الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

المرأة في المجتمع البدوي كما يصورها الأدب الشعبي

 

إن التغير الجذري والسريع الذي يمر به مجتمعنا المعاصر تكاد رياحه تطمس من الأذهان صورة الأمس القريب ولا تترك من آثار الماضي سوى خطوطاً باهتة الألوان يصعب تحديد معالمها والتعرف عليها بدقة. ذلك مما يجعل دراسة تاريخنا الثقافي والاجتماعي أمراً ملحاً لا ينبغي التهاون فيه حتى لا يصبح هذا التاريخ أثراً بعد عين. والمواضيع التي يمكن دراستها والبحث فيها ضمن هذا الحقل الواسع كثيرة متشعبة ولعل موضوع المرأة واحد من أهمها. كيف كان وضع المرأة في السابق وما هو دورها في المجتمع؟ ما الأعمال والنشاطات التي كانت تمارسها؟ كيف كانت تربي أطفالها وتغني لهم وتعتني بصحتهم؟ كيف كانت علاقتها بالرجل وبغيرها من النساء؟ وماذا عن الحلي والأزياء التي كانت ترتديها؟ ما هي الألعاب التي كن يلعبنها الفتيات وما هي الأناشيد والأهازيج التي كن يغنينها أثناء اللعب أو أثناء العمل أو أثناء المناسبات العامة والخاصة كالأعياد والأعراس؟ وما الفرق في ذلك كله بين المرأة في الحاضرة وأختها في البادية؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي لو استقصينا البحث فيها وفصلنا الإجابة عليها لاستغرق ذلك منا العديد من المجلدات الضخمة.

والوثائق المكتوبة التي يمكن أن تشفي الغليل وتروي صدأ الباحث في هذا الصدد لا تكاد تكون موجودة لعدة أسباب. فالمصادر الخطية التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية وأوضاعها العامة قبل عصرنا الحديث نادرة جداً وإن وجدت فإنها كلها خطت بأقلام رجال ما منهم من نظر إلى المرأة وشئونها كموضوع جدير بالتقصي والتدوين. وكلنا نعرف أن التعليم في الجزيرة العربية وإلى عهد قريب كان وقفاً على الرجال دون النساء، وليس على كل الرجال بل على فئة قليلة جداً منهم وكان قاصراً على أمور الدين دون أمور الدنيا. وها قد تبدلت الحال ولله الحمد وصرنا نرى الفتاة الجامعية تجاري أقرانها من الطلاب في المسيرة الأكاديمية وتبزهم في التحصيل العلمي. وإننا نتطلع إلى اليوم الذي تترجم فيه المرأة تحصيلها العلمي إلى مشاركة فعلية وتفرض وجودها فكرياً وإبداعياً واجتماعياً وأن تأخذ بزمام المبادرة في التحدث عن شئونها والتعبير عن همومها. وليس كالمرأة المتعلمة ترجمان لقضايا المرأة ومعبر عن شئونها وشجونها. وإننا لنعقد آمالاً كبرى على الفتيات المثقفات والمفكرات أن يجندن أقلامهن للبحث في قضايا المرأة ودراسة وضعها والدفاع عن حقوقها. فأنا كرجل يجوز لي أن أعد نفسي متطفلاً في الحديث عن المرأة وكان ينبغي أن أترك موضوع المرأة للمرأة كي تتحدث فيه. ولكن كما يقول المثل الشعبي "تلهى بام شوشه حتى تجي المنقوشه".

لو أردنا أن نتقصى وضع المرأة في مجتمعنا في العصور السابقة ما من مراجع نرجع إليها سوى صدور المسنين من النساء والرجال وما يختزنونه في الذاكرة من معلومات شفهية عن تلك الأيام الخوالي. ولكن إذا ما أردنا أن نلجأ إلى هذه الطريقة فلا بد من المسارعة في التنفيذ قبل أن تطوي اللحود ما تبقى منهم على قيد الحياة ويدفن معهم تحت التراب ما تختزنه صدورهم من أخبار وحكايات. ولنا أن نتصور الكم الهائل من المعلومات التي يمكن الحصول عليها لو أن كل فتاة متعلمة أمضت بضع ساعات من وقت فراغها لإجراء مقابلات مع أمها أو جدتها أو عمتها أو خالتها تسألها عن حياة المرأة في الماضي وعن شئونها الخاصة والعامة؟ ياحبذا لو أن مراكز الدراسات الجامعية للبنات في جامعاتنا قدمت مادة متخصصة وليكن موضوعها "شئون المرأة" أو ما شابه ذلك لتدريب الطالبات على معالجة موضوع المرأة ودراسة قضاياها في الماضي والحاضر. ومثل هذه الدراسة لا يقصد بها المفاضلة بين وضع المرأة في الماضي ووضعها في الحاضر فلكل زمن مقاييسه ومعاييره ولكل عصر قيمه وتقاليده ولكن دراسة الماضي تساعدنا على فهم الحاضر ومعطياته.

المرجع الآخر الذي يمكن اللجوء إليه لاستكشاف وضع المرأة في مجتمعنا في الأزمنة السابقة هو الأدب الشعبي. والأدب الشعبي وإن كان مصدراً غير مباشر إلا أنه مصدر أساسي يضيء جوانب هامة فيما يتعلق بوضع المرأة في مجتمعنا التقليدي. ودراسة الأدب الشعبي لهذا الغرض يمكن أن تتخذ مسارين أحدهما دراسة صورة المرأة في الأدب الرجالي والأخرى دراسة الأدب النسائي كوثيقة فنية واجتماعية. وبالمناسبة هناك شاعرات شعبيات لا يقل إنتاجهن في قيمته الفنية عن قصائد الخنساء وليلى الأخيلية وغيرهما من الشاعرات العربيات، وهذا ما سنتحدث عنه بعد قليل بشيء من التفصيل.

وحينما أتحدث عن دراسة صورة المرأة في الأدب الرجالي فإنني لا أقصد الغزل فقط وكذلك لا أقصد الشعر فقط، بل السوالف والأمثال وغيرها من الأجناس النثرية وغالباً ما تلعب الشخصيات النسائية دوراً بارزاً في الحكايات التي يتناقلها الرجال في مجالس السمر وتعبر عن رأيهم في المرأة ودورها في المجتمع كأم وأخت وبنت وزوجة وعشيرة وصاحبة رأي سديد وكلمة نافذة. والشيء الملفت للنظر لمن يتصفح أدبنا الشعبي هو الحضور المكثف للمرأة في هذا الأدب ودورها البارز في المجتمع، وخصوصاً في المجتمع البدوي. وقصص العشق وحكايات الغرام التي تجمع بين الواقع التاريخي والخيال الأسطوري أكثر من أن نحيط بها أو نحصيها ولن نتوقف عندها هنا إلا فقط لنذكر بنماذج منها مثل قصة عليا وأبي زيد وقصة ليلى وجري وكذلك قصة بداح العنقري الحضري مع الفتاة البدوية التي قال فيها قصيدة منها:

              وراك تزهد يااريش العين فينا                تقول خيّال الحضر زين تصفيح

              البدو واللي بالقرى نازليـنا                  كلٍ عطاه الله من هبّة الريح

ومن المواضيع التي تطرق لها الشعراء تحليل طبائع النساء وتصنيفهن والخوض في صفاتهن المحمودة والمذمومة. واشتهر بعض الشعراء مثل حميدان الشويعر في هذا المضمار إدراكاً منهم بأن الرجل لا تستقيم أموره ويصلح شأنه بدون إمرأة صالحة ترعى بيته وتساعده في تنشئة أبنائه وتنظيم حياته. وحرصاً منهم في الزمن السابق على أن يرزقهم الله بالذرية الصالحة والأبناء النجباء كان الواحد منهم يطمح أن تكون زوجته وربة بيته وأم أبنائه من العوائل الكريمة التي يتحلى رجالها ونساؤها بكرم المحتد ونبل الخلق وشرف النسب.

              أشقر ذوايب عذّبك                            وأغواك نقّاض الجعد

              بنـت الردي لا تـاخذه                      يجيك مثل ابوه ولد

هذا يوضح لنا أهمية دور المرأة كزوجة تقوم على شئون البيت وكأم ترعى الأطفال وتربيهم التربية الحسنة. وهذا الأمر من الوضوح ومن الشيوع بحيث لا أظنه بحاجة إلى برهان ولا إلى إيراد ما يتعلق به من أشعار وحكايات أسطورية وحقيقية.

وعلى عكس ما قد يتوهمه البعض لم يكن الرجل في الزمن السابق ينظر إلى جمال المرأة فقط أو إلى أنها مجرد وسيلة للإنجاب ورعاية شئون البيت، بل كانت بالنسبة له رفيقة العمر وشريكة الحياة وصاحبة الرأي السديد والمشورة الصائبة وكانت علاقتها مع زوجها تقوم على إخلاص الود والاحترام المتبادل. ولم يكن المجتمع آنذاك يعيب على الرجل أن يعبر صراحة عن حبه لزوجته واحترامه لها واستشارتها وتقديره لرأيها إذا كانت أهلاً لذلك. وكم من الشيوخ والأمراء رثوا زوجاتهم بعد رحيلهن إلى الرفيق الأعلى بأبيات تفيض حزناً وتقطر أسى وتعبر عما يحسون به من ألم نفسي وفراغ روحي ووحدة ووحشة بعد وفاة الزوجة. ومراثي الشيخ نمر بن عدوان في زوجته وضحاء أشهر من أن نحتاج إلى تفصيل القول فيها هنا. ومن الشيوخ الذين اشتهرت مراثيهم بزوجاتهم محمد المهادي ومتعب بن جبرين وكذلك محمد بن فهيد في زوجته مطيرة وغيرهم وغيرهم. وللشريف جباره بعد أن انتزح عن أهله وبلاده قصيدة يتذكر بها أبناءه شبيب وأحمد ويتذكر زوجته ووفاءها له وقيامها بالواجب نحوه ونحو أولاده:

              أسل ليت علمٍ عن شبيب وعن أحمد             الأولاد للقلب الشقي أثمار(1)

              هم الخير وهم الشر والفقر والغنا                وربحٍ وفيهم من يكون خسار

              الأولاد فيهم من جلى الهم شوفه                 والاولاد فيهم مطلق وثبار(2)

              بالاولاد من هو رافع ٍ قدر والده                وبالاولاد من يوريه دار حقار

              خلّفتهم في حجر بيضا عفيفه                    كساها من الدل الجميل وقار

              هذيليّــةٍ من روس قومٍ عنابر                 من منسبٍ عالي وطيب جوار(3)

              صبور على عوباي ما يندرا بها                إلى مِـــّر كبدي بالمغوضه فار(4)

ولم يكن يقتصر دور المرأة في السابق على بيتها بل كانت تشارك في الحياة العامة. وكم من المواقف البطولية والإنسانية التي سجلت فيها المرأة شجاعة نادرة وبصيرة ثاقبة وبُعد نظر وأثبتت أنها تشارك الرجل وتجاريه في المنزلة الاجتماعية واحترام الناس وتقديرهم. ومن قصص البطولة التي يتداولها الرواة في الصحراء العربية والتي تلعب فيها المرأة دوراً أساسياً قصة ماجد الحثربي مع ابن عمه مفوز التجغيف والتي مؤداها أن مفوز قتل رجلاً كان قد لاذ بحمى ماجد. وبحكم الرابطة القبلية التي تربط بينهما فقد تردد ماجد في قتل مفوز والثأر لدخيله إلا أن أم ماجد آلت إن هو لم يثأر لدخيله ويغسل العار فسوف تقطع ثديها الذي غذاه. وحينما نفذ ماجد وصية أمه لم يجد من يجيره من جماعة مفوز وبطشهم إلا عجوزاً من بيت آل السويط من مشائخ قبيلة الظفير. وقد خلد فعل هذه العجوز اسم بيت آل السويط في التاريخ القبلي واشتهروا بحمايتهم للمستجير(5).

وهناك قصة ثامر بن سعيده وهو لص فاتك من قبيلة بني رشيد مع فرحان الأيدا أحد شيوخ عنزه والذي نذر أن يقتل ثامر لو ظفر به لما جر عليهم من الخسائر وترويع الأمن. وفعلاً وقع ثامر في يد فرحان الذي استل سيفه ليقتله إلا أن ثامر استطاع أن يفلت من يد جلاده ولجأ إلى بيت أم فرحان مستجيراً بها من إبنها الشيخ وكانت عجوزاً شمطاء تقوم على العصا. ودلف فرحان مسرعاً إلى بيت أمه شاهراً سيفه في إثر فرحان إلا أن ذهن العجوز تفتق عن حيلة ذكية وقامت بحركة رمزية بارعة استطاعت بها أن تنقذ حياة ثامر حيث أخرجت ثديها المتجعد وألقمته بسرعة في فم ثامر على مرأى من إبنها الذي وجهت إليه نظرات كلها شجب واستنكار وصاحت به منددة "لقد أصبح أخاك، وهل يقتل الأخ أخاه؟" فتراجع فرحان وسقط السيف من يده.

ويصعب حصر المواقف والأشعار التي قالها نساء يحرضن أقوامهن ويستصرخنهم لإحقاق الحق ودفع الظلم ورفع الحيف والتقيد بالشيم العربية. والكثير من أشعار العرضة والأشعار الحربية والحماسية قالها نساء. وحينما يتخاذل الرجال عن أداء الواجب أو يتقاعسوا عن مجابهة العدو تنبري النساء لشحذ هممهم والإهابة بهم، بل والتشنيع بهم إذا لم يستجيبوا للنداء والتشهير بهم إذا جبنوا أو بخلوا. ومن القصص المشهورة في هذا الباب قصة ابنة الشبرمي. والشبرمي هذا من أعيان قرية سميرا في جبل طي التجأ إليه بعض الغزاة ليجيرهم من أهل الإبل التي نهبوها. وكان أهل الإبل قد جدوا في طلب الغزاة حتى أدركوهم في سميرا ولكن بعد أن لاذوا بحمى الشبرمي. وطلب أهل الإبل من الشبرمي أن يسلمهم الغزاة وما نهبوه من الإبل وكاد أن يفعل لولا أن ابنته والتي كانت من وراء الجدار تسمع ما يدور بين أبيها والقوم من جدل ضربت عليه الجدار ولما ذهب ليرى ما تريد رمت إليه بأبيات تحثه فيها على حماية من استجاروا به وتذكره بعادات العرب الحميدة في إجارة المضيوم وإغاثة الملهوف. واستجابة لمناشدة ابنته أعاد الشبرمي الإبل لأصحابها ولكنه رفض أن يسلم لهم الغزاة. ومن أبياتها تقول:

              بعذر السحاب ولو تزّبر ولا هل                وبعذر والي العرش لو ما سقانا

              أخذ الدخيل وزابن البيت ما حل                 لولاه يامن جالنا ما نصانا(6)

              المرّه الاخرى يجنّب إلى ذل                    يلقى الدروب مفتّحاتٍ حْذانا(7)

              تحزّموا يالغوش تر ما لكم دل                  لو مرشدٍ حَيٍ بسيفه حمانا(8)

وفي الحروب تلعب النساء دوراً بارزاً في تشجيع المحاربين وشحذ الهمم. فحينما تخوض القبيلة معركة حاسمة تركب أحد الفتيات، وغالباً ما تكون فتاة بكراً من بنات أحد المشائخ وتدعى العطفة أو العمّارية، في ما يسمى المركب أو المظهور وهو أشبه بالهودج تعلوه الزينات وريش النعام. تركب الفتاة هذا المركب وقد نشرت شعرها ورفعت الحجاب عن وجهها ولبست أبهى حللها تقود فتيان القبيلة إلى ساحة الوغى تشجعهم بالزغاريد والأهازيج الحماسية. ويستميت المحاربون في الذود عن المركب وصاحبته التي ترمز إلى شرف القبيلة وعزتها ومنعتها ويعتبر التخلي عنها عاراً كبيراً. ومن المعروف أن قبيلة الروله لا يخوضون معركة حاسمة إلا والمظهور يتقدمهم. ويسمون المظهور "أبا الدهور" إشارة إلى أنه منذ قديم الدهر لم يستطع أحد من الأعداء أن يستولي عليه مما يدل على قوة القبيلة وشجاعة أبنائها. وفي معركة َملَح بين الإمام عبدالله الفيصل وبين قبيلة العجمان برئاسة راكان بن حثلين كانت تتقدم العجمان سبعاً من العمّاريات(9). كما اصطحب العجمان عمّارياتهم في معركة الصريف التي وقعت بين الشيخ مبارك بن صباح والأمير عبدالعزيز المتعب الرشيد(10). وفي موقعة جراب كانت الفتيات الشمريات في المقدمة تحث القوات الرشيدية وتستنهض همم المقاتلين بالأناشيد الحماسية مثل قول إحداهن:

              وين أنت ياناطح الغاره                       في ساعةٍ ما بها نوم

              يوم الدخن خالط ْغباره                       تبيّن الحر والبوم

              ياحيف ياغدفتي طاره                        انخى النشاما هكاليوم(11)

              لومي على غوش سنجاره                    ما لي على غيرهم لوم(12)

وهذا يذكرنا بالأهازيج التي كانت ترددها هند بنت عتبة في غزوة أحد مثل قولها:

    ويها بني عبد الدار ويها // وبها حماة الادبار   // ضرباً بكل بتار

وقولها:

              أن تقبلوا نعانق                              ونفرش النمارق

              أو تدبروا نفارق                             فراق غير وامق

ومن أيام العرب المشهورة في العصور المتأخرة وقعة حدثت بين قبيلتي قحطان ومطير ويدعى ذلك اليوم سلبة الدحملية والدحملية لقب موضي بنت ابن شقير من قبيلة مطير والتي كانت في المركب ذلك اليوم لتشجع بني قومها. وفي تلك المعركة يقول الشاعر عوير بن طلمس العازمي:

              نطعن لعين اللي تصيح وتنخا                  ومغورقاتٍ بالدموع حْجورها

              منبوزة الأرداف هافية الحشا                   بنت الشيوخ مضيّــفة بعسورها(13)

              ما نيب كاميها تراها موضي                   الدحملية كنها من حورها(14)

وبعد مدة تقابلت قحطان ومطير على أرض المعركة مرة أخرى في موقع يسمى دخنة وفي تلك المعركة قتلت فرس مطلق بن الجبعا من شيوخ مطير فقال قصيدة يرثيها منها:

              لي واحسايف سابقي ياهل الخيل                يازينها لي جت تباري المطيّة

              حَذَفتها في هوشةٍ كنها الليل                     كلّه لعيني صيحة الدحملية

              خذنا العوض فيها خيار الرجاجيل              حامي عقاب الخيل ذيب السرية

              خذنا حزام مورّد الخيل حلحيل                 ِخلّي طريح وزار حوض المنية(15)

ومنذ حوالي مائة وعشرين سنة تقابل الأمير سعود بن فيصل بن تركي مع قبيلة عتيبة على ماء يسمى طلال وجرت بينهم وقعة عظيمة. وفي تلك المعركة قال الشاعر الفارس شليويح العطاوي العتيبي قصيدة طويلة منها هذه الأبيات التي ينوه فيها بدور عطفتهم وكان اسمها مضاوي:

              لا رحم أبو من صد عن محرافها               من يوم طار الستر عن مضاوي

              نطعن لعين اللي تهل دموعها                   تبكي وفي تال البكا نخاوي

              تقول يالظفران من عاداتكم                     هوشوا عسى يبقى لكم شلاوي(16)

              تطلّعن ياالبيض في مركاضنا                   وصلت كسايرهم إلى الجــرذاوي

ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائد الحماس إلى إشارة تفيد بأن الفارس يستمد شجاعته من فتاة الحي يستبسل من أجلها ويطعن لعينيها ليحوز على إعجابها وأنه دوما على أهبة الاستعداد لأن يرخص حياته ويبيع عمره غيرة على عفتها وذودا عن عرضها. مثل ذلك قول قاسي بن عضيب بن حشر القحطاني:

              لي واجوادي تِلْحق اللي مقافي                   لي حلّ بأطراف السبايا منوع(17)

              توايقن من فوق مثل الطخاف                   يرمن بأصوات ٍ صلاب ٍ رتوع(18)

              تلع الرقاب معسّلات الاشافي                    لجّن لجيج الخلج تبغى البتوع(19)

              رمن على عوج الحني ّ الغداف                  توايقن يبغن ِمنّـا الوقوع(20)

ويقول محمد بن هادي حينما طلب منه الشريف أن يبيعه جواده:

              ياالعبدلي لا تكثر السوم بالغوج                  لو كان طارينا الثمن كان بعناه(21)

              شَفّي عليه بْرَدّةٍ والغلب عـوج                  لي حل باطراف السبايا مثـاراه(22)

              وأن لجلج المجمول فوق الحني عـوج ذهل الغطا واهل الرمك قام ينخاه(23)

ويقول عبيد العلي الرشيد حينما طلب منه البيه أن يبيعه جواده المسمى كروش:

              يابيه انا لكروش ما اعطي ولا أبيع             قبلك طلبها فيصلٍ وابن هادي(24)

              باغـن ليا من سعّطوها المصـاريع            وصاح الصياح وثار عج الطراد(25)

              اصلّهــا لعيـون بيـضٍ مفـاريع            فوق الحنايا والسبايا عوادي(26)

وفي الأهازيج الحماسية وأغاني العرضة وفي أحادي الخيل التي يرددها الفرسان أثناء عمليات الكر والفر وفي حلبات النزال نجدهم دوماً يقرنون الحب والفروسية. يندفع الفارس إلى ساحة الوغى مدلا بشجاعته لا يهاب الموت لا لشيء إلا ليحوز على إعجاب صبايا الحي.

يقول راكان ابن حثلين في أحدية له:

              ياسابقي ما من مطير                             جمعين والثالث بحر

              والله لابوج لها الطريق                           لعيون برّاق النحر

ولقد ارتبطت الفروسية عندهم بقيم ومفاهيم منها أن الفتاة الحرة الكريمة الجميلة لا يستحقها إلا الفارس المغوار والرجل الأريحي. وكثيراً ما نسمع الشاعر يخاطب ممدوحه قائلاً "ياشوق موضي جبينه"، "ياشوق جالي عذابه"، "ياشوق ضافى العكاريش"، "ياشوق من تدعج العين"، "ياشوق من قرنه على المتن منثور"، "ياشوق من تزهى المشانيف والطوق" يقول خلف الاذن مفتخراً:

              إن ِقدّم المركب وعنده حَقلنا                       كم راس شيخٍ عن متونه نشيله

              ما ننعشق للبيض لو ما فعلنا                      ولا ِتلّكد بعقوبنا كل اصيله(27)

ويقول فريح بن عقاب العواجي:

              إن كان ما ليّنت بالحبل ِليّه                       ما ني عشير اللي نهوده مزابير(28)

              إن ما نطحت الخيل يحرم عليّــه               واحرم من الفنجال وصط الدواوير(29)

وكثيراً ما نجدهم في أغاني العرضة والأناشيد الحماسية يحذرون الفتيات من الاقتران بالجبان والبخيل وأوباش الرجال والأنذال. وهذه القيم تتكرر في المراثي والقصائد الغزلية كما سنرى فيما بعد. والفتاة لا تريد زوجاً ولا عشيراً إلا من يكون شجاعاً وسخياً. تقول إحداهن:

              ياراكب فوق لحّاقــه                            حمــرا تقل واشعـه دم(30)

              اسـلم وسـلّم علــى شفاقه                     اللاش لا يرسلــه يمي(31)

              حلفـت انا ما اخذ العاقه                          لـو آكل العمر عنـد أمـي(32)

              الا لمـن يحتـمى الساقه                         لي درهم الجــيش والتــم

وإعجاب الفتاة بالفارس جانب واحد من جوانب الفروسية. أما الجانب الآخر فهو الذود عن المحارم. ومسألة العرض عند العربي أمر معروف لا يحتاج منا هنا إلى تفصيل. والنخوة عندهم هي أن يكتني الفارس المعتد بشجاعته وسطوته بأخته وينتخي باسمها ويزأر بأعلى صوته "أنا أخو فلانة" وذلك في المواقف الحرجة وفي النزال ومقارعة الأبطال. وكل فارس مشهور له نخوة معروفة مثل "أخو نورة"، "أخو سعدى"، "أخو نمشة" وهكذا. والرجل حينما يقصده المستغيث أو صاحب الحاجة وينخاه قائلاً "تكفى يااخو فلانة" فإنه يغيثه ولا يرد له طلباً. وأخت الرجل الشجاع يتسابق الناس لخطبتها، على عكس أخت الذليل والبخيل. لذلك نجد الأخت تفخر بأخيها وتحثه على الشجاعة ومكارم الأخلاق. تقول إحدى نساء البادية ترثي أخاها وتمتدح أفعاله:

              أخوي ِمْظهر عزوتي بالمحاضير                 والبيض غيري خافياتٍ ضواها(33)

              أخوي وإن تاه الدليلة عن البير                    يورّد الركب الجهاجيل ماها(34)

              وإن لحقت الفزعه سواة المظاهير                 يرمي لعكفان المخالب عشاها(35)

وتقول أخرى:

              أخوي مظهر عـزوتي بالــطراد               مع كل ركبٍ ثوّر اسمي يبــاريه

              أخوي إلى منّه حداني حـوادي                   جاب الركاب وجاب زمله يباريه

              واجتاب ليّ حمراً عليه الشداد                     نهار غِب الكون تلعب غداريه

هذه الأشعار توضح لنا تغلغل قيم الفروسية في الذات العربية ودورها الهام في تشكيل البنية الاجتماعية وخصوصاً في البادية. كما أنها في الوقت ذاته توضح لنا أن المجتمع الذي تسوده قيم الفروسية غالباً ما تكون فيه العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مفتوحة خالية من القيود والحواجز لكنها في الوقت ذاته علاقة شريفة منزهة لا يشوبها دنس ولا عار ولا أي من الرذائل التي تتنافى مع القيم التي يفتخر بها الفرسان مثل العفة والشهامة والمروءة وشيم الأخلاق. لهذا نجد الرجال والنساء في البادية يتعاملون ويتكلمون مع بعضهم البعض على السجية والفطرة البريئة. وبعض النساء لا يجدن غضاضة في مشاركة الرجال مجالسهم العامة ومطارحتهم الحديث ومبادلتهم الرأي، وخصوصاً النساء اللاتي تقدم بهن السن والنساء الشريفات من بنات وزوجات شيوخ القبيلة وفرسانها وأعيانها واللاتي لا يستطيع أحد أن يطعن في عفتهن.

ومن المعروف أن بيت الشعر ينقسم إلى قسمين أحدهما للرجال ويسمى الربعة والآخر للنساء ويسمى الرفة. ولا يفصل الربعة عن الرفة إلا قاطع خفيف منسوج من الشعر. لذلك تستطيع المرأة أن تجلس في الرفة وتستمع إلى أحاديث الرجال في الربعة وإذا سنحت الفرصة أو دعت الحاجة تحدثت إليهم من وراء القاطع، خصوصاً وأن النساء يتلذذن بسماع الأشعار والحكايات التي يرويها فرسان القبيلة عن مغامراتهم وغزواتهم. ومن المواقف المألوفة في هذا الصدد والتي ترد كثيراً في قصصهم أن يقدم شاعر من الشعراء إلى شيخ القبيلة أو إلى أحد فرسانها ليمتدحه. وفي ثنايا القصيدة يشيد الشاعر بزوجة الممدوح ويعدد مناقبها وما تتميز به من طيب الأرومة وعراقة النسب مؤكداً أن هذه الحرة لا تصلح إلا لهذا الفارس. مثال ذلك أبيات للشاعر خلف أبو زويد يمتدح فيها الشيخ سطام ابن شعلان ومنها قوله:

              ياشوق من عيّت على كل ِخطّيب                قبلك على كل البوادي عصي به

              بنـت الذي وإن سولفوا بالمعازيب              أبوه مصوّت للعشا بالجذيبه(36)

              محنّي خشوم الفوس من شمّخ النيب             اللي يعيشون العرب من حليبه(37)

              خيله على الاقفاة عرجٍ تقل عيـب              والا على الإقبال عجلٍ هذيبه(38)

وحينما يلقي الشاعر قصيدته تكون زوجة الممدوح خلف القاطع تستمع لما يقال فيها وفي أهلها من الثناء والمديح. وحينما تسمع زوجها يعلن الجائزة التي سيمنحها للشاعر تسارع في التدخل وتصر على مضاعفة الجائزة مستخدمة في ذلك الحيلة الذكية والحجة القوية. من ذلك ما يقال أن شاعراً من الشعراء مدح نقا الشطير أحد شيوخ حرب بقصيدة جزلة نوه فيها بزوجته وبأبيها وأهلها. فلما فرغ الشاعر من قصيدته قال له الشيخ وكان يملك ذوداً من الإبل النجيبة تسمى "ذود العِقّر" "دونك ذود العِقّر وراك تخيّر منهن على عينك. شف الناقة اللي يطيح نظرك عليه وتجوز لك ِتقَفّه واخْذَهً". فبادرت إمرأة الشيخ والتي كانت تسمع القصيدة من وراء القاطع بقولها "هيه، الناقة الوحده لحاله والله لو تجي خيل بني صخر ما تقدر تِظْهْرها من ولايفها لكن خلّه يقرن له ثنتين وعساه يقدرهن".

وفي مجتمع البادية المفتوح قد تسمع المرأة بفارس من الفرسان أو حتى شاعر من مشاهير الشعراء فتتشوق إلى رؤيته والتحدث إليه وتقصي أخباره دون أن يثير ذلك حولها الريبة والشكوك أو يخدش في شرفها أو عفتها. وقد تعلن المرأة عن جائزة لمن يدلها على غايتها. وهذا أمر مألوف لدرجة أن بعل المرأة أو أباها أحياناً هو الذي يسعى إلى ترتيب هذا اللقاء المنشود. وأحياناً قد تحظى أحد النساء بقدر من الجمال وكمال الأخلاق فتشتهر ويعلو صيتها وتصل سمعتها إلى مشاهير الفرسان والشعراء الذين يجدون في البحث عنها للجلوس إليها ومجاذبتها أطراف الحديث. وأهل الفتاة لا يمانعون في ذلك لثقتهم بها ولأنهم يعرفون أن الناس في ذلك الوقت تغلب عليهم عفة النفس وطهارة القلب ونقاء السريرة ولأن قيم الفروسية وما تتضمنه من مفاهيم أخلاقية عالية تمنع من الانزلاق في المحاذير. كما أن أهل الفتاة قد يجدون في ذلك ترويجاً لسمعتها ليتقدم لخطبتها سادة القوم وأشرافهم.

يقال أن أحد الأعيان قابل الشاعر المشهور سرور الأطرش فقال له: إن ابنتي فلانة تسمع بك كثيراً وتسأل عنك فهيا معي لتناول القهوة والسلام عليها. فلما دار الحديث بين الفتاة والشاعر قالت له من باب المداعبة: كنت أتصور أنك شاباً وسيماً ولم أتوقع أن الشيب يعلو مفرقك. فقال فيها قصيدته المشهورة والتي منها:

              يازين شِفْني لا توصّي وصايا                  ما دمت عندك حاضرٍ قل وأنا أقول

              عَذْربت شيبي ياجمــيل الحــلايا           لا بد ما يبداك مع كل مجدول

              يبدى بشقرٍ مثل عصم الروايا                   عليـه من زين اليدق دل ودْلــول

وبعد ما فرغ من قصيدته وهم بالخروج قال له والد الفتاة: عرج على مخزن الغلال وخذ من هناك عدلاً من القمح احمله على راحلتك لأولادك. فقالت الفتاة: إنه يصعب حمل العدل على الراحلة. أعطه زنبيلاً من التمر ليعادله ويحلّي أولاده به أرياقهم.

ويقال أن أحد فتيات عتيبة وتدعى هلالة طالما سمعت بالفارس المغوار شليويح بن ماعز العطاوي فأعجبت بأفعاله وتمنت رؤيته ونذرت أن تهب قعوداً لمن يدلها عليه. فلما حانت لها الفرصة لتراه وجدته أسمر اللون شاحب الوجه فقالت: علمك جاني بس شوفك ما هجاني. فأجابها شليويح بقصيدة يسند أبياتها على رفيقه عبيد ويبين فيها للفتاة أن سر شحوبه هو ما يتعرض له من لهيب الشمس ولفح السموم:

              ياعبيد دونك شوّشت بي هْلاله                  شافت بوجهي ياعضيدي سْهوم

              وجهي مسوّدته لواهيب لاله                     من كثر ما ننطح لهيب السموم

وقال في مناسبة أخرى وفي موقف مشابه موجهاً أبياته إلى فتاة تدعى نيله:

              سلام يانيله بْوَسْط الجماعه                      ترى السلام البرح ما فيه منقود(39)

              ليته تبارينا على الهجن ساعه                   حتى تعذر وجيهنا لو غدن سود

ومجتمع البادية بطبيعته مجتمع مفتوح يكاد يستحيل فيه عزل النساء عن الرجال بصورة قطعية كما هي الحال بالنسبة لبعض مجتمعات الحاضرة في وقتنا هذا. فلا يوجد في الصحراء أسوار وبيوت الشعر ليس لها جدران، وكثيراً من الأعمال الرعوية تؤديها المرأة والرجل جنباً إلى جنب. لذلك نجد علاقة الرجل والمرأة علاقة تقوم على التفاهم والتعاون والثقة المتبادلة. هذا مع العلم بأن أبناء القبيلة الواحدة من الرجال والنساء غالباً ما تربطهم أواصر القربى وعلاقة الدم مما يجعل المحافظة على شرف القبيلة مسؤولية جماعية. في ظل هذا المجتمع الفطري البريء يصبح الحب العفيف وتبادل عبارات المودة والإعجاب بين الفتى والفتاة من الأمور الطبيعية التي ينظر لها المجتمع بشيء من التفهم والتسامح. لذلك نجد الفتاة لا تجد حرجاً في التعبير عن حبها بأبيات عذبة يرددها السمار ويحدوا بها الركبان. والدواوين التي أخرجها منديل بن فهيد وعبدالله بن رداس لشاعرات من البادية تحتوي على العديد من قصائد الغزل النقي الصريح التي تسيل رقة وتفيض عاطفة وتدل على قوة القريحة عند بنات البادية. وعلى الرغم من أن مجتمع الجزيرة العربية مجتمع مستقيم ومحافظ يتمسك بأهداب الدين القويم ويحرص على السجايا الحميدة والأخلاق الفاضلة إلا أنه لا يجد غضاضة في تداول هذه الأشعار الغزلية وروايتها لما فيها من العفة والحث على مكارم الأخلاق. والفتاة تتغزل غالباً بابن عمها الذي لا تعشقه لوسامته أو ثروته أو جمال هندامه بل لما يتمتع به من شهامة وشجاعة وكرم ونبل ومروءة وغير ذلك من صفات الأريحية والفروسية. وهنا يختلف الغزل النسائي عن الغزل الرجالي. الغزل الرجالي غالباً ما ينحى منحى حسياً يتمحور حول وصف المفاتن الجسدية. أما الغزل النسائي فإنه يتمحور حول قيم الفروسية ومعاني الرجولية الكاملة. ثم إن الفتاة حينما تتغزل بفتى أحلامها فهي لا تقصد بذلك أن تطارحه الغرام وإنما تطمح إلى أن يتزوجها ليستر عورتها ويسد خلتها ويؤنس وحشتها ويرزقها الله منه بالذرية الصالحة. وأجمل الأشعار تلك التي تتوجد فيها الحليلة على حليلها بعد طول غياب أو ترثيه بعد وفاته مما يدل على الوفاء وحسن العشرة وصدق الشعور. ومن المراثي المشهورة قصيدة قديمة قالتها زوجة ابن عروج شيخ بني لام ترثيه فيها بعد ما قتل في أحد غزواته ومنها:

              لى وابن عمي كل ما جيت ابنساه               إلى له تذكّـــرني مع الذود حايل(40)

              لى وابن عمي تطرب الهجن لغناه               من كثر ما توحيه صبح وقوايل(41)

              لى وابن عمي تنثر السمن يمناه                 على صحون كنهن النثايل(42)

              لى وابن عمي كل عـذراً تمــناه             عليه ترفات الصبـايا غــلايل

              ينلاع قلبي كل ما اوحيت طرياه                كما يلوع الطير شبك الحبـايل(43)

ومن أجمل المراثي قصيدة منها:

              خِليّ بوادي الحرث واطول هجراه              حالوا عليه عداه وسط المهاشي(44)

              ياليت خلي يوم قربت مناياه                     انه جضيع عندنا بالفــراشي

              ياليتنا في حزم ساجر دفنّاه                      واقلّبه وابرد لهيبٍ بجاشي(45)

              لو اطمع أنه حَيّ والله لانصاه                   ما انساـه لين الشيب بالراس غاشي

وهذا يقودنا إلى الحديث عن شاعرية المرأة وعن المواضيع التي يتطرق لها شعر المرأة. ولقد برزت في سماء الأدب الشعبي أسماء عديدة لشاعرات مجيدات كانت لهن صولات وجولات وتركن آثاراً شعرية خالدة تدل على ملكة شعرية خارقة جارين بها، بل أحياناً تفوقن على أقرانهن من الشعراء. ومن الأسماء البارزة مويضي بنت أبو حنايا البرازية ومويضي الدهلاوية وظاهرة الشرارية وبَخّوت المرية ومرسا العطاوية والدقيس وكنّه الرمالية الشمرية التي اشتهرت بمراثيها في زوجها عبدالله بن جحفل، وغيرهن كثر. ولم تترك المرأة باباً من أبواب الشعر إلا طرقته وأجادت فيه. ولقد مر بنا نماذج من أشعارها في الحماسة والرثاء. ولها أشعار في المدح والفخر بشيوخ القبيلة وفرسانها وأجوادها. ومن المواضيع التي تنفرد بها المرأة التحسر على حياة البادية بعد أن ترغمها الظروف على الاقتران بأحد أبناء الحاضرة.

وهناك فروق بين شعر المرأة وشعر الرجل. الشاعر أكثر حرصاً على القالب الفني يفرغ شحنته العاطفية في بناء القصيدة وزخرفتها وتنميقها. أما الشاعرة فإن قصيدتها غالباً ما تكون قصيرة في حدود عشرة أبيات أو أقل لكنها تأتي مشحونة ومكثفة وملتهبة. المرأة يهمها في المقام الأول التنفيس عن مشاعرها والتعبير عن إحساسها بصدق وحرارة دون الالتفات إلى الصناعة الشعرية. لذلك نجد المرأة، بخلاف الرجل، قليلاً ما تشغل نفسها بشعر المناسبات ولا يخطر ببالها التكسب بالشعر واحتراف النظم. الشعر عندها ليس صنعة ولا حرفة بل تعبير صادق عن إحساس كامن وعاطفة متفجرة. ويعترف الشعراء أن شعر المرأة في الغزل والرثاء أرق وأجمل من شعر الرجال. والنماذج الغزلية الجيدة كثيرة ولا يتسع المقام إلا لإيراد القليل منها. هذه أبيات للشاعرة الملقبة الدقيس:

              أمس الضحى عَدّيت في رأس عنقور            وأشرف على راع العلوم الدقاقه(46)

              أنا شِفاتي واحدٍ من هل الهور                   هو عشقتي من ناقلين التفاقه(47)

              عـوق الظليم ليا تحَدّر مـع الخــور         دم القرا ينقط على عظم ساقـه(48)

              هو صار لي عوقٍ وأنا صرت عاثور          والكل مِنّا صار شوفه شفاقه(49)

              لعب بقلبي لعـبة الغـوش بالبـور             واومى بي اوماي العصا بالعلاقه(50)

              غديت أنا لا احدي ولا ابدي ولا اثور           ثنان ثَنْيه للخلوج الوساقه(51)

              ياونتي ياما بكبدي من الجور                    ونّة ضعيفٍ ضاهدينـه رفاقـه(52)

              وِدّه سِمَر قلبـي ورا مِشـّة الـزور           سمر الحديد اللي جوادٍ حلاقه(53)

وتقول مرسا العطاوية:

              ياطير ياللي في مِسيرك رواجِ                  ليا طالَعوا زول الحباري مدابيح(54)

              يَتْليه مسباقٍ سواة العناج                        يشدي عناج مْعَلّقات المطاويـح(55)

              ياقلبي اللي بين الاضلاع ماج                   كمـا يموجن القـوايد عن الريـح(56)

             

ريحة فتيل مْوَلّعين الايلاج                      ليّ جا لهن غليّمٍ بالمصابيح(57)

              لـولاي اوّسع خاطـري بالزعـاج            لاغـدي سـواة البن بين المفاليـح(58)

              ليا قلّطوه وجا لضوّه سراج                     وصَكّــوا عليه وجا هروج وتمازيح(59)

              ياتل قلبي تل غرب ٍ هجـاج                   على ثلاثٍ يزعجنّه مشاويح(60)

              على قليبٍ وسطها الجم مـاج                   من يوم حِـفْـرت غربها هَزّ ما ميح(61)

              على عشيرٍ فوق ِ عدّ العجاجي                  قل لا سقاه الله سحابٍ مراويح(62)

وتقول أيضاً:

              َعدّيت بالطايل وظلّيت اخــايل                ولا جيت مايل لين فَيّي معي مال

              وجدي عليهم وجد راعي شــوايل             ِخلّي خلاف الجيش والـدم وَشـّال

              من كف شغمومٍ على وسق حايل                لعيون من قرنه على محزمه مال

              الله على مركب سبـوق الشـلايل              ِحرٍّ يْقطّع راكـبه خافــق الـلال

              الحق عشيرٍ حَطّ فِيّ الغلايل                     والا فباقي الحيّ ما حَسّوا البال

              هرجه حليب بكار عربٍ سلايل                 يرعن من سفوه إلى لّبة الخال

              يرعن بْضَفّ مسـفـحين الـدبايل             اللي يخلّون اشقر الدم وشال


 

(1) الشقي هنا ليست من شقاء الطبع بل من مشقة الحياة ومعاناة الشدائد. والذرية الصالحة كالثمرة الطيبة تخفف عن الإنسان هذه المشقة والعناء.

(2) حل الهم شوفه: رؤيته تزيل الهم وتروي الغليل لطيب أفعاله. مطلق: صاحب همة وعزيمة. ثبار: خامل.

(3) هذيلية: من قبيلة هذيل.

(4) عوباي: عيبي وتصرفاتي الخاطئة. المغوضه: الغيض والحنق. مرّ الكبد: حرارتها.

(5) أي أن الغيث سوف ينحبس عنا إن لم نرع التقاليد ونجير المستجير.

(6) لا يحل ولا يجوز تسليم الدخيل الذي يلجأ لبيوتنا يطلب منا الحماية.

(7) المرة الأخرى سوف يجنب عنا الخائف ويبحث عن طريق آخر يؤدي إلى من هم أعز جانباً منا وأكثر منعة.

(8) الغوش: الفتيان. تأمرهم أن يتمنطقوا بأسلحتهم. تر ما لكم دل: لا قيمة لكم ولا جمال فيكم إن لم تحملوا السلاح للدفاع عن شرفكم. مرشد: أحد رجالهم الشجعان توفي قبل الحادثة.

(9) وقعت سنة 1276هـ.

(10) وقعت سنة 1318هـ.

(11) طاره: أي طارت بلغة شمر.

(12) سنحاره: أحد فروع قبيلة شمر.

(13) أي أنها بنت شيوخ يقدمون الطعام لضيوفهم أيام القحط والجوع.

(14) ما نيب كاميها: لن أخفي اسمها.

(15) حلحيل: حلاحل. حزام: هو حزام بن حشر من شيوخ قحطان أصابه أحد فرسان قبيلة مطير في ذلك اليوم إصابة أودت بحياته.

(16) الظفران: الشجعان. شلاوي: بقايا.

(17) اللي مقافي: المتخلف عن اللحاق بالركب لأن فرسه أو مطيته منهكة والفارس الشهم عادة يكون في مؤخرة الركب لحماية هؤلاء المتخلفين. السبابا: الخيل. منوع: أي المنع، والمنع هو أن يطلب المغلوب من الغالب أن يمنع عنه سلاحه ولا يقتله على أن يتنازل المغلوب للغالب عن سلاحه وراحلته مقابل حياته.

(18) الطخاف: السحب المتقطعة ويقصد بذلك قطع القماش الداكنة التي تغطي هوادج النساء.

(19) الخلج: النوق التي فقدت حيوانها.

(20) عوج الحني: الهوادج وهي مصنوعة من الأعواد المحنية.

(21) العبدلي: لقب الشريف.

(22) الغلب: الرماح بكسو أطرافها الريش. عوج: من الطعن. مثاراه: أن يصيح الفرسان يالثارات فلان.

(23) ذهل الغطا: كشفت وجهها من هول المعركة. الرمك: الخيل. ينخاه: تشجعهم على القتال.

(24) فيصل: فيصل بن تركي آل سعود. ابن هادي: شيخ قبيلة قحطان.

(25) سعوطها المصاريع: ألبسوها الأعنة.

(26) أصلها: ادفع بها رأساً تجاه العدو.

(27) لكد الفرس: حثها بعقبه.

(28) الحبل: عنان الفرس. والفارس إما أن يطلق لفرسه العنان في حالة الإقدام أو يشده في حالة الإحجام.

(29) القهوة في مجالس البادية لا تقدم إلا للرجال الشجعان والكرماء وعلية القوم ويحرم منها الدهماء.

(30) لحّاقه: سريعة الجري تلحق بغيرها من نجائب الإبل.

(31) شفاقة: هو عم الشاعرة. اللاش: من لا شيء وتقصد الخامل من الرجال.

(32) العاقة: من أراذل الناس. لو أكل العمر عند أمي: لو أمضي حياتي كلها في بيت أمي بدون زوج.

(33) يظهر اسمي دائماً على لسان أخي لكثرة ما ينتخي به في المعارك وفي مجالس الرجال أما غيري من الفتيات فإن ذكرهن خامل لأن ليس لهن إخوة شجعان ينتخون بأسمائهن.

(34) جهاجيل: مجموعة من الإبل.

(35) الفزعة: هم من يفزعون في إثر الغزاة لاسترداد ما نهبوه من الإبل. سواة المظاهير: مثل المظاهير لكثرتهم والمظاهير هي الجمال التي تركبها النساء والأطفال حينما ترحل القبيلة من مكان إلى آخر. عكفان المخالب: الطيور الجارحة.

(36) هي تركية بنت جدعان بن مهيد شيخ الفدعان من عنزه ويلقب أبوها "مصوت بالعشا" لكرمه. الجذيبه: المكان المرتفع ويصوت في هذا المكان المرتفع ليسمعه الناس حين يدعوهم للعشاء.

(37) شمخ النيب: الإبل التي شمخ نابها أي تقدمت في السن، فهو لا ينحر صغار الإبل وإنما كبارها وسمانها. وبينما يكتفي الآخرون بالاقتيات على حليب هذه النوق وتقديمه لضيوفهم فإن الممدوح ينحرها مبالغة في الكرم لذلك تجد مقدمة الفؤوس والسكاكين لديه مصبوغة بالدم.

(38) وهو في الغزوات يمتطي جواده إما خلف قومه لحماية ساقهم أو في طليعة المغيرين على الأعداء.

(39) البرح: الواضح المكشوف على مرأى ومسمع الجميع.

(40) تقصد ذلوله التي كان يغزو عليها.

(41) كناية عن كثرة غزواته وأنه دائماً على ظهر مطيته.

(42) النثايل: جمع نثيلة وهو ما يستخرج من البئر من رمل.

(43) تصف خفقان قلبها حينما تسمع ذكر اسمه بالطير الذي صادته الشراك.

(44) وادي الحرث: موقع.

(45) حزم ساحر: حزن قرب ساجر وساجر موقع معروف. جاشي: جأشي أي فؤادي.

(46) عنقور: مكان مرتفع. العلوم الدقاقه: الحديث الرقيق والأسرار، وتعني محبوبها.

(47) شفاتي: شفي وغايتي. الهور: المنخفض من الأرض. ناقلين التفاقه: من يحملون بنادق الصيد.

(48) الظليم: ذكر النعام. الخور: الخبت. القرا: ظهر الظليم. وهي في هذا البيت تشيد بمهارته في الصيد.

(49) حبه أعاقني وحبي صار سبباً في تعثره وطال بيننا البعاد حتى صار كل منا يتشوق إلى رؤية الآخر.

(50) الغوش: الصبيان الصغار. البور: نوع من ألعاب الصبيان. أي أن حبه تمكن من قلبها وسيطر على مشاعرها وصار يلعب بها كما يلعب الصبيان بالبور ويتحكم بها كما يتمكن الرجل بعصاه حينما يمسك بعلاقته. العلاقه: خيط يربط في طرف العصا يعلق به.

(51) صرت لا أبدي ولا أعيد ولا استطيع النهوض وأحكم حبيبي قبضته عليّ كما لو أنه عقلني عقالاً مزدوجاً مثل ما يعقل الرجل الناقة التي يأخذها من أهلها عنوة فيشد عقالها لألا تفلت منه وتعود إلى أصحابها. الوساقه: الناقة يأخذها الغزاة عنوة من أهلها.

(52) هذا البيت يذكرنا بقول طرفة بن العبد:

                        وظلم ذوي القربى أشد مــرارة              على المرء من وقع الحسام المهنــد

(53) مشة الزور: ملتقى الأضلاع وسط الصدر. أي أن حبه تمكن من صدري كما لو أنه سمّر على صدري بمسامير جيدة الحلاق.

(54) الطير المقصود هنا هو الصقر المستخدم في قنص الحباري. رواج: طيران سريع متقلب في أثر الطريدة. مدابيح: خائفة تطير إلى إسفل.

(55) مسباق: السيور الجلدية الرقيقة في رجلي الصقر تستخدم لتثبيته على وكره. سواة: مثل. العناج: خيوط زاهية الألوان تزين بها المرأة خمارها. المطاويح: ما يعلق بالعناج من مفاتيح أو أشياء أخرى ثقيلة للزينة.

(56) ماج: راغ وزاغ. القوايد: التي تقود قطيع الظباء.

(57) الرائحة التي تروغ عنها الظباء هي رائحة الفتيل وهو نوع قديم من البنادق، تروغ عنه بسرعة حين تشم رائحته خوفاً منه. الايلاج: الفتيلة التي يشعلها الصياد لتفجير البارود. غَليّم: غلام. المصابيح: الأماكن التي تعتادها الظباء في الصباح الباكر.

(58) لولاي: لولا أني. اوسع خاطري: اروح عن نفسي. الزعــاج: الغناء بصــوت مرتفع. لاغدي: أصبــح، أصــير. المفاليـح: الرجــال الطيبون.

(59) الضمير يعود إلى البن، أي القهوة العربية. قلطوه: قدموه. الضو: النار المشتعلة. هروج: حكايات طريفة. تمازيح: مداعبة فيما بينهم، أي لولاي اروح عن نفسي بالأناشيد لاحترقت كما يحرق البن الرجال الكرماء.

(60) تحس الشاعرة بأن لواعج الحب وآلامه تعصر قلبها وتجذبه كما تجذب ثلاث من الإبل الفتية غرب السانية بسرعة وقوة. التل: الجذب والشد. هجاج: من الهجيج أي سرعة الجري. يزعجنه: يجذبنه بسرعة. مشاويح: مسرعات. وهذا كناية عن الجذب الشديد الإيلام.

(61) قليب: بئر. الجم: الماء الغزير. ماج: علت أمواجه. ميح: من الموح وهو أن ينزل شخص إلى البئر ومعه وعاء يستخدمه لملأ الغرب حينما يقل الماء في البئر. أي أن هذه البئر منذ أن حفرت وماؤها غزير بحيث أن المستسقي منها يكتفي بهز غربه ليملأه بالماء ولا يحتاج أن ينزل إلى أسفل البئر ومعه الوعاء لملأ الغرب. أي أن إبل السانية النشيطة تروح وتغدو بدون توقف.

(62) أي أنني أتألم هذا الألم لذكرى حبيب يقطن عد العجاجي: وهو مورد ماء معروف. وتدعو على ذلك المكان بعدم السقيا لأنه لو أمحل ذلك المكان فقد يضطر حبيبها أن يرحل مع قبيلته إلى المكان الذي تقيم فيه هي طلبا للماء والمرعى.

 

<< الصفحة السابقة  |  مقالات صحفية في الأدب الشعبي  |  أعمال قيد النشر  |  الصفحة التالية >>