الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

صفحات من رحلة داوتي إلى نجد

تشارلز داوتي (Charles Doughty 1843-1926) من أشهر الرحالة الإنجليز الذين جابوا جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويعد كتابه الترحال في الصحاري العربية Travels in Arabia Deserta من كتب الرحلات الكلاسيكية المهمة· ومعروف أن أسلوب داوتي في غاية الصعوبة والتعقيد لدرجة أنه يصعب فهمه أحيانا حتى على أبناء جنسه· كما أن تراكيبه اللغوية تصعب مجاراتها ولو جاراها من يترجم الكتاب لصعب على القارئ فهم الترجمة· يقول عنه الناشر الذي تولى نشر كتابه "أسلوب الكتاب غريب لدرجة أنه يصعب فهمه أحيانا"· لذلك حاولت أن اتبع في ترجمة النبذة التالية طريقا وسطا يحافظ على بعض خصائص أسلوبه مع إزالة ما يعتريه من غموض وتعقيد·

ومن المدن التي زارها داوتي في نجد سنة 1878م مدينة حائل التي قابل فيها أحد شيوخ قحطان حزام بن حشر وأفاض في الحديث عن هذه المقابلة وعن كون (معركة) دخنة بين قحطان من جهة وبين أهالي عنيزة وحلفائهم من مطير من جهة أخرى، وهو الكون لذي قُتل فيه الشيخ حزام· وكانت مطير تطلب الثأر من قحطان بعد هزيمتهم على أيديهم في كون سلبة الدحملية بنت ابن شقير·

بعد مغادرته حائل توجه داوتي في نفس السنة إلى عنيزة وقابل أميرها زامل كما عقد صداقة مع عبدالله البسام وعبدالله الخنيني· لكن أهل عنيزة ضاقوا ذرعا بهذا المسيحي الذي يجاهر بنصرانيته ويتحدى مشاعرهم· لذلك اضطر زامل أن يرحّله إلى بستان خارج البلد وطلب منه أن ينتظر هناك حتى يحين موعد مغادرة قافلة السمن التي تنطلق سنويا من عنيزة إلى مكة ليصحبها إلى آخر محطة لها قبيل وصولها إلى الحدود المقدسة ومن هناك يذهب إلى جدة· وقبل مغادرة القافلة حصل عبدالله البسام وعبدالله الخنيني على خطابات من الأمير زامل إلى أمير القافلة عبدالله، الذي كان من أسرة السليم، يوصيه بالعناية بهذا الرحالة· كما أوصى به ابن بسام إبنه عبدالرحمن الذي صحب القافلة وكذلك أوصى به عبدالله الخنيني قريبه سليمان، أحد رؤساء القافلة· واستغرقت رحلة القافلة من عنيزة إلى مكة 71 يوما وصف داوتي وقائعها وأورد الكثير من التفاصيل حول هذه الرحلة التي سوف أترجم مقتطفات منها·

لن أترجم كل ما كتبه داوتي أثناء حديثه عن الشيخ حزام أو عن كون دخنة أو عن رحلته مع قافلة السمن· لن أترجم مثلا المعلومات التي تتعلق به شخصيا لأنها لا تهمنا كثيرا، ولا تلك التي تتحدث عن التضاريس وطوبوغرافية المنطقة لأنه لا جديد فيها· سوف أترجم فقط تلك المعلومات ذات القيمة الإثنوغرافية والتاريخية مثل تلك التي تتحدث عن قبيلة قحطان أو عن الشيخ حزام أو عن كون دخنة أو سير قافلة السمن وما تتعرض له من مشاق ومتاعب، لأن في ذلك تسجيلا توثيقيا لحياة البادية وسفر القوافل ونشاط"عْــقيل" في ذلك الزمن، مع تحفظي على صحة بعض المعلومات ودقة التفاصيل التي أوردها عن بعض الأحداث وعلى الانطباعات التي يعبر عنها تجاه بعض الأشخاص والمواقف· وسـوف أضـع نقطا ثلاث ( · · · ) في مواقع الحذف من كل فقرة والذي قد يأتي في بداية الفقرة أو نهايتها أو وسطها، وإذا حذفت الفقرة بالكامل وضعت ثلاث نقط في بداية السطر ثم بدأت الفقرة التالية على سطر جديد· وإذا طال الحذف أكثر من فقرة سوف أضع ثلاث نقط على السطر لكل فقرة محذوفة· وبعد كل فقرة مترجمة وضعت بين قوسين رقم الصفحة أو الصفحات التي تظهر عليها·

 

لقاء داوتي مع حزام بن حشر في بلاط محمد بن رشيد

وحديثه عن كون دخنة

يتحدث داوتي عن لقائه مع الشيخ حزام وعن معركة دخنة في الفصلين الثاني والخامس عشر في الجزء الثاني من كتابه حيث كتب يقول:

أصبحت حائل الآن هي المركز لبادية الجزيرة على هذا الجانب من جبل طويق وفي محيط طريق الحج الشامي· وغالبا ما تصل السفارات من القبائل ممن ليسوا من أتباع الأمير ابن رشيد، ولكن ممن هم مضطرين، بشكل أو بآخر، للتعامل معه· وقد لفت نظري من بين هؤلاء الأعراب الغرباء أفراد من قبيلة قحطان، تلك السلالة العريقة المنحدرة من بلاد اليمن والتي تدعى عرب الجنوب -مثلما يدعى الفرع الإسماعيلي من سلالة إبراهيم عرب الشمال· ويستغرب هؤلاء الرجال إذا ما سمعوا أحدا يدعوهم بني قحطان· "هذي (كما يقولون) لغوة عنزه·" ولقد أكدوا لي أن جد قبيلتهم هو النبي هود وكان منشؤهم في جبال الطور في منطقة عسير· ويقولون بأن إسماعين أخو جدهم هود· ولا يعرف هؤلاء الرجال شيئا عن وجود قبر هود في الجنوب، وليس لديهم (بل يرون أن هذه أشبه بحكايات العجائز) أي خبر عن انهيار سد مأرب (والذي على إثره تقول الأسطورة بأن العرب القدامى انتشروا في عالم الجزيرة الصغير)· وأنشد لي أحدهم أهزوجة معروفة لكل قحطان منها البيت الذي يتحدث عن رمح هود الذي يشق الفضاء· وقد بادرني بعضهم سائلين "بالله عليك النصارى هم يعبدون الاصنام؟" ولا أعتقد أن هذه المفردة المأخوذة من الكتب معروفة لدى عرب الشمال· والقحطانيون الموجودون الآن في حائل مجموعتان· لقد جاءوا برفقة الشاب حزام (داوتي يكنبها حيزان، المترجم)، شيخهم المهيب، قادمين من القصيم ، تلك البلاد التي تغلغل فيها هذا الفرع من القبيلة خلال هاتين السنتين والتي تشمل في جزء منها ديرة عنزه التي هجرها ابن مجلاد بعدما أجلاهم منها عبيد بن رشيد· وعددهم مائتا بيت رحلوا من ديارهم في بلاد اليمن حيث لا تزال بقية القبيلة هناك (51)·

والآن للمرة الثانية ترسل هذه القبيلة الجنوبية التي تجوس في ديار ابن رشيد تطلب الصلح من الأمير الشمري؛ لكن الأمير، الذي لم تكن لديه الرغبة أن تقطن نجد هذه القبيلة الشموسة التي لا يؤمَن جانبها، صرفهم قائلا لهم أن يرعوا في المنطقة كضيوف، على ألا يرتكبوا أي عمل يندمون عليه، لكن الأمير يعتبرهم غرباء لا يأخذ منهم الزكاة ولا يحميهم ضد القبائل الأخرى· وأجاب المندوب القحطاني "بالله عليك يامحفوظ أجل ما حنّاب حنا وايّاك عيال عم؟ ما همب الرشيد جعافره من عبدة شمر اللي هي من عبيدة قحطان؟" لكن الأمير محمد رد بحزم "حنا ما نعرفكم، لا لغوتكم لغوتنا ولا طبعكم طبعنا· انهجوا، لا حنا منكم ولا انتم منا، وحنا لا نعينكم ولا نعين عليكم·" وبحكم أنهم منبوذين لدى دولة الرياض، لأن خيانتهم كانت السبب وراء تصدع قوة الوهابيين القديمة، صارت قبائل نجد تتخطفهم، إضافة إلى عتيبة من الجنوب· وأصبح هؤلاء القحطانيون الدخلاء محاطين بالأعداء الأقوياء من كل جانب (52)·

بدى لي هؤلاء الرجال يتكلمون بلهجة بدوية مفهومة لا تختلف كثيرا عن كلام بدو نجد، عدا أنهم ربما يكونون أكثر فصاحة وبيانا·حينما كانوا لا يزالون يقطنون في الجنوب كانوا يجلبون مؤونتهم من التمر من وادي الدواسر· قال لي أحدهم إن نخيل الوادي تبعد عنهم مسافة ثلاث رحلات على البعير، على أن لا تتخللها وقفات طويلة· وقال لي بأن الوادي منخفض رملي ومياهه جوفية· وأضاف أن أهل الوادي أناس طيبون "يكرمون الضيف"· لكن خلافاتهم هي التي دمّرت بلادهم، حيث أن النزاعات لا تنتهي بين القرى المتجاورة· وتقع الأفلاج (جمع فلج، كما يزعم العلماء والتي تعني فيما تعنيه الصدع في الجبل) في جبل طويق وسكانها من الدواسر· وعد لي من الرياض إلى الأفلاج ثلاث وإلى وادي بيشة اثنتي عشر رحلة على الذلول وسمى لي المحطات التي على الطريق وهي الفرع والسليل وليلى والبدع والسلي والهدا والحمر والسيح· وسألني بعضهم إذا ما كنت قد سمعت عن قصر ابن شداد· وتوجد في بلادهم بقر الوحش، والتي يسمونها أيضا وضيحي· ولم ألحظ أبدا ما يميز هؤلاء القحطانيين عن بقية البدو الذين عرفتهم· كانت بشرتهم فاتحة، وليست سمراء، كما هو الحال بالنسبة لغالبية عرب الشمال (52)·

القحطانيون الذي كنت أحادثهم في المِـشَـبّ كانوا مسرورين لسماعي أؤكد عراقة أصلهم ونبلهم وعلى مسامع رجال القبائل النجدية والذين، حتى تلك اللحظة، لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذا الأمر· ودعاني الرجال لزيارتهم في محل إقامتهم وقت المساء حينما يجتمعون مع شيخهم لشرب القهوة· لم يكن هؤلاء القحطانيون يرتادون مضيف ابن رشيد العام في قصره إما لأنهم يرون في شرب الدخان عادة سيئة لا يطيقونها أو لأن معظم من يرتادون المضيف من القبائل المعادية لهم· ويشربون قهوة الصباح والظهر والمساء لوحدهم في محل إقامتهم، لكن البن يأتيهم من مطبخ الأمير· وبعد العشاء ذهبت إليهم وحالما رآني شيخهم الشاب حزام طلب مني أن أجلس بجانبه على الجاعد الذي يجلس عليه وبحركة نبيلة صرف إلي فنجال القهوة لآخذه أنا الأول· كان شابا وسيما، ترى الرجولة في وجهه وفي هيئته، لم أر فيه شيئا يود المرء لو أنه على غير ما كان· كان درّة بين الرجال الذين قابلتهم في بلاد العرب· ولم يظهر عليه مس الحاجة في الخلا· تبدو على محياه سمات الشجاعة المبهرة مع مسحة من ضراوة الشباب· ولم تكن قد ظهرت بعد شعيرات اللحية على وجهه الغض الجسور· ويكمل وسامته ظفيرتين تتدليان على جانبيه من أطول وأجمل الظفائر التي رأيتها بين هؤلاء العرب· كان ضخم الجثة وأطرافه قوية· لكن حياته لن تطول (53)·

كانوا يخوضون في أمور الدين وأفتى شيخهم المتزمّت بأن واجبات المسلم تتلخص في ثلاثة أمور هي "الصلوات الخمس وصوم رمضان وأداء الزكاة " -كل الساميين داووديون، ما أشد تدينهم وما أشد جشعهم في نفس الوقت· وجل حديثهم في أمور الدين (بدون رياء) الذي يمثل بالنسبة لهم وازعا حقيقيا للتقوى مثلما هو يمثل بالنسبة لنا موضوعا محزنا ومشقيا وغريبا· وفي الحال تحول الحديث إلى ديانتي النصرانية· عندها قال حزام لواحد من ربعُه "عطني قديميّتي هذيك" مشيرا إلى مديتهم المعقوفة المقبض· أمسكها ولوح بها عاليا ثم استدار نحوي وطلب مني مهددا "صلّ على النبي·" أجبته "كلنا نعبد الإله الأوحد، أنا لا أستطيع أن أتخلى عن ديانتي النصرانية ولا أنت عن ديانتك لو كنت حقا رجل·" وحيث أنه ما برح يمسك بسكينته فوق صدري أردفت "لماذا هذه الخنجر؟ أخبر هؤلاء الحاضرين إن كنت حقا تريد بي السوء·" بعد ذلك سحب خنجره كما لو أنه شعر بالخجل والجميع يرونه يهدد ضيفه بهذه الوحشية· وبعد أن عاد إلى سجيته الأولى أجاب على كل أسئلتي· قال لي "مرّنا الصبح نقهويك ونشّدن عن اللي تبي وانا اعلّمك بالصحيح·" لما قلت له "عندكم الكثير من اليهود في بلادكم اليمن" انزعج هذا المتزمت الشاب لسماعه ذلك· "وهالخنجر من وين؟" سألته فأجاب "من نجران" قلت "وصناعكم بنجران ما هم يهود؟" هذا البدوي الشاب الجاهل الذي يعتقد أنني لا بد وأن أعرف الحقيقة قال وهو يصك أسنانه غيضا "الله ىسلّط عليهم·" لما عدت لهم في الغد وجدت حزام، الشيخ الشاب، لوحده ينتظرني بلباقة غير معهودة فيهم لأن العرب لا يرون شيئا في إخلاف الوعود· قال لي "يالله نروّح للربع بالمحل الثاني عازميننا نتقهوى هناك·" (53)·

ولما حضرت في ليلة أخرى لزيارة القحطانيين وسماع سوالفهم لم يرد حزام علي السلام· وحالما تناولت الفنجال بادر الشيخ الشاب، كما فعل سابقا، أحد رفاقه ليحضر القديميه وتناول السلاح بنظرات لا رحمة فيها واستدار نحوي كما من قبل وقال بإصرار "صل على النبي·" أجبته "أيها البدوي الجاهل، لماذا حتى في أمور دينكم أنا أعرف منكم بها؟" "أنت تعرف عن ديني أكثر مني! صل على النبي" (هنا تدخل بعض الرفاق من قحطان قائلين "لا ياحزام، هذا ضيف·") أردفت قائلا "لو عشت مقدار السنين التي مضت على هذه اللحية التي على وجهي لعرفت أيها الشاب أنه لا يليق ترويع الضيف·" وخمّنت في نفسي أنني لو قلت "ضيف الأمير الذي يقيم في القصر هناك" لقال بأنه هو الذي أمره أن يفعل ذلك بي· في تلك اللحظة خطرت في ذهني فكرة، قل نبوءة، أن منيّة هذا الشاب الطيب ليست بعيدة، وأنه على الرغم من تردي صحتي وكل الصعوبات والمخاطر التي أواجهها في رحلتي فإنه سيسبقني إلى حوض المنية· قلت له "قهوتك في فمي وأنت تسل علي سلاحك، ولكن قولوا لي ياقحطان، ألى تتقيدون أنتم بسلوم العرب؟" فأجاب البعض منهم "بلى والله·" ولكن حزام بقي صامتا لما رأى أن الغالبية ليست معه، والعرب عموما لا يتفقون على شيء مطلقا، عدا التمسك الأعمى بعقيدتهم، أقول هذا التحذير من أجل سلامة من يخاطر بالترحال معهم· ووفق تقلبات الحظ فلقد وافت حزام المنية بعد عدة أشهر حينما سقط في المعركة على يد أصدقائي· ولقد أصبح هذا الحدث حديث المدينة في اليوم التالي، ولا أشك أنه كان موضوع الحديث في القصر لأن مبارك أثار معي المسألة في المضيف وسألني "وش عِنْد القحاطين؟ وحزام وشُّو له يوم يسل عليك القديمي يبي يطعنك، ما ذلّيت من الموت؟" "لو خفت من كل كلمة أسمعها، أحكم بنفسك، هل كان يمكن لي أن أدخل بلادكم العربية؟ ولكن قل لي: هل تعتقد أن ذلك الشاب الطائش كان ناويا على قتلي، هل تعتقد ذلك؟" لكن مبارك، الذي كان بمثابة المتحدث الرسمي باسم الأمير، التزم الصمت (54)·

· · · ويسود بين أهل نجد الاعتقاد بأن "القحاطين ما يخافون الله يشربون دم الأوادم ويذبحون اللي يشرب التتن يدورون به الجنه"· وسمعت من بعض أعيان عنيزة أن "قحطان في اليمن يؤكدون أيمانهم فيما بينهم بشرب الدم البشري "ولا يتزوج الرجّال منهم ولا يفصخ بريمه إلا إلى ذبح واحد من عدوانهم·" ومنذ عامين قام أحد شيوخ قحطان بزيارة إلى حائل· وبعد أن تحدث مع الأمير عن شؤون القبيلة قال له الأمير ابن رشيد "على كثر المغازي اللي غزيتها بديار الجنوب ما عمرنا صادفنا قبور بديَرْكم ياقحطان·" يقال أن الشيخ أجابه مفتخرا "بلى والله يالمحفوظ، إلا شفت قبورهم، بالجو ياطويل العمر· بحلاقيم العقبان والرخم والغربان" يقصد بذلك أنهم لا يدفنون جثثهم، وهذا ما يحدث على أرض المعركة في الحروب القبلية التي لا تفتر حيث تظل الجثث لا تجد من يواريها الثرى· وهذا ما حدث لقحطان حينما سقط حزام قتيلا في الصيف بعد أسبوع من مروري بتلك المنطقة الموحشة التي تتحاشاها الركبان (55)·

بقية هذا الفصل من صفحة 56 إلى صفحة 61 لا علاقة له بقحطان· ثم يستأنف داوتي الحديث عن قحطان ومعركة دخنة في الفصل الخامس عشر من الجزء الثاني حيث يقول في الصفحة 472 بأن زامل أخر موعد الهجوم الذي سيشنه مع حلفائه من مطير ضد قبيلة قحطان الدخيلة عليهم حتى وصول القافلة الكبيرة القادمة من الشمال· أما القافلة المنطلقة إلى مكة فلن تبدأ رحلتها قبل حسم المعركة· وبعدها في أسفل الصفحة 473 يبدأ داوتي الحديث عن كون دخنه، يقول:

وصل شيوخ مطير إلى عنيزة للتشاور مع زامل والشيوخ والبت نهائيا في أمور الحرب بينما يعتقد القحطانيون أنفسهم في الخلا بمنجى من الخطر، وأنه ليس بوسع الحضر الوصول إليهم في هذا الموسم الحار· أما مطير فإنهم لا يخيفونهم· وأرسل زامل لكل من يملك ذلولا من أهل البلد أن أن يتجهز للركوب غدا· وقد قرر لهذه الحملة 600 ذلول· أما حلفائه من البدو فعدد غزاتهم 300 ذلول و 200 فرس (473-4)·

وفي اليوم التالي انطلق المطران في منتصف النهار نحو أرض المعركة· أما زامل فإنه لم يغادر برفقة حلفائه البدو· يقول الحضر بأن البدو غير مؤتمنين -مثلما حدث بالنسبة لسعود، أمير الوهابيين· كما سمعت أنه منذ عامين قام بعض البدو بعمل إجرامي بحق عنيزة· إبن رشيد هو الحاكم الوحيد الذي يركب ويغير مع رجاله وجنده واثقا من أتباعه من البدو (474)·

وركب زامل في اليوم التالي مع "أكثر من ألف" من أهل البلد ويقولون "إذا ركب زامل فالسعد يبرى له·" وترك علي يحكم مكانه· وأغلقت الأسواق والدكاكين· يتوقف البيع والشراء حتى تعود الحملة· في هذه الأيام لا تعقد سوق الضحى ولا يذبح الجزارون ولا يباع اللحم· وعلى الرغم من أن الغالبية كانوا مع زامل إلا أن الأسواق، كما يقول صالح، تبدو مزدحمة بالبشر· وسألته "ماذا لو أن أحدا فتح دكانه؟" الجواب "الامير علي يرسل له يصكّه وان ما صكُّه يجاب ويضرب قدّام الامير·" فقط تلك الحوانيت الصغيرة هي التي تظل مفتوحة، لأنها تعود إلى أناس بؤساء من كبار السن أو العجائز (474)·

يكتب الأمير أسماء الذين يلزمهم الخروج مع الغزو، وغالبيتهم من الشبان الذين يستطيعون الحصول على ركائب· لذلك تقع مسؤولية الخدمة العسكرية على عاتق الأثرياء، حيث لا وجود للمحاربين المشاة في الخلا· ولم نسمع بأن الوهابيين، وهم متخلفون في كل ما يخص الأمور العسكرية، كان لديهم مشاة· أما الناس العاديون فيبقون يواصلون أعمالهم ويحرسون البلد· ويقوم مندوب الأمير بالتنبيه على كل من يدرج اسمه بالاستعداد للركوب مع زامل نهار الغد· كل شخصين يمتطيان ذلولا واحدة· وغالبا ما يكون الرديف أخا أو ابن عم أو حليفا أو خادما لصاحب الذلول· ومن تحول الظروف دونه ودون مرافقة الغزو يمكنه أن يبعث بديلا عنه على ذلوله ورديفا· وإن لم يوجد في الجمع المصاحب للأمير ولم يبعث أحدا مكانه، فلربما يتم تجاهل الأمر إن كان الشخص مهما· زامل رجل متسامح ويعذر من يجد العذر لنفسه· إذا ما قال الرجل "والله ياطويل العمر إن عذري كذا وكذا ولا اقدر اركب معكم" فإن الأمير غالبا ما يرد عليه "أجل اقعد·" (474)·

وتلقيت خبرا كاذبا أن الخنيني كان مع الغزو· لكن ذلك الرجل العاجز أرسل ذلولين بركّابهما (والذين يمكن الحصول عليهم من أبناء البلد ومن البدو)· كما لم يذهب أحدا من أولاد رشيد مع الغزو· قال لي صالح "ركبوا اثنين من عيال عمنا عنا كلنا·" وفيما بعد قال لي أحد أقرباء زامل الذي كان معهم أن عددهم كان 800 رجل وكان المطران 300 رجل· سمعت البعض يقول أن عنيزة بعثت 200 ذلول، أي 400 راكب، وقال آخرون 500 رجل· يمكننا التخمين أن زامل طلب من أهل البلد 300 ذلول وحصل على 200 ذلول و400 راكب، أي حوالي ثلث عدد الرجال البالغين في البلد· وركب من مطير حوالي 150· وكان مع الحضر ما لا يزيد عن عشرين من الخيل مع طبقة الأمراء· ويقال أن قوة قحطان تبلغ (حسب تقديراتهم التي تميل إلى المبالغة) 800 رجل، والمحتمل أنهم 400، لكنهم، مثلهم مثل عرب الجنوب عموما، لا يمتلكون بنادق بالوفرة المطلوبة· إلا أن خيلهم كثيرة ويمتلكون ثروة ضخمة من الإبل· يقال أن عدد خيلهم 150، لكن دعنا نقول 70 (475)·

ركب أهل البلد في ثلاث مجموعات، تحت ثلاث رايات كل منها تخص حارة من حارات عنيزة الثلاث· ولكن لو كانت الحرب قريبا من البلد فإن عدد الرايات يرتفع إلى خمس (475)·

وبعد الظهر طرق مسمعي من البستان (يقصد البستان الذي يقيم فيه خارج مدينة عنيزة، المترجم) حديثا يدور بين فهد (أحد العاملين في البستان، المترجم) ومطيري معدم لم يستطع مرافقة أبناء قبيلته لأنه لا يمتلك ذلولا· قال فهد "تلقاهم هالحين حول ما ياصلون، يالله الا ويالله إنهم يقطعون روسهم ويعوّدون لنا بروسهم·" قال البدوي "يالله ياكريم، عساهم بعد يذبّحون وغدانهم، من سنتين وطالع، لاجل تزعج عليهم امهاتهم الصياح" قلت لهم "اصمتوا ياكفار، بل أنتم أحقر من الكفار·" قال البدوي "ياشين قحطان ذبّحوا ورعاننا أوّلا وذبحوا حريمنا·" هؤلاء المطران جاءوا ليبنوا بيوتهم بالقرب من سور البلد، وكان بجاورنا منزلان صغيران من منازلهم· ولا يختلف هؤلاء الأعراب عن غيرهم من البدو· سمعتهم يتحدثون نفس اللهجة التي يتكلمها بقية البدو، لكنني لاحظت أنهم من ديار بعيدة· فلقد رأيتهم يعلقون القرب على قنانير من الأعواد· وجاء البعض منهم إلي طلبا للدواء، لم يظهر عليهم أنهم كرماء· رأوا زامل يعاملني بتسامح فلم يبدر منهم تجاهي أي تعصب (475)·

· · · · في أحد الأيام رأيت إبلا ترعى باتجاه الوادي فمشيت إليها حافي القدمين أطأ على ما تبقى من قصب الزرع المحصود في فلاحة رشيد وعلى الرمل المحرق على أمل أن أجد عندهم حليبا لأشربه· حييت الرعاة فتوقف الولدان ولما أدركتهم خاطباني والدهشة تعلو وجهيهما "يارجّال النياق ما بها حليب، ولا هيب والله نياقنا، هذي اباعر اهل الديره، وحنا نرعاها للمسلمين" وقال لي أحدهم " إيه، أنت المداوي، مير ما تعطيني دوا والى جيتنا بديرتنا على حزّة ورد البل أبشر والله بالحليب من ناقتي انا اللي ما عندي غيره، لو ان حلالنا معنا إلا ان نحلب لك كل يوم·" انتهى يوم طويل، ثم آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، وبدى لي اليوم الثالث كما لو كان طوله ثلاثة أيام· قيل لي أن جميع أصدقائي ذهبوا مع الغزو والآن علي هو الذي يحكم البلد· ترجّاني صالح أن لا أقلق· لكن لا ينبغي لأحدٍ أن يصدق كلام العرب المعسول فهم يعتقدون أن الإنسان يكسب أجرا بمحاولته تهوين المصاب على الشخص الآخر (476)·

وصلت أخبار الغزو إلى بريدة فركب منها نذراء إلى قحطان· ولم يتكتم زامل على موضوع الحرب ليس تراخيا من هذا الرجل السياسي وإنما حنكة وتدبيرا· قال صالح إن هدفه إعطاء العدو فرصة للجنوح إلى السلم· كم هو مختلف عن صقور الرياض وجبل شمر (476)·

ذُكر أن قحطان تقطن قرب بلدة العيون فذهب الغزو إلى هناك· لكن زامل علم وهو في طريقه أنهم قاطنون على الدليميه، مورد بين جبل ساق والرس· ركب أهل البلد طوال ذلك اليوم ومعظم الليل· وفي ظهر الغد وصلوا إلى الرس وأناخوا للراحة ونصبوا خيامهم ومظلاة السجاد· هناك سمعوا أن عدوُّهم يقطن على آبار دخنة التي تبعد مسافة رحلة إلى الجنوب· وحينما ركبوا في الغد تقابلوا مع مطير وأناخوا معا وقت الظهيرة· وجاءتهم سبور مطير بالأخبار وقالوا بأنهم رأوا منازل العرب على دخنة بأعداد كبيرة مما يعني أنهم لا بد وأن يكونوا قحطان ويمكن مباغتتهم· وبدأ مثقفوا عنيزة يتباهون فيما بينهم على نار القهوة "سوف نحاربهم غدا عند خزاز حيث تقابل الملك تبّع اليمن مع الوائليين (أبناء وائل، أي عنزه)· كليب، شيخ ربيعة، ومعهم بنو تميم وقيس (قحطان ضد إسماعيل -كان ذلك قبل الهجرة بقليل)· يبعد جبل خزاز حوالي ساعة من بطين وادي الرمة (476-7)·

في الغد ركب زامل مع أهل البلد قبل مغيب النجمة وركب المطران قبلهم بقليل ولم تكن دخنة بعيدة عنهم· في هذه المعركة كان على البدو أن ينقضّوا على أعدائهم بينما يبقى زامل جاهزا لمساعدتهم· وخيّم أهل البلد بشكل دائري لمحاصرة قحطان من الجنوب (477)·

أغار المطران على أعدائهم مع بزوغ الشمس· فر القحطانيون من بيوتهم، ركب الشيوخ على خيولهم وبدأ الناس يتناخون ويتذامرون· وحينما أدركوا أن مهاجميهم هم مطير احتقروهم وصاحوا "جابهم الله" لكن ذلك اليوم كان بالنسبة للطرفين يوم حساب عسير حتى الموت· كان تحت المطران مائتي فرس لكنها من خيول الشمال التي لا تحظى بالاعتبار· كان القحطانيون في البداية ستين فارسا· ثم لحق بهم ثلاثون فارسا من أحد نجوعهم التي تقطن قريبا منهم· وأصبح عدد القحطانيين يتفوق على المطران الذين اضطروا في النهاية للتراجع (477)·

وحينما نظر القحطانيون حولهم تفاجؤوا بمشاهدة مجموعات الحضر تتقدم نحوهم· هنا صاح القحطانيون، الذين لم يقع منهم حتى الآن قتلى بأعداد كبيرة، "وشُّم ذولا؟ ابن رشيد؟ لا، ابن رشيد بالعاده معه بيرق واحد، الهقوه ان هذولا حضر·" وبعدما اقترب الحضر عرفهم بعض القحطانيين وصاحوا "هذولا القصمان، الزوامل (أتباع زامل)·" ولما رأوا الأمر على هذا النحو سارعوا لإنقاذ خلفاتهم (477)·

ولما رأى زامل، الذي كان لا يزال بعيدا عن أرض المعركة، خيالة البدو يسوقون الإبل أمامهم سأل "هذولا المسلمين (ربعنا)؟" فأجابه أحد شيوخ مطير الذي اصطحب الحضر ليدلهم على الطريق"لا بالله، هذولا قحطان·"ولم يجرؤ خيالة الحضر على تتبعهم نظرا لقلتهم· واجتهد القحطانيون في إنقاذ حلالهم وفروا من منازلهم تاركين وراءهم البيوت والأثاث والنساء والأطفال تحت رحمة الأعداء (477)·

وتتبع خيالة مطير القحطانيين الفارين والذين استداروا نحوهم مرة أخرى وصدّوهم· وهنا سارع خيالة الحضر لمساعدة حلفائهم· أما بقية مطير، الذين حطوا رحالهم، فقد سارعوا بالهجوم على البيوت وسلبها· وكل مطيري طعن القحطانيون نساءه برماحهم أو ذبح هؤلاء الشياطين أطفاله سارع برد الصاع صاعين· فطعنوا النساء وحزوا رقاب الأطفال الصغار أمام أمهاتهم الباكيات· "هذا بدال هكاليوم، يوم رجالكن يذبحون ورعاننا·" وقد هبت بعض النساء الغاضبات لمدافعة المهاجمين بأعمدة الخيام· لكن المطيريين المتقلدين بأسلحتهم وفي فورة الدم لم يمهلوهن· وهكذا سقط ما لا يقل عن خمس أو ست نساء قحطانيات ومثل هذا العدد من الأطفال (477-8)·

وفي وسط هذه المحنة قامت أحد النساء القحطانيات بإخفاء نقود زوجها وقدرها 600 ريال (وهذا مبلغ كبير بالنسبة للبدوي) في قربة وخلعت ثوبها الأزرق -وهذا، إضافة إلى الحقو، كل ما يلبسنه على أجسادهن التي أضناها الجوع- وعلقت القربة على كتفها ووضعت طفلها فوقها· ثم خرجت من خيمتها تهرول وتصيح مولولة "ياويلي، ياويلي!" وهربت عارية تخترق صفوف الأعداء· اعتقد المطران الذين رأوها أن أحدهم سلبها فمنعهم الخجل من مطاردتها، إلا أن أحدهم صاح بها لترمي ما تحمله على كتفها· لكنها تظاهرت بالجنون وصاحت "أما يكفيكم أن تسلبوا إبنة الشيوخ؟ أتريدون أيضا أن تحرموها من قطرة الماء التي تحملها لتنقذ بها حياة طفلها؟"· فنادى الآخرون "دع المرأة تذهب في حال سبيلها·" فهربت واجتازتهم جميعهم وأنقذت ثروة زوجها، وإن كان ذلك على حساب عفتها (478)·

سقط في المعركة ثلاثون قتيلا من قحطان، معظمهم قتلوا وهم فارون· وقتل من مطير عشرة· وعاد المطران لدفن قتلاهم· لكنهم هنا لا يعرفون الرأفة الإنسانية فهم لا يوارون قتلى أعدائهم الثرى (478)·

وأرسل القحطانيون الفارون امرأة إلى زامل حيث أناخ الحضر على الآبار (حيث ينصبون الخيام ويعملون القهوة)· وطلبت المرأة الأمان لبعض مشايخ قحطان للقدوم والتفاهم مع زامل، وسمح زامل بذلك· فجاء الرجال وقبلوه بتضرع وطلبوا منه، بما أن المطران انتهبوا قطعانهم وبيوتهم وأثاثهم، المجيء إلى الماء ليشربوا حتى لا يهلكوا· لقد أُنهكوا دفاعا عن أنفسهم والوقت شديد الحرارة· وبما أنهم لم يعودوا يمتلكون قربا فسوف يموتون عطشا في الصحراء أثناء فرارهم· ولكن من يأمن البدو ويثق بكلامهم! لذلك عليهم أن يقسموا على ما يقولون "عليك عهد الله وامان الله إني ما اخونك والخاين يخونه الله·" (478-9)

وهكذا تمت هزيمة قحطان الدخلاء، والذين كانوا يشكلون قوة يخشاها الكل، بما فيهم ابن رشيد (وقد هاجمهم ابن سعود في الصيف الفائت هنا على دخنه، لكن القحطانيون صدوه)· ويعتقد الجميع أن هذا النجاح مرده إلى أن زامل رجل محظوظ، ولم يكن هناك ضرورة ليستخدم الحضر أسلحتهم النارية· وبعث المطران رسولا من أرض المعركة إلى ابن رشيد وأرسلوا معه هدية فرسين من الغنائم· حتى بريده سوف تسر لرؤية تلك القبيلة الغريبة المؤذية تطرد من البلاد· ومات الكثير من القحطانيين خلال هربهم في الخلاء· حتى الجروح البسيطة، مع هذا التعب والظمأ الشديدين تصبح قاتلة· واستمروا في الهرب باتجاه الجنوب ثلاثة أيام، خوفا من أن يسمع الأعداء بهزيمتهم فينقضوا عليهم من كل جانب· سمعنا أن بعض العتبان لاقوهم وانتهبوا مائتي رأس من خلفاتهم التي هربوا بها· ويقول من جاء منهم إلى الاثله أنهم سُحِلوا وفقدوا مائة قتيل· لقد دفعوا ثمنا غاليا للأيام التي أمضوها هنا (سنتان بالتمام) كالذئاب ينشرون الرعب في فيافي نجد (479)·

لما استفسرت ماذا سيحل بقحطان· قال لي الشقراوي (من أهالي مدينة شقرا، المترجم) "البدو كلاب، لا تخاف عليهم، ما يضيعون، والقحاطين شياطين، يلقون مْيَة طريقه· افطن، ما يقومون لهم سنه او سنتين إلا هم مثل اول أو ازود·" "وهالحين وش يبون يسوّون" سألت، فأجابني "يتعيّشون على حليب نياقهم، ويبيعون بعض اباعرهم على اهل الديره ويشترون اللي يلزمهم من تمر ومواعين· بعدين ما يبطون ويدبّرون لهم بيوت تذرّيهم عن الشمس· يبن يجنّك حريمهم ويجزّن صوف غنمهم ووبر أباعرهم اللي هم زبّنوا عن القوم ويغزلن بالليل والنهار، وما تقوم الوحده له كم من اسبوع تغزل وتنطى الا هي بانيةٍ له بيت جديد، بعدين بني عمهم قحاطين الجنوب ما يخلونهم، إلا يساعدونهم·"·سمعنا بعد ذلك أن قحطان تصالحت مع عتيبة وصلّحوا أمورهم مع آل سعود· ولكن كيف لهم أن يأمنوا منهم على أنفسهم؟ ترى هل وعدوا أن يحالفوهم ضد ابن رشيد؟ (479)·

سقط حزام، شيخهم الشاب، في أرض المعركة· · ·  إنه هو الذي هددني في العام المنصرم في أحد قهاوي حائل· قتل حزام ثأرا لشيخ من شيوخ مطير كان أرداه قتيلا في أحد معاركهم التي وقعت في الشمال· ترصّد له أحد أقرباء الشيخ المقتول في أرض المعركة وحينما حاذاه بفرسه وجّه له طعنة قاتلة جرحته جرحا بلغيا وعميقا· كان حزام ضخم الجثة، بمعايير البدو، ويده القوية لم ترتعش، لكن طعنته لم تؤثر في عدوه الذي كان يلبس درعا تحت ثيابه· كان ذلك المطيري فارسا مغوارا على فرس أصيل أردى، إضافة إلى حزام، خمسة شيوخ· ولما حسمت المعركة ذلك اليوم بحضور زامل ورفاقه كان المطيري وأخوه وابنه، الذي لا يزال طفلا، (أبناء الشيوخ يركبون الخيل في سن مبكر ويصطحبون الكبار إلى الغزو) وآخرون من جماعته غنموا ثمانين خلفة· وقد أصيب هو ذلك اليوم بالرماح وأصيب بإحدى عشرة طلقة في صدره· لكن ذلك لم يؤثر فيه بسبب الدرع الذي يرتديه· يقولون إن تأثير الرصاص في الجسم المحاط بهذه الحماية المعدنية لا يتعدى بعض الندوب المؤلمة (479-480)·

وسقط في ذلك اليوم تركي، أخو حزام، وحتى أختهم سلبوها الأعداء وطعنوها بالرماح، لأن القحطانيين سبق وأن سلبوا وطعنوا إحدى بنات شيوخ مطير· أما الشيخ الكبير، أبو هذين الأخوين الذين عثر بهما الحظ، فقد طلب النجاة على ذلوله· وأركبوا حزام الذي كان يعاني من جرحه البليغ وهربوا حتى حلول الظلام· ولما توقفوا عند القلبان جنوبا من دخنة أسلم الشيخ الشاب الروح إلى بارئها ورمى رفاقه بجثته في أحد الآبار (480)·

وعثروا في قطين القحطانيين على أجنبي مسكين، شاب مغربي درويش وضع نفسه تحت رحمة الحضر· جاء إلى مكة في موسم الحج الفائت وبعد ذلك رافق قافلة عائدة إلى القصيم على أمل أن يسافر من هناك إلى العراق· لكنه ضاع من القافلة في الصحراء الشاسعة· ووجده بعض القحطانيين الرحل -ما أحلى أن تتولاك عناية الله ويُعثَر عليك في مثل هذا الموقف الحرج· لكن القحطانيين الذين أنقذوه · · · جعلوا من المغربي المسكين خادما لهم يرعى غنمهم· وكلما اقتربوا من قريةٍ أو مدينة أوثقوا كتافه لكي لا يهرب· وكان من المحتمل أنهم سيفعلوا بي نفس الشيء، بل أفظع من ذلك، لو أنني (كما فكرت في مرة من المرات) صاحبتهم إلى ديارهم· أحضر "المسلمون" العائدون الشاب المغربي معهم إلى عنيزة حيث سيبقى ضيفا في المدينة حتى يحين الوقت لذهابه· كان مع قحطان منذ فصل الشتاء وقال ببساطة "لم أكن أعرف ذلك النمط من الحياة، لكنهم جعلوا مني بدويا، وأصبحت والله مثلهم·" والحقيقة أن من يعيش مع البدو سيظل طيلة عمره يحن إلى الصحراء (480-481)·

في الليلة الخامسة شاهدنا خيّالا بدويا على حافة النفود، وهو من أول العائدين من الغزو· وعاد زامل ورفاقه في اليوم التالي وسمعنا جلبتهم وهم عائدون إلينا نراهم على حد الأفق، على أبعد من ساعتين يقرعون الطبول ويعرضون· عادوا في ثلاث مجموعات تحت ثلاث رايات· أما البدو فلم يعودوا حتى الآن· فلقد كثر اللغط بينهم، كعادتهم، حول تقسيم الغنائم· والبدوي لا يتخلى عن حقه حيثما وجده· وحيث أن قحطان سبق أن غنمت حلال مطير حينما أغاروا عليهم في الشمال، فلقد وجد المطيريون الكثير من حلالهم غنائم بأيدي إخوانهم من مطير· وفي الظهيرة من نفس اليوم رأينا غنما تساق نحو البلدة، وهي قليلة ومعظمها كانت أصلا من حلال مطير· جاء الذين عادوا من الغزو يحملون أخبارا سيئة فقد سقط ستة قتلى من المنزل الذي بجوارنا والذي يتألف من ثلاثين بيتا· ولما سمع زوجات القتلى بالخبر بادرن بالنواح وتقويض بيوتهن· ورحل البدو مع صباح الغد وعادوا إلى الخلاء· كانت هذه مأساة قحطان! وانعقد الصلح بين بريدة وعنيزة (481)·

 

داوتي يصطحب قافلة السمن المتجهة من عنيزة إلى الحجاز

يكرس داوتي الفصل السادس عشر في الجزء الثاني من كتابه  (ص ص: 486-518) للحديث عن القافلة، لكنه أورد في نهاية الفصل الخامس عشر نبذا تمهد لما سيأتي، مثل قوله إن عنيزة وحلفاءها من مطير كانوا في حالة حرب مع قبيلة قحطان لكن الأمير زامل أجل المواجهة معهم حتى قدوم القافلة القادمة من الشمال، كما أجل مغادرة قافلة السمن إلى مكة إلى ما بعد المعركة· وبعد ذلك يقول داوتي في الفصل نفسه· "والآن بدأ الجماميل في عنيزة يستظهرون عدتهم ويهيؤونها، حيث أن قافلة السمن المتجهة إلى مكة سوف تنطلق قريبا· فقد أحضروا الزمل، وهي الإبل المعدة لحمل الأثقال، من مراتعها في البادية وأصبحنا نشاهدها كل يوم وهي تروم في مراعي النفود المحيطة بالبلد· وكان قد غادر في تلك الأيام قافلة تحمل التمر والحنطة إلى المدينة" (481)·

وفي صفحة 484 يتحدث داوتي عن توقف قافلة السمن خارج مدينة عنيزة ومجيء حمد اليحي إلى هناك ليودع داوتي وكان حمد هذا ممن حضروا موقعة دخنة على فرسه· يقول داوتي:

· · · جاءني راكبا على فرسه يقود فلوا صغيرا قال لي إنه وجده مربوطا في أحد بيوت قحطان فجاء به معه وقال لي، ليبرر فعلته، "والا كان مات·" ويجري الفلو ويلعب وراء الفرس التي لا حليب فيها، كما لو كانت أمه الحنون· وتبنّت الفرس ذلك الفلو الغريب وتدير عنقها نحوه لترنو إليه وتنخر له بعطف شديد (484)·

تعشينا سوية وحدثني حمد عن لقائهم مع قحطان· قال بأنه ركب فرسه متسلحا ببندقيته "أم بطنين" لكنه اشتكى لي أنه كان من الصعب إعادة تذخير البارود من على ظهر الفرس· قلت سبب ذلك أنكم تركبون الخيول معرّاة ظهورها ما عدا المعرقه ولو استخدمتم الركاب لسهل عليكم ذلك· ووافقني على صواب رأيي· قال بأن غبار المعركة كان من الكثافة بحيث حجب الرؤية فلم يتمكن من تقدير عدد بيوت القحطانين لكنها ربما بلغت في رأيه 300 بيت· وعادة ما تذهب القافلة إلى مكة عن طريق دخنة لكنهم هذه السنة سوف يتحاشون ذلك الطريق بسبب روائح الجثث المتعفنة من القحطانيين· وسألته إذا كانت القافلة ستسير طوال النهار الحار فأجاب "لا، والا كان الشمس تموّع السمن ويخر من العكك·" وقال إن القافلة سوف تضطر للسير ليلا خوفا من قحطان وأن قافلتنا سوف تلتقي عند الرس مع القافلة القادمة من بريدة· وجلس يتحدث معي لمدة ساعة في ضوء القمر· وعبّر لي حمد عن أسفه أن ينهي صداقتنا هذا الفراق السريع· وقال يمكننا أن نتراسل فيما بعد· ثم ركب وقال لي إنه سوف يعود في يوم الرحيل إلى مكان تجمع القافلة ليودعني الوداع الأخير· لكنني لم أره بعد ذلك (484-485)·

ومن عادتهم في تلك الأقطار أن جميع من يريدون اصطحاب القافلة يتواعدون مكانا يجتمعون فيه خارج البلد، ومع حلول العشية التي تسبق يوم المغادرة يكون اكتمل العدد، وما تشرق شمس الغد إلا وقد بدأوا مسيرتهم· (485)·

وينتهي الفصل الخامس عشر ويعقبه السادس عشر الذي نورد منه الفقرات التالية (ولعل القارئ يلاحظ أنني تركت الفقرات الأربع الأولى وبداية الفقرة الخامسة لم أترجمها):

· · ·

· · ·

· · · كان الليل قد أظلم حينما وصلنا إلى محط القافلة، حيث حيى سليمان الجماميل الذين كانوا قد سبقونا إلى المكان برفقة أحمالهم· قادنا هؤلاء إلى المكان المخصص لنا في المخيم، حيث أن كل خبرة لها منزل تحط فيه وتنيخ إبلها أمامه· ها هي القهوة على النار في المكان المعد لنا ورأيت عكك السمن التي تؤول إلى سليمان (وكان عددها أربعا وعشرين أو ما يعادل طنا تقريبا) ملقاة على الأرض بانتظام: أربع من هذه العكك، التي تعادل الواحدة منها خمسة عشر صاعا (من أصواع القصيم)، تساوي حمل بعير، وقيمتها ثلاثون ريالا، ويأملون بالحصول على ستين في مكة· وقد مر بالمخيم البارحة جمع من أهالي عنيزة يودعون أصدقاءهم وإخوانهم المغادرين· هذا المكان الذي تتجمع فيه القافلة التي تقصد مكة يقع وسط النخيل التي خارج البلد واسمه الوهلان· · · · (487-8)·

لقد علمت الآن ولأول مرة أن لا أحد في القافلة ذاهب إلى جدة! كلهم ذاهبون إلى مكة· وأوصى عبدالله الخنيني (قريبه) سليمان أن يهتم بأمري وكذلك ابن بسام ذلك الشخص الطيب أوصى بي إبنه عبدالرحمن وأكدا عليهما قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة قبل مكة (سواء في وادي الليمون أو السيل) أن يبحثا عن "آدمي" يوصلني إلى جدة قبل الدخول في حدود الأماكن المقدسة· ولم يسبق للخنيني طاهر القلب أن حج من قبل، ولا يعرف الطريق ولم يخطر على باله الخالي ما سوف أتعرض له من مخاطر في نهاية هذه الرحلة (488)·

كان معنا في قافلة السمن 170 بعيرا -تحمل حوالي 03 طنا من السمن- ويصحبها سبعون رجلا منهم أربعون يعتلون مطاياهم، والبقية رعاة وجمالون· كنا متقسمين إلى خبر صغيرة، كل سيّد مع حاشيته وخدمه· وتحمل كل خبرة خيمة أو ظلة يظللون بها على رؤوسهم إذا حطوا الرحال ظهرا، ولتظلل السمن -الذي يذوب في العكك (وتسمى الواحدة منها جرم والجمع جروم) مع حرارة الشمس؛ لا بد أن تطلى الجروم من الداخل بطبقة سميكة من الدبس· · · · هذا السمن الذي يساوي أكثر من 2000 جنيه إسترليني في أسواق مكة يجمعه تجار عنيزة أثناء الربيع عن طريق المتاجرة مع البدو، ويحفظونه خلال هذه المدة في أحواض من الرخام (488)·

وهناك أمير يعينه زامل على هذه القافلة الكبيرة، وهو من عائلة الأمير ويستلم ريالا عن كل بعير من إبل القافلة· وقد حصل الخنيني على خطاب من زامل يوصي فيه أمير القافلة أن يتعهدني بالرعاية ويحرص على سلامتي إذا تركت القافلة في محطة العين· جلسنا حول موقد النار نتحدث حتى أخذ منا التعب ثم استلقينا لننام هناك، على رمل النفود (488)·

استيقظنا مع الفجر وكان لا يزال لدينا بعض الوقت لتناول القهوة· وكان الأمير وبعض تجار عنيزة الذين يقطنون مكة وينوون العودة إليها مع القافلة أمضوا الليل داخل المدينة، وسوف يلحقون بنا على نجائبهم العمانية· (الذلول من منطقة الخليج (عمان) قوية وضخمة لكنها أقل صبرا على الجوع والعطش من الأنواع التي دون مستواها· والعمانية التي تباع بستين أو سبعين ريالا في عنيزة لا تقل قيمتها عن 150 ريالا في موسم الحج في أسواق مكة حيث الطلب عليها كبيرا)· ولما طلعت الشمس حمّلت القافلة وانطلقت· وبعد قليل وصلنا وادي الرمة حيث سرنا لمدة ساعتين قبل الظهر ثم نزلنا في شعيب الشبيبية· · · · نصب أعيان القافلة شرعهم على شاكلة بيوت البدو بينما نصب الآخرون مظلات من السجاد البغدادي· ولم أر إلا واحدة أو اثنتين من الخيام المستديرة، بضاعة رخيصة يجلبونها من الساحل· والخبر الفقيرة لديها أغطية ممزقة منسوجة من الصوف سمعت أنهم كسبوها في حملتهم على قحطان· سليمان الخنيني جمال يمتلك الزمل، أما أحمال السمن الستة التي معه فإن قريبه عبدالله يشاركه فيها (488-9)·

ربما كانت الساعة الثالثة قبل أن تتحرك القافلة وكانت الشمس المحرقة قد انحرفت باتجاه الغرب· وأعطى خادم الأمير الإشارة بالتحرك بأن صاح بأعلى صوته "الشيل"· وفي الحال تقوض المظلات ويؤتى بالجمال وتبرك للتحميل ويسارع الجمالون إلى تحميل العكك الثقيلة على ظهور الإبل قبل رحيل القافلة، وهذا عمل شاق يفوق طاقتهم، وبدأ ركّاب النجائب بالتحرك ومن ليس على أهبة الاستعداد سوف يفوته الركب· ويقف خادم الأمير أمام القافلة مثل الراعي يمد ذراعيه ليمنع المتقدمين من المسير حتى يلحق بهم مَن خلفهم، أو يجري هنا وهناك رافعا صوته على من يخالف أوامره· ويبدأون المسير ولخوفهم من مجاهل الصحراء يتحركون مجتمعين· · · · (489)·

وفي الليل لا ينصبون الخيام بل تفرش كل خبرة خيمتها ويجلسون عليها تحت نجوم السماء، وفي آخر الليل ينام عليها رئيس الخبرة· ويقوم الطباخ بجمع الحطب، وآخر يقود الإبل إلى المرعى لتنال شيئا في نصف الساعة المتبقية قبل غروب الشمس· وكان مع سليمان ثلاثة من الجماميل أحدهم، وهو شخص معدم من أهالي عنيزة، كان طباخ الخبرة، والآخر بدويا· وبعد ساعة وضعوا أمامنا العشاء (طبق حار من القمح المطبوخ)· وبعد الأكل ارتشفنا القهوة، وجلسوا يتحدثون لبعض الوقت ويدخنون، ثم التحف كل منا عباءته ونمنا على الرمل، لنغفوا فيما تبقى من ساعات قليلة قبل طلوع الشمس (490)·

قبل الفجر بساعة سمعنا الصيحة "الشيل"، ونهض القوم مسرعين وحرث الحراس نيرانهم الخامدة ونفخوا على الجمر ليرتفع لهبا، ورموا على النار مزيدا من أعواد الحطب لتحترق وتضيء لنا المكان· ولا تسمع إلا الرجال بأصواتهم الجشة وهم يجهّزون للرحيل· ويزدحم المكان بالإبل التي لا تسمع إلا رغائها وتدافعها· ولن تمر دقيقتان أو ثلاث إلا والجميع على أهبة الاستعداد· الراكبون يعتلون مطاياهم والمشاة يلبثون يتفحصون المكان في ضوء الشفق الباهت للتأكد من أنهم لم يتركوا شيئا خلفهم· يتحرك الجمع وتبدأ مسيرة يوم جديدة تستمر أثناء حرارة النهار الطويل حتى المساء· وبعد رحلة ثلاث ساعات في صحراء منبسطة وصلنا الرس الذي لم يتردد أهله منذ جيلين في قطع نخيلهم ليعملوا منها متاريس وصدوا ببسالة هجمات جيوش ابراهيم باشا· أرسل الأمير ذلولا إلى البلد ليستطلع الأخبار وعاد النجاب ليخبره بأن قافلة السمن التي تنطلق من الرس قد غادرت من قبل مع قافلة بريدة التي مرت بهم منذ يومين· · · · (490)·

· · ·

· · ·

أحضر لي هذا اليوم أحد عملاء ابن بسام الخطاب الموجه من زامل إلى ابراهيم، أمير القافلة الشاب، بخصوصي· ورث ابراهيم هذا مهنته من أبيه -الذي كان حتى عهد قريب أمير قافلة مدينة عنيزة- وهو ابن اخت لزامل، إنه شاب في العشرين تبدو عليه أمارات الرجولة والنخوة· · · · وقد دعاني مرة لتناول العشاء معه حينما ننزل في المساء· وشباب التجار العائدين إلى مكة حيث دكاكينهم هناك وبعضا من رؤساء الخبر يمتطي كل منهم ذلوله ويدفعها ليسير في ركب إبراهيم يتقدمون القافلة في مسيرتها، وبين الفينة والفينة يتوقفون ويوقدون نارا من الأعواد التي يجمعونها لعمل القهوة· وقد وجدت الركوب في مؤخرة القافلة حيث السير بطيء أريح لي· · · · .(491)

· · ·

· · ·

إنها صبيحة اليوم الخامس ونحن ما زلنا نغذ السير في هذه البلاد المرتفعة، المليئة بالجبال، ومعظمها من حجر الغرانيت، وأغلبها ذات أشكال غريبة، حيث أن صخور الغرانيت تنفرش على شكل صفائح بل أحيانا على شكل قبب مستديرة وعلى شكل حراشف· ومن علامات الطريق جبل بازلتي فيه شرخ عجيب يسمونه "درب الذيب"· وقبل الظهر وقعنا على آثار غزو عظيم، وهو، كما يذكرون، ذلك الغزو الذي شنه مؤخرا ابن رشيد ضد عتيبة· وقبل الظهر سمعنا صوت النذير وتوقفت القافلة، يعتقد البعض أنهم طالعوا بدوا· هب الجميع إلى أسلحتهم، ومعظمهم أطلق النار في الهواء ليفرغوا بنادقهم ويعمّروها بالذخيرة من جديد· أما الجماميل المرهقين من السير على أقدامهم فقد بدأو يقفزون ويرقصون ملوحين برماحهم في الهواء· واقترب الركبان بعضهم من بعض وصارت القافلة تسير مجتمعة وبانتظام· وسليمان الذي كان أول من استخرج بندقيته من خبائها، ركب واضعا بندقيته التي يشتعل فتيلها في حضنه، وكان يزمجر ويصر أسنانه من الغضب· وكانت هذه سيرة الباقين، واشتد حماس أهل القافلة الذين يطلبون من الله أن يمكنهم من إبادة أعدائهم اللدودين، ذئاب الصحراء البشرية· وأرسل ابراهيم نفرا يعسون خبر الأعداء المتربصين، لكنهم عادوا بعد قليل ليؤكدوا أنه تبين لهم أن ما رأوه كان مجرد أشجار صحراوية· بعدها صاح خادم الأمير مناديا بمواصلة المسير· · · · (Doughty 1921, II: 493-4

وفي كل منزل ننزل فيه أرى مذكر في خيمة إبراهيم، فهو ينزل مع الأمير· هذا الشيخ البدوي رافقنا ليحمي القافلة في أي مواجهة تتعرض لها مع قبيلته عتيبة· كان هو ورفاقه الإثنين أو الثلاثة بمثابة العيون لنا في القافلة· · · · (494)·

· · ·

· · ·

في المضحّى تترك الإبل لترعى، وتروم هذه البهائم المنهكة في الصحراء لكن أفواهها التي جفت من شدة الظمأ لا تستطيع أن تمضغ إلا ما تقتطفه خلال سيرها السريع في الصباح الباكر حيث لا يزال تأثير برودة الليل على الأرض· تنوء هذه البهائم الضخمة بأحمالها وتعرق وتكاد تمتنع لشدة عطشها عن الأكل حتى نهاية اليوم السابع عشر، حينما تحط عنها أحمالها في مكة· لكن معاناة هذه الحيوانات النجدية تتجدد في أجواء تهامة الراكدة، حيث تبقى هناك لترتاح بضعة أيام فقط، وهكذا تقاسي بدون راحة حتى تعود ثانية إلى عنيزة وقد أجهدها الإعياء· وقال لي جماميلنا الأقوياء بتأوه (من عادة العرب كلهم التشكي بشيء من اللامبالاة من متاعب العيش في هذه الحياة) أن عملهم في الرحلة متعب جدا· يركب أحدهم في الصباح واثنان يمشيان وبعد الظهر أحدهم يمشي واثنان يركبان· ومسير قافلة القصيم لا يشبه مسير قافلة حجاج الشام التي تتحرك ببطء، فهم يحثون ركائبهم في حمارة القيظ من مورد لآخر· والموارد بعيدة بعضها عن بعض، ولا بد من الوصول إلى المورد التالي قبل اليوم الرابع من مغادرة المورد الأخير وإلا سقطت الإبل من الإعياء (495-6)·

وبعد ثلاثة أيام بدأ ينفد صبر رجال القافلة وصاروا يزجرون مطاياهم بأصوات مشحونة تصدر من رجال على حافة اليأس· يحثون قلائصهم لتغذ سيرها ويلكشونها برؤوس رماحهم· ينهرونها ويندبونها ويدعون عليها بالويل والثبور "يامل الطير"، "يامل الذبح"· ولو تلكأت لحظة لتقطف غصنا صاحوا بها "يامل الجوع"، "يلعن الله آبو هالراس، أو هالقلب، أو هالحلق"· ويجب على الجمّال ألا يصرف نظره عن حمل بعيره لأنه من عادة البعير إذا جاء منطقة رملية أن يبرك ويتمرغ فيها ليسكن الحكة التي نهرش جلده، ولو حدث ذلك تحطم الحمل· · · · ومع مرور كل يوم تزداد طباع أهل القافلة شراسة ويقل كلامهم ولا يتكلمون إلا بشق الأنفس· أما الجمالون اللذين يحسون مرارة العطش في حلوقهم فإنهم لا يتلفظون إلا نزرا وبعبارات نابية، مثل "أنا ولد ابوي"، "أنا اخوك ياختي"، "أجل انا عبد ابوك (لأطيعك أو أخدمك)" وإذا احتد غضب أحدهم صاح بجاره "الله لا يبارك فيك ولا يجيب لك خير" (496)·

وفي مضحّانا بلغت درجة الحرارة 102 فهرنهايت في الظل، وقدمنا موعد تحركنا واستعجلنا لندرك الماء الذي وصلناه قبل الغروب بساعتين· هذه عفيف، مورد قديم عمقه عشرة أبواع وهو مطوي بالحجارة البازلتية الخشنة· وأسرع سليمان مع بقية أعيان القافلة وتقدموا إلى الماء بعدتهم، كل منهم يحاول أن يسبق الآخر إلى فوهة البئر ليحجز مكانا للرِّي· ولما وصلناهم وجدناهم واقفين كل معه عدة السقي التي تتألف من عمود خشبي سميك يغرس في الأرض ويثبت بالحجارة وتثبت المحالة في رأسه المشقور، كتلك التي يستخدمها البدو في قلبانهم العميقة، وبدون هذه الطريقة لا يستطيعون جذب الماء· ويجذب الرشاء رجلان يسيران إلى الخلف ويقف الثالث على حافة البئر ليستلم الدلو المملوء إذا ارتفع ويفرغه في حوض الإبل، والذي هو عبارة عن قطعة من الجلد أو السجاد تفرش على حفرة كانوا قد حفروها بالحصا والعصي وأيديهم العارية في الأرض الصلبة المغطاة بالزلط· وسقيا هذا العدد الضخم من الإبل على قليب واحدة يتطلب جهدا كبيرا من الرجال الذين يعملون بأقصى طاقتهم ولا تسمع إلا أهازيجهم التي يرددونها بصوت واحد مثل البدو· · · · (497)·

· · ·

· · ·

تسلك القوافل التي تنطلق من القصيم إلى مكة طريقان؛ الدرب الغربي وموارده عديدة ومتقاربة، وهذا هو الطريق الذي سلكته من قبلنا قافلة بريدة والرس، ويسمى الدرب السلطاني· والدرب الأوسط الذي نحن عليه وتسلكه القوافل المسرعة وموارده متباعدة ومن يسلكه يسلم من الاحتكاك بالبدو لأنهم لا يقطنون على موارده في القيظ· ولا يجرؤ أصحاب القوافل على السقيا من الموارد التي يقطن عليها البدو الذين لا يؤمن جانبهم· في مثل هذه الحالة يأمر أهل القافلة البدو بالرحيل، فينصاعون لأوامر الحضر على مضض· أما إذا كان البدو القاطنين كثيرون ولا يستطيع الحضر ترحيلهم فإنهم يتناوبون معهم على الماء ويسقون بسرعة وأسلحتهم بأيديهم ثم يسوقون الإبل التي لم تأخذ كفايتها من الماء إلى المورد التالي· ومعظم الموارد في هذه الصحراء ماؤها مالح· وهناك طريق ثالث إلى الشرق منا يسمى درب وادي سبيع وموارده قليلة وصغيرة، ويسلكه المسافرون المستعجلون الذين يغذون السير مسرعين على ركائبهم النجيبة· · · · (498-9)·

عفيف التي توقفنا فيها لنستريح أرض منخفضة تحيط بها الجبال البازلتية· ورأيت الأحجار البازلتية الخشنة على فوهة هذا البئر تغطيها قشور الكلس الأبيض وأحدثت فيها حبال البدو اللينة شقوقا غائرة· وتنمو هنا بكثرة أعشاب الضرم الطويلة المعترشة التي سبق لي رؤيتها على طريق الحج الشامي· وسيقت إبلنا التي لم تطعم شيئا إلى المرعى· واعتلى رفاقنا أصحاب مذكر من قبيلة عتيبة المرقب، وهو جبل بازلتي بالقرب منا، للمراقبة· وكانت حرارة الشمس شديدة على رؤوس رعاة الإبل، لأن حرارة الشمس التي يمكن للمسافر أن يتحملها وهو يتحرك في الهواء لا تطاق حتى بالنسبة للبدوي في حالة التوقف· واشتكى لي أحد "الملاحيق" من أشعة الشمس التي صار يغلي منها دماغه· وقبيل المساء رأينا إشارة الخطر تصدر من رفاقنا في المرقب! وأُحضرت الإبل بسرعة· لقد شاهد الرقباء زول يعتقدون أنه بدوي· ولكن تبين لهم بعد قليل أنهم أربعة "أزوال" راكبين حميرهم .(499)

· · ·

· · ·

إذا وصل أمير القافلة إلى المنزل الذي يريد أن يتوقف فيه شد خطام ناقته وخبطها بعصاه على الرقبة وصوّت لها لتنيخ· وتبدأ البهيمة المتعبة ترغي وتثني ركبتيها وتدور حول نفسها كما يفعل الكلب إذا هم بالربوض· · · ويتبع أعيان القافلة أميرهم وينزلون معه ويحرصون على أن يتخذ منزلهم شكلا دائريا، ثم يسوقون الإبل إلى حيث تبرك وينزلون أحمالها· · · · (501)·

· · ·

· · ·

· · · وإذا تقرح خف الراحلة حطوا عنها حملها وقسموه بين بقية الرواحل مما يضاعف من عنائها ويزيد آلامها· والجمالون النجديون يخشون من مثل هذه الحوادث لذلك تجدهم حينما يتوقفون يعالجون قروح أخفاف إبلهم من بولها· ولطالما تساءلت إذا ما كان من الممكن صنع أحذية للإبل من الجلد؟ هناك بيت في معلقة لبيد يظهر لي أنه يشير إلى أن العرب الأوائل الأذكياء ربما استعملوا أحذية من هذا النوع ( 502-3)· (وهذا أيضا ما كان يفعله الأواخر، خصوصا في الغزوات، كما في قول عدوان الهربيد يمدح ساجر الرفدي: ساجر مسوّي للهجين النعال، المترجم)·

· · · قبيل الظهر وقعنا على آثار أدباش لبدو قادمين من جهة الحرة إلى حيث توجد آبار جيدة للسقيا في طريقنا· وفي المضحّى كان قد نال منا العطش، ولم نذق من الماء إلا تلك الجرعات المرة من ماء شرمة العكر ولن نصل الماء إلا بعد حلول المساء أو صباح الغد· وجدت درجة الحرارة في الظل 107 درجة فهرنهايت وبدأ يهب علينا السموم· وفي المقيل لا يتناول أصحاب القافلة إلا التمر وما تبقى من عشاء البارحة من الرز أو الثريد· ويأكل الأعيان والرعيان من قصعة واحدة ولكنهم اليوم لم يستطيعوا أكل شيء من شدة العطش· ذهبت إلى خيمة إبراهيم وابن بسام -كل منهم يحمل عشر قرب من الماء- لأطلب فنجانا من القهوة أو من الماء· وأعطاني رجالهم رشفة من الماء لا غير· لأن هذه طريقة العرب في السفر· ورأيت أنه لا يزال في حوزتهم عدد من قرب الماء المليئة (503)·

· · ·

· · ·

· · · بعدما تركنا خلفنا جبال الاكموم وهكران تنبهت إلى حركة في مؤخرة القافلة ورأيت البعض على ركائبهم يتقدمون القافلة بسرعة خاطفة· ساروا مسرعين يبحثون عن بعض الثمائل التي لا تبعد كثيرا عن الطريق· ولما وصلوها قفز كل منهم في حفرة الماء ليملأ قربته، ووقف في الماء الوحل الذي غمره حتى منتصف قامته· وسارع كل من الناس العطشى إلى الماء وشرب ملئ إنائه، ولم يتنبهوا إلا بعد ذلك إلى أن الماء لم يكن نظيفا (504)·

· · ·

· · ·

وفي الليل أرسل إبراهيم بعض الركبان ليجسوا لنا الماء أمامنا، والذي كنا نأمل بوصوله أمس، ويخبرونا إن كان البدو يقطنون عليه· طلعت علينا الشمس ونحن ما زلنا نستريح في هذا المكان الجميل· وذهب البعض يحملون بنادقهم متسللين بين الأشجار الشوكية الخضراء لاصطياد الحمام الذي يرتاد الموارد ولكن يندر رؤيته يطير في الخلاء· إلا أن الأمير بمشورة من مذكر أرسل لهم بأن يتوقفوا عن الرمي حتى لا يجلبوا إلينا انتباه الأعداء· وبعد طلوع الشمس بنصف ساعة رأينا روادنا يعودون حاملين معهم الأخبار بأنهم لم يلقوا إلا بدوا قليلين على الماء من عتيبة وأنهم تحدثوا مع واحد منهم وجدوه في الصحراء فدعاهم ليسقيهم من حليب نياقه· بقينا في مكاننا ونصبنا خيامنا· ونحروا فاطرا وزعوها على الخبر التي اشترت من لحمها· وقد استاقوا مع القافلة ثلاثا أو أربعا من هذه الجزر، وبهذه الطريقة يتذوق رجال القافلة المتعبون اللحم كل بضعة أيام (504-5)·

انطلقت القافلة ظهرا وامتدت أمامنا السبخة المستوية التي تصل إلى سيف الحرة وإلى اليسار منا يمتد أفق الصحراء· ومررنا ما بين جبل هكران المنخفض وأطراف الحرة· ومع غروب الشمس دخلت القافلة جانبا مجوفا على حافة الحرة صخوره البركانية ثقيلة وبازلتية· هنا مورد من عدة أبيار، المويه، أو مويه الشعيب، أو أمواه هكران، وهو مورد رئيسي من موارد العرب (505)·

وجدنا البدو كانوا قد غادروا المكان ومع ذلك فإننا نزلنا وقت الغسق قبل الوصول إلى الماء بمسافة ليست بالبعيدة، لأن المكان في هذه الأشهر يمتلئ باللصوص· وأرسلت كل خبرة رجلا إلى الآبار ليملأ قربهم من مائها ليشربوا· رتب أصحاب القافلة منزلهم على شكل دائرة ملمومة خوفا من مفاجآت الصحراء· وأشعلت النيران للطبخ وعمل القهوة· كانت الليالي مظلمة فاستعدوا للحراسة· يظل في كل خبرة شخصا متيقظا للحراسة، ويتناوب الحراسة ثلاثة أشخاص حتى مطلع الفجر· · · · وذكر لي سليمان أنهم في قوافل الحج السنوية التي تحمل البضائع الكثيرة والفضة يقومون بالحراسة الليلية طوال هذا الطريق الصحراوي الطويل (505)·

في الصباح الباكر ساق القصمان إبلهم إلى المورد ليسقوها حاملين أسلحتهم بأيديهم وكان عملهم سريعا نظرا لكثرة الآبار· وغادرت القافلة بعد طلوع الشمس بساعتين، وكان هذا اليوم الثالث عشر من مغادرتنا عنيزة· ولم نقابل أحدا من البشر منذ تركنا القصيم، ولكننا الآن نرى قليلا من البدو يقودون إبلهم إلى الماء ليسقوها· ولم يتغير منظر السهوب من حولنا، تتناثر قمم من صخور المرو، أكوام من البياض اللامع نراها في هذه الأرض· مررنا بدار، أو منزل قديم مهجور من منازل البدو، وآبار ماءها مالح· الجال المرتفع من حرة كشب يتجه معنا دائما حيثما نسير، وشاهدت فيه عبر الصحراء أشجار الأكاشيا الخضراء وتلال عالية من الرمال المتحركة أراها عبر الصحراء· وبدت لنا التلال البركانية التي لا نكاد نراها في ضوء الشمس التي لفها النشاص (هذه اللابات العظيمة غمرت الصخور البلوتونية، على خلاف حرات خيبر والعويرض التي يغطيها الحجر الرملي)· ولا تزال السبخات تمتد بين طريق القافلة والحرة· هذا هو ما نشاهده من تضاريس بشعة في الطريق من نجد إلى مكة· يبلغ ارتفاع هذه القفار حوالي 4200 قدم·

توقفنا في الظهيرة واستعجلنا في نصب الخيام لتقينا حرارة الشمس· واتجه نحونا قادم من الخلاء بدوي راكب ذلوله· أخبرنا هذا الرجل الودود من عتيبة أن قافلة بريدة على ماء مران، هناك أسفل من الحرة· وعصف علينا هبوب السموم من الغرب أثناء سيرنا بعد الظهر· وأنخنا للمبيت مع غروب الشمس· إلا أن بعض رجال القافلة، لما سمعوا أن هناك آبار غير بعيدة منا، ركبوا ليملأوا القرب بالماء، لكنهم عادوا بدون ماء لأنهم وجدوه، كما قالوا لنا، مالحا وطعمه كبريتي (505-6)·

· · ·

· · ·

· · · أثناء مسيرنا في المساء رأينا قطعان البدو من الأغنام يرعاها أطفال عراة· كان أولئك البدو الصغار نحيلي الأجسام وبشرتهم بنية بلون الجوز من لهيب الشمس المحرقة· شاهدنا إبلهم أمامنا واقترب منا الرعاة ليسألونا عن الأخبار· وجاءنا خيال راكبا فرسه العاري من السرج ودفعه بجرأة في وسطنا· وأصبحنا نرى بيوتهم السود· هؤلاء هم عرب الشيابين من عتيبة· كانت الشمس تنحدر نحو المغيب وابتعدنا قليلا عن قطين البدو ونزلنا· وجاءنا بعض نساء البدو يسألن أهل القافلة إذا ما كان لديهم قماش للبيع· لكن القصمان قالوا لي إن قصدهن التجسس على مخيمنا وإذا ما كان هناك شيء يمكن سرقته بالليل· لاحظت عيونهن حادة البصر بشرتي البيضاء وسألن "من هذا؟ من هذا الغريب بينكم؟" (506)·

وفي الغد واصلنا مسيرتنا وسط قطعان البدو، وكلها هنا وبرها أبيض· في هذه الصحراء المدارية رأيت بعض النباتات المنعزلة من صبار المفصليات المزهرة "الغلاثي" الذي يستخدمونه لعلاج الإبل، يدهن به البدو أنوف إبلهم المريضة· والأرض خليط من الرمل والزلط البلوري· وقبل الظهر بساعتين وصلنا إلى عرق آخر من عروق اللابة البازلتية وصادفنا إبلا لهؤلاء الشيابين صادرة من مورد الشعراء وكانت تبرك غير بعيد منا· هذه الإبل العتيبية لونها بني وقليل منها لونها يميل إلى السواد وكلها صغيرة الحجم· كان الرعاة شباب جريئون ويتكلمون بطلاقة· وحينما مررت راكبا أمام بيت منعزل رأيت داخله امرأة مع ابنها فسلمت عليها وردت علي بطلاقة "مرحبا، مرحبا"· حينما اقتربنا من منازل البدو بادر رفاقنا في القافلة، كعادتهم في الحذر من البدو، باستخراج بنادقهم الطويلة من أخبيتها وأشعلوا الفتائل وظلوا ركبين وبنادقهم على رُكبهم (507-8)·

· · · وقابلنا شاب بدوي رشيق جاء ليسقي إبله وكم كان وسيما وجه ذلك الشاب وهو يرتدي رداءه المكي الأزرق، وهذا اللون في نظر أهل الشمال لا يلبسه إلا النساء· وتساقطت ظفائره الحالكة السواد متناثرة على أكتافه· وصاح راعي إبلنا العنزي، الذي بحكم أنه بدوي يكره كل البدو الذين لا ينتمون لقبيلته، "هيه ياولد، أقول يالربع، أبك هذا رجّال والا مَرَه؟" وكاد الشاب المسكين أن يتميز غيظا ونظر إلينا شزرا بعينيه الجميلتين وكاد أن ينفجر بالبكاء· · · · (508)·

أمضى أصحاب القافلة ليلتهم هذه متسلحين· وكانت إغفاءتنا تقطعها صيحات التحذير وطلقات البنادق التي لم تتوقف حتى الصباح وأمضينا الليل ونحن عرضة للخطر من هذه الطلقات التي تصدر من مخيمنا· والبدوي الذي يقبضون عليه وهو يتلصص يحضرونه إلى خيمة الأمير، وقالوا لي إن عقوبته الضرب حتى الموت· ولا يكاد يفوت يوم دون أن يُفْقَد شيء من القافلة، ومن المحتمل أنه تُرك على الأرض أثناء ركوبنا في الظلام قبل انبلاج الصبح· وإذا وصلنا منزلنا التالي قام صاحب الحاجة المفقودة يصيح بين يديه المضمومتين إلى فمه يعلن عن فقدانه هذا الشيء أو ذاك ويطلب من أي شخص عثر عليه أن يخاف الله ويعيده·

جاء إلينا بعض البدو في الصباح وحالما رأوني سألوا بإلحاح من أكون، وسألهم أصحاب القافلة عن أسعار السمن في مكة· وحينما غادرنا، بعد أن أسقينا الإبل مرة أخرى، جاء بدوي واندس في القافلة، وكانت ملابسه رثة مثل غيره من البدو ولكنه كان وسيما مقارنة بالحالة المزرية لهؤلاء الحضر الكادحين· لكن راعي إبلنا العنزي بلسانه السليط لعن أباه الذي خلّفه وأمره أن يبتعد عنا! لكن العتيبي استل طرف سيفه من غمده وابتسم ابتسامة البدو المهذبة، فهو لا يخاف من الحضر وسط ديرته· · · · (508-9)·

<< الصفحة السابقة  |  مقالات صحفية في الأدب الشعبي  |  أعمال قيد النشر  |  الصفحة التالية >>