقول الأستاذ خالد الفرج في مقدمة ديوان عبدالله بن سبيل أن "شعره ديوان لأحوال البادية جمع فأوعى من أوصاف أحوال البدو في السلم والحرب والعادات والحل والترحال". ولقد صور لنا ابن سبيل حياة البادية برومانسيتها مثلما صور لنا حميدان الشويعر مجتمع حاضرة نجد في وقته بطريقته الساخرة التي لا تضاهى في واقعيتها وجودتها الفنية. أما شعراء البادية فقد صوروا لنا حياة البادية من جميع جوانبها، لا سيما فيما يتعلق بحلهم وترحالهم، وطرق الغزو والكسب عندهم، وعلاقة القبائل مع بعضها وعلاقتها مع الحاضرة.

هذا ولا يخفى على أحد أن الحياة في الجزيرة العربية تسير الآن بخطى سريعة جداً أحياناً يقصر النظر عن متابعتها واللحاق بها. واختفت اليوم عن المسامع والأبصار وسائل وممارسات كانت تحكم حياة أسلافنا وأصبحت هناك هوة شاسعة تفصل حياتنا الحاضرة عن حياتنا بالأمس. الشعر النبطي نافذة تمكننا من التطلع إلى أعماق ذلك الماضي الذي يبدو سحيقاً بالرغم من قرب عهده. فكما كان الشعر الجاهلي سجل الأحداث ومستودع القيم، فكذلك الشعر النبطي يستطيع الباحث أن يستنتج منه -بعد قراءة متمعنة وفحص دقيق- عادات وتقاليد وقيم ومفاهيم تساعدنا على تصور حياة أسلافنا وربط حاضرنا بماضينا. والشعر النبطي كذلك مصدر هام لا يمكن التغاضي عنه لمن يزمع القيام بدراسة جغرافية الجزيرة العربية وتاريخ سكانها من حاضرة وبادية، ودراسة أحوالها السياسية والاجتماعية قبل نهضتها الحديثة. ولقد نوه بذلك الأستاذ حمد الجاسر في مقدمته للجزء الأول من كتاب شاعرات من البادية الذي جمعه محمد بن عبدالله بن رداس. كما أن الدكتور عبدالله الصالح العثيمين في كتابه نشأة إمارة آل رشيد وفي مقاله "الشعر النبطي من مصادر تاريخ نجد" ( العرب 1397، ج11-12، س11) قد برهن على قيمة هذا الشعر كمصدر أساسي في مجال البحث التاريخي. وهذا ما سوف يتضح لنا في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب.

من هذه الاعتبارات تستمد دراسة الشعر النبطي مشروعيتها ومن العلاقة الوثيقة التي تربطه بشعر الجاهلية وصدر الإسلام. وأول من أدرك تلك العلاقة ونبه إليها هو العلامة العربي ذو الفكر الثاقب والبصيرة الواعية عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته. ثم مرت بعد ذلك قرون لم يلتفت أحد من كتاب العربية لهذا التراث الأدبي الضخم حتى قيض الله له نخبة من الكتاب والباحثين من أبناء الجزيرة الذين يفهمون هذا الشعر ويقدرونه فشمروا عن سواعدهم لبثه ودراسته من أجل استجلاء نواحيه الفنية والتأكيد على أنه امتداد طبيعي للشعر العربي القديم. ففي النصف الثاني من القرن الفائت، أي على إشراقة شمس العلم والمعرفة على بلدان الجزيرة العربية وفي بداية طريقها الثقافي، كان الشعر النبطي من أول المواضيع التي حظيت باهتمام الكتاب والمؤلفين. فهذا الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد نوه به في عدة مواضع من كتبه. وفي سنة 1371هـ قام الأستاذ خالد بن محمد الفرج بنشر مجموعه ديوان النبط: مجموعة من الشعر العامي في نجد وقدم له بكلمة لعلها أحسن ما قيل عن الشعر النبطي وعلاقته بالشعر الجاهلي. وبعد ذلك كتب الشيخ عبد الله بن خميس كتابه القيم الأدب الشعبي في جزيرة العرب وتناول بشيء من التفصيل علاقة الشعر النبطي بالشعر العربي، كما تعرض ابن خميس لهذه المسألة في مواضع أخرى من كتبه القيمة وفي مقالاته العديدة التي نشرها في مختلف الصحف والمجلات. هذا الجيل الرائد من الكتاب بذلوا جهوداً ملحوظة في سبيل رصد العلاقة بين الشعرين النبطي والعربي وسبر غورها. غير أن ما كتب في هذا الصدد حتى الآن لا يعدو إيراد بعض الأمثلة والخواطر العابرة التي لا تفي الموضوع حقه من الدراسة والتحليل ولا تتجاوز بنا مستوى الشواهد إلى مستوى الرؤية الكلية الشاملة.

يعمد البعض في تناولهم علاقة الشعر النبطي بالشعر الجاهلي إلى حشد أبيات من هذا وأبيات من ذاك وتبيان أوجه الشبه بين هذا وذاك. وهذا تسطيح للمسألة وحصر لها في جانبها الأدبي وتبسيط للمعالجة لا يتجاوز بنا مستوى الشواهد والأمثلة إلى بلورة رؤية نظرية شمولية. حينما نتفحص عن كثب علاقة الشعر النبطي بالشعر العربي نجد أنها ليست علاقة مسطحة ذات بعد واحد وليست من البساطة بالقدر الذي يتصوره البعض بل هي موضوع شائك الدروب كثير المنعطفات تحكمه قوانين متشعبة لابد من لم شتاتها من أجل أن تتضح الرؤية ويتسق النقاش وتستقيم طرقه ومن أجل أن نمهد المسالك في هذا الميدان الفسيح من ميادين البحث. ولا يمكن أن نترجم شعورنا البديهي بتلك العلاقة ونبلوره من مجرد حدس وإحساس إلى أفكار منتظمة ومقولة متكاملة ما لم نكون صورة ذهنية واضحة لهذه العلاقة وما لم نتمثلها على أوجهها المتعددة ونحدد معالمها المختلفة ونتجاوز الجزئيات إلى المستوى المطلوب من العمومية والشمول.

وفي تناولنا لعلاقة الشعر النبطي بالشعر العربي علينا أن نميز بين نوعين من العلاقة هما العلاقة الأدبية والعلاقة التاريخ/حضارية. العلاقة الأدبية علاقة مصطنعة مبنية على المحاكاة الشعورية والتقليد الواعي نتيجة قراءة شعراء النبط المتعلمين كتب الأدب واطلاعهم المباشر على الشعر الفصيح، وسوف نتطرق لهذا الجنس من العلاقة بشيء من التفصيل في حديثنا عن تدوين الشعر النبطي. أما العلاقة التاريخ/حضارية فإنها علاقة طبيعية عضوية أساسها النسب اللغوي والفني وقوامها الاستمرارية التاريخية والحضارية بين مجتمعات الجزيرة العربية من العصور القديمة حتى الآن، لذلك فهي أعمق من كونها مجرد علاقة تشابه معانٍ أو تطابق صور. الشاعران، النبطي والجاهلي، يلتقيان على صعيد واحد من الرؤية الحضارية والحس الفني وشعرهما ليس إلا صدى لنفس الظروف الطبيعية والاجتماعية القاسية. وإن كانت العلاقة الأدبية واضحة المعالم بارزة السمات نستطيع تحديدها والإشارة إليها بدون غموض فإن العلاقة التاريخ/حضارية مسألة لطيفة في منتهى الشفافية لا يمكن تشخيصها والإيماء إليها بسهولة ويسر بل لابد من إعمال الفكر وكد الذهن للغوص إليها واستجلائها وعرضها أمام القارئ. وهذا بالطبع لا يعني أنها علاقة باهتة خافتة يصعب إدراكها، بل هي على العكس قوية متينة نحس بها لأول وهلة. ولكن المشكلة هنا تتلخص في كيفية التعرف على أوجه هذه العلاقة وتحديد مصادرها وقنواتها وفصلها عن العلاقة الأدبية القائمة على التقليد والمحاكاة.

العلاقة التاريخ/حضارية علاقة متشعبة النواحي شاسعة الأطراف ليس من السهل الإلمام بها والإحاطة بجميع جوانبها فهي تتخلل الشعر النبطي وتنتشر في جميع أرجائه. التشابه الناتج عن هذه العلاقة بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي تشابه تلقائي، لا شعوري، يمليه تشابه الظروف والمعطيات التي تتكون منها مادة الشعرين. القصيدة النبطية ليست مجرد تقليد ومحاكاة للقصيدة الجاهلية بل هي امتداد لها وهي عملية خلق وإبداع مستجدة تخضع لنفس الأساليب الفنية والظروف الحضارية التي كانت توجه الشعر الجاهلي وتتحكم في شكله ومضمونه. الشاعر النبطي لا يتجشم معارضة قصيدة جاهلية معينة ولا يتكلف تقليد بيت بعينه ولكنه يطرق نفس المهيع ويغترف من نفس المعين ويصدر من نفس الموارد التي استقى منها الشاعر الجاهلي مادته وأغراضه، ومن هنا يأتي اتفاق المعاني وتطابق الصور والتشاكل في البنية والتركيب بين القصيدة النبطية والقصيدة الجاهلية. يلتقي الشعر النبطي مع الشعر العربي القديم على صعيد واحد من الرؤية الإنسانية والحس الفني، وكلاهما صدى لنفس الظروف الطبيعية والاجتماعية. لا تكاد تختلف القصيدة النبطية عن القصيدة الجاهلية في التصور الفلسفي الذي تقدمه تفسيرا لهذا الكون ولحياة الإنسان على هذه الأرض، ولا تختلف عنها في المفاهيم والمثل التي تكرسها لتعطي حياة الصحراء القاسية معنى يعين على تحملها. لو غضضنا الطرف عن الفارق اللغوي بين القصيدة الجاهلية والقصيدة النبطية لأصبح من الصعب أن نفصل بينهما في الشكل والمضمون. كلتاهما صورة للواقع ورصد للأحداث وسجل للقيم التي جعلت من حياة الصحراء بالرغم من شظفها وتقلباتها، حياة تليق بالإنسان.

هذا الكتاب رصد لأوجه العلاقة التي تصل الشعر النبطي بالشعر العربي القديم. إنه تتبع لمسيرة الشعر في وسط الجزيرة العربية وفق حقب متتالية تبدأ من العصر الجاهلي، عصر الفصاحة، حتى العصر النبطي، عصر العامية، بحيث يتضح لنا أن الشعر النبطي هو السليل المباشر والمثال الحي المعاصر لشعر الجاهلية وصدر الإسلام. الشعر الجاهلي والشعر النبطي هما البداية والنهاية لموروث شعري مستمر عبر مراحل التاريخ. تترابط حلقات هذه الحقب الشعرية أحيانا وأحيانا أخرى تنفصم العرى وتبرز الفجوات، كتلك التي تفصل بين آخر نموذج شعري فصيح جمعه الرواة من أبناء البادية الفصحاء وبين أول نموذج وصلنا مما يمكن أن ندخله تحت مسمى الشعر النبطي، مثل أشعار أبي حمزة العامري وشعراء الحقبة الجبرية. تبقى هذه الفجوات كمسائل نظرية وإشكاليات علمية تحتاج منا إلى مزيد من الجهد والبحث لمحاولة ردمها أو فهمها، لكنها لا تنفي العلاقة اللغوية والاستمرارية التاريخية بين الشعر العربي الكلاسيكي والشعر النبطي. أبلغ دليل على عمق العلاقة وتجذرها بين هذين الموروثين الشعريين ما تتميز به علاقتهما من تشعب وتداخل على مختلف الأبعاد والمستويات. تتخذ هذه العلاقة، إضافة إلى صلة اللغة والنسب التاريخي، مسارات أخرى على صعيد الرؤية الثقافية والمضامين الفنية والشكل الأدبي والقاموس الشعري والأوزان العروضية وغير ذلك من المسائل التي سوف نبسط القول فيها في الفصول التالية.

الخطوة التالية والمهمة التي ينبغي لنا الأخذ بها في ضوء هذه العلاقة بين الشعر النبطي والشعر الجاهلي هي التقريب الأكاديمي بينهما على مستوى النظرية والمنهج والتأكيد على أن أي سبق علمي نحققه في فهمنا لطبيعة أحدهما سوف تكون له أبعاد وتأثيرات مباشرة على فهمنا للآخر. وإذا كانت الدواوين الشعرية الوسيلة الوحيدة التي تربطنا بالشعر الجاهلي فإن الشعر البدوي بشكله التقليدي الشفهي المتوارث منذ القدم كان إلى عهد قريب شعراً حياً قوياً ولايزال بعض رواته ومن عاصروا أحداثه وظروفه يعيشون بين ظهرانينا، كما أن القليل من فحوله لايزالون على قيد الحياة. لو تمكنا من دراسة الشعر النبطي في سياقه الأدائي ومحيطه الحضاري لاستطعنا الإجابة على العديد من الأسئلة التي تدور حول الشعر الجاهلي وخصوصاً فيما يتعلق بوظيفته الاجتماعية ودوره السياسي وكذلك طرق نظمه وأدائه وتداوله كتراث شفهي يعتمد على الرواية والسماع لا على الكتابة والتدوين.

ولو عدنا أدراجنا في التاريخ إلى ما قبل العصر الأموي، إلى عصر الجاهلية وصدر الإسلام فإننا لا نلاحظ فروقا لغوية حادة بين لهجات القبائل في جزيرة العرب وبين لغة الشعر الذي كان شعرا شفهيا لم يلعب التدوين دورا يذكر في إنتاجه وتواتره ولم تبتعد لغته كثيرا عن لغة العامة وحياة الناس اليومية. ورغم اتفاق شعر الجاهلية وصدر الإسلام في فصاحة اللغة مع ما سميناه الأدب الرسمي النخبوي إلا أنه يختلف عنه ويتفق مع الشعر النبطي في أنه شعر شفهي غير مكتوب، في أنه شعر شعبي. ويمكنننا الرجوع إلى أدب الجاهلية وصدر الإسلام ليس فقط للبحث هناك عن أصول الشعر النبطي وتتبع جذوره وإنما أيضا للاستفادة من النظريات والمناهج العلمية التي تفتقت عنها أذهان الباحثين العرب الأوائل في محاولاتهم جمع وتوثيق وتفسير الشعر الجاهلي. ومن المعروف أن الأصمعي وأبا عبيدة والكسائي وأبا عمرو الشيباني وأبا عمرو بن العلاء وغيرهم كانت لهم مناهج في جمع المادة الشفهية لا تختلف كثيراً عن مناهج علماء اللغة والفلكلور المحدثين.

لا شك أن علماءنا الأوائل كانوا واعين ومدركين لحياة البادية بكل تفاصيلها. لكن بعد مضي السنين وانتقال مراكز الخلافة إلى دمشق ثم إلى بغداد ثم تفرقها في مختلف العواصم الإسلامية حتى الأندلس ابتعد المهتمون بالأدب العربي عن منابعه الأولى لأن الصحراء العربية انعزلت تماما عن بقية العالم الإسلامي وضربت الفوضى فيها أطنابها وانتكست فيها الحياة السياسية وانعدم الأمن وعادت القبائل إلى ديدنها في الغزو والغارات على بعضها البعض. ومنذ ذلك الوقت انقطعت رحلة الطلب، طلب العلم، التي كان يقوم بها العلماء لجمع الشعر واللغة واللذين منعهم الخوف من التوغل في الصحراء. فأصبح النقاد يكتبون عن الأدب العربي القديم عن بعد ويرددون مقولات من سبقوهم، وأحيانا دون تدبر، وتكونت لديهم أفكار بعضها صحيح وبعضها خاطئ. أما الآن فإن الفرصة أصبحت متاحة لنا للذهاب إلى مضارب البادية لدراسة الواقع هناك والتحقق من بعض القضايا المتعلقة بالأدب العربي القديم. إن جمع وتوثيق الشعر النبطي كتقليد ينبض بالحياة ودراسته على أسس علمية سوف تفتح لنا آفاقا رحبة للريادة العلمية والاستكشاف وسوف يتمخض عنه مقتربات منهجية وأطر نظرية جديدة وسوف تتفرع عنها مواضيع تكون منطلقا لدراسات أخرى ويكون لها مردودات بالغة الأثر وبشكل قد لا نتصوره الآن على مجالات البحث الأخرى في حقل الدراسات الانسانية والاجتماعية.

حينما بدأت مثلاً حركة جمع نصوص الشعر الجاهلي بدايات بسيطة لم يكن الرواد الأوائل يتصورون التفجر المعرفي الهائل الذي نتج عنها. فقد ألفت المعاجم اللغوية والكتب الكثيرة عن أيام العرب وأنسابهم وديارهم ومواردهم وعن نباتات الصحراء وحيواناتها وتضاريسها، وغير ذلك من المواضيع التي بدأت كحواشي لتفسير الشعر الجاهلي ثم استقلت فيما بعد وأصبحت مواضيع قائمة بذاتها. ولو نظرنا إلى ما بين أيدينا من دواوين الشعر الجاهلي وصدر الإسلام لوجدنا أن علماءنا قد بذلوا جهوداً علمية لا تضاهى، ليس فقط في جمع هذا الشعر وتحقيقه، بل أيضاً في شرحه والتعليق عليه. حتى أن هذه الدواوين والشروح أصبحت تكون في مجموعها -بالإضافة إلى الشعر- مباحث لغوية وأدبية وإثنوغرافية قيمة ومصادر أساسية من مصادر دراسة جغرافية الجزيرة وتاريخ العرب ومجتمعهم وثقافتهم في الجاهلية وصدر الاسلام. انظر مثلاً إلى شرح نقائض جريرو الفرزدق لأبي عبيدة، وشرح نقائض جرير والأخطل لأبي تمام، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي وكذلك المرزوقي، وشرح المفضليات لابن الأنباري، وديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، وديوان زهير صنعة أبي العباس الشيباني، وديوان طرفة شرح الأعلم الشنتمري، وشرح ديوان الهذليين صنعة السكري، وشرح القصائد السبع الطوال للأنباري، وشرح القصائد التسع المشهورات صنعة أبي جعفر النحاس، وكذلك الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغير ذلك كثير.

هؤلاء العلماء الأجلاء لم تتأت لهم هذه العلوم الجمة والمعارف الغزيرة إلا بشد الرحال، وتكبد مشاق السفر في المفازات والصحاري الشاسعة بحثاً عن حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع من العرب الأقحاح، ليستقصوا أخبارهم، وليدونوا ما يتلفظون به من شعر ولغة. فلقد تكبدوا المشاق وجابوا الفيافي والقفار، في سبيل جمع هذا الشعر من مظانه، وتفسير ما استغلق عليهم من معانيه وألفاظه، واستقصاء ما تضمنه من أيام ووقائع. وكانت النتيجة أن خلفوا لنا أثراً علمياً وثروة أدبية تتجدد قيمتها أبدا ونعتز بها على مدى العصور.

أصبح العمل الميداني في عصرنا هذا يحتل موقعا متقدما وهاما في الدراسات اللغوية والفلكلورية والإثنولوجية. ويكاد يجمع علماء الفلكلور على أن العمل الميداني من مستحدثات القرن العشرين وأن أول من زاوله المتخصصون بالدراسات اللغوية والانثروبولوجية في أوروبا وأمريكا. ويغيب عن أذهان الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية أن علماء العرب الأوائل كانوا قد مارسوا العمل الميداني منذ ثلاثة عشر قرناً وأن علم اللغة والأدب عند العرب قد قام في بدايته على جمع وتدوين الشعر الشفهي والأخبار المتوارثة من أفواه الرواة والإخباريين في البادية. لو استعرضنا جهود العرب الأوائل في مجال جمع اللغة العربية والأدب الجاهلي من المصادر الشفهية لوجدنا أن هذه المادة اللغوية والأدبية لا تخرج في طبيعتها عما نسميه في وقتنا الحاضر بالمأثورات الشفهية، وأن مناهج علماء العرب في جمع هذه المادة وتدوينها لا تختلف كثيراً عن المناهج التي يتقيد بها علماء الفلكلور واللغة المعاصرون. ويمكننا أن نقول ذلك أيضاً عن جهود العلماء في جمع الحديث الشريف والتاريخ والأنساب وغير ذلك من المعارف والمأثورات التي تتعلق بحياة العرب والبادية في الجاهلية وصدر الإسلام. لو تفحصنا كل هذه الشواهد لخرجنا، حسب ما أعتقد، في دراساتنا الشعبية بمنطلق صلب لإيجاد رؤية نظرية ومنهجية تتفق مع واقعنا الاجتماعي وتاريخنا الحضاري.

السؤال الآن هو: أليس حرياً بنا أن نقتفي أثر أسلافنا فنحذو حذوهم وننهج نهجهم في جمع وتدوين الشعر النبطي ودراسته؟ أي لماذا لا نتبع الأسس النظرية، والأصول المنهجية التي ابتدعها الأسلاف لدراسة المأثورات الشفهية لا سيما الحديث الشريف والشعر واللغة ونسترشد بها في عمليات الجمع الميداني للشعر النبطي؟. إننا بذلك نبني جسرا منهجيا بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي يضاف إلى الروابط القائمة بينهما بحكم تداخلهما مادة وشكلا.

المختصون عندنا في الأدب واللغة، وخصوصا المختصون في فترة الجاهلية وصدر الإسلام، لا يولون أي اهتمام لدراسة مجتمع البدو وثقافتهم وحياة الصحراء بما فيها من لغة وأدب وشعر وغزوات وفرسان ومشائخ وقبائل. ألا يدرك هؤلاء أن هذا هو المفتاح لفهم حقيقة الأدب العربي والحياة العربية في عصورهما القديمة! النتائج التي نتوصل إليها عبر هذا الطريق ستهدينا وتنير لنا سبل البحث عما كانت عليه الحياة العربية في عصور الجاهلية وصدر الإسلام. إن كثيرا من القضايا النظرية والأسئلة الملحة في الأدب الجاهلي لن نتوصل إلى حلها إلا بالنظر إلى أدب البدو وثقافة الصحراء في وقتنا الحاضر عن طريق العمل الميداني. لقد أصبح العمل الميداني من أساسيات البحث العلمي في عالمنا المعاصر. لو أنيطت بي مسؤولية إعداد مناهج الأدب العربي واللغة العربية في جامعاتنا لعملت جاهدا على ألا يمنح المتخصصون في الأدب العربي القديم شهاداتهم العليا ما لم يمضوا فترة طويلة في الصحراء ليدرسوا طبيعتها وثقافتها ومقتضيات الحياة فيها والنظام القبلي والذهنية الشفهية والتاريخ الشفهي وطريقة الرواية الشفهية في الشعر والقصص. هذه نظرة منهجية جديدة كفيلة بأن تبعث شيئا من الحيوية في دراساتنا الأدبية.

إنه لأمر مدهش أن تثار مسألة الانتحال في الشعر الجاهلي ولا يفكر المختصون بالرحلة إلى بادية الجزيرة العربية ودراسة شعرها وأدبها لتعميق الرؤية العلمية حيال هذه المسألة. ولم تكد تهدأ الزوبعة التي أثارها مارجوليوث وطه حسين حول قضية انتحال الشعر الجاهلي حتى جاء بعض المستشرقين في الآونة الأخيرة ليطبقوا على الشعر الجاهلي نظرية باري ولورد التي ألمحنا لها سابقا والتي شاعت مؤخرا في الأوساط العلمية في بلاد الغرب. كان العالم الأمريكي ملمان باري مهتما بدراسة ملاحم الإغريق. وقد لاحظ من خلال دراسته أن بعض المقاطع والصيغ اللفظية يكثر تردادها في هذه الملاحم لدرجة تسترعي الانتباه. ولفهم الوظيفة الفنية لهذا التكرار قام باري برحلة إلى يوغوسلافيا لدراسة الشعر الملحمي هناك، والذي كان آنذاك ما زال تقليدا حيا، حيث أن الأدب الملحمي كان قد انقرض في بلاد الإغريق. ولاحظ باري أن التكرار له وظيفة أساسية في نظم الملحمة التي قد تصل إلى آلاف الأبيات. فالشاعر -وهو في الغالب أمي- لا يحفظ الملحمة وإنما يحفظ ما تتضمنه الملحمة من أحداث، كما يحفظ عبارات وصيغاً لفظية جاهزة يستخدمها لينظم ملحمته بسرعة "على الطاير" أمام المستمعين. أي أن عملية النظم تتم أثناء عملية الأداء أو الإلقاء وليس قبلها، كما هي العادة في الشعر المكتوب. لذا فإن كل مرة يؤدي فيها الشاعر ملحمته يترتب على ذلك نظم نص جديد للملحمة يختلف عن النصوص التي ألقاها الشاعر لنفس الملحمة في أداء سابق أو التي سيلقيها في أداء لاحق. بعبارة أخرى، فإن نص أي ملحمة لا يختلف فقط من شاعر لآخر، بل حتى من أداء لآخر عند نفس الشاعر. ونتيجة لذلك فإنه لا يجوز لنا أن نفترض أن الملحمة لها نص أصلي معتمد حيث أن القصيدة الملحمية بطبيعتها تتميز بالتغير المستمر وعدم الثبات. فالشاعر لا يحفظ نص الملحمة عن ظهر قلب ويعيده طبق الأصل حين يؤديها أمام المستمعين، بل يعمد دوما إلى إبداع الملحمة من جديد مراعيا في ذلك سياق الأداء والزمن المتاح وورغبة الجمهور ونوعيتهم، وقد لخص نظرية باري تلميذه ألبرت لورد في كتابه The Singer of Tales.

وقد تحمس الكثير من الباحثين لتطبيق هذه النظرية على الشعر الشفهي بجميع أجناسه وفي مختلف المجتمعات. كما حاول اثنان من المستشرقين هما مايكل زويتلر Michael Zwettler وجيمز مونرو James Monroe تطبيق هذه النظرية على الشعر الجاهلي. وبما أن الشعر الجاهلي شعر شفهي يتسم بتكرار العبارات والصيغ اللفظية ويتسم باختلاف واضح بين نصوص القصيدة من مصدر لآخر، لذا يرى زويتلر ومونرو أنه لا يجوز لنا أن نتصور أن هناك نصا أصليا ثابتا لمعلقة امرئ القيس مثلا، كما لا تصح نسبة هذه القصيدة لهذا الشاعر.فكل من روى هذه القصيدة هو في واقع الأمر مؤلف جديد لنص جديد، إذ ليس هنالك نص أصلي ولا مؤلف أصلي لتلك القصيدة. ويمكن قول ذلك عن جميع القصائد الجاهلية. ولم يأخذ زويتلر ومونرو في الحسبان الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الملحمي من حيث البنية الفنية والوظيفة الاجتماعية وأنهما جنسان أدبيان مختلفان عن بعضهما البعض تمام الاختلاف ولا يمت أحدهما للآخر بأي صلة أو نسب. الدرس الذي كان يمكن أن يستفيده زويتلر ومونرو من نظرية باري ولورد هو أننا عن طريق توظيف المنهج المقارن نستطيع أن نعكس النتائج التي نتوصل إليها من دراستنا لتقليد شعري حي نابض على سلفه المنقرض أو على الأقل على شعر ينتمي إلى نفس الجنس الأدبي. ومن هنا كان الأولى دراسة الشعر النبطي لفهم الطبيعة الشفهية للشعر الجاهلي وكيفية نظمه وأدائه وحفظه وتداوله.

أعلي

<< الصفحة السابقة  |  الشـعر النبـطي  |  الصفحة الرئيسية  |  الصفحة التالية >>