Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

أستراليا تشن حربا على البعارين

سعد الصويان

تفيد آخر الأخبار أن الحكومة الاسترالية تعتزم شن حرب على الإبل السائبة في صحرائها وذلك بتعقبها وإطلاق النار عليها من الطيارات المروحية· بدأ جلب الإبل إلى أستراليا سنة 1880 لاستخدامها كوسائل نقل ومواصلات عبر صحراء أستراليا الشاسعة· ولما انتشر استخدام وسائل النقل الحديثة من شاحنات وقطارات تم الاستغناء عن هذه الإبل وتركت سائبة في الصحراء· ونظرا لكون الصحراء الاسترالية غنية بمراعيها ومواردها المائية، ونظرا لعدم وجود حيوانات مفترسة قادرة على افتراسها صارت الإبل تتكاثر بشكل سريع ونسبة عالية تفوق 11% سنويا حتى فاق عددها 500.000 خمسمائة ألف رأس أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على الأراضي الزراعية وتهدد باستنفاد موارد المياه التي تشرب منها الأغنام والأبقار· ويعارض هذا الإجراء جماعة الرفق بالحيوان قائلين بأن من هم في المروحية لا يدرون بعد إطلاق النار هل البعير مات فعلا واستراح أم أنه جرح وبقي يتعذب· وهكذا ينطبق على الاستراليين المثل القائل: جزا ناقة الحج ذَبْحَـه·

قرأت هذا الخبر وتذكرت ما حدث للحمير عندنا في السبعينات الميلادية حينما غطت البلاد شبكة الطرق المعبدة وانتشرت الشاحنات واستغنينا عن خدمات الحمير فتركناها تهيم في الطرقات وعلى أطراف القرى والمدن وتعرضت لصنوف من التعذيب والتمثيل الجسدي على أيدي الصبية الأشقياء· وكان منظرا مألوفا أن ترى على مدخل أحد المدن حمارا يقاسي ألوان العذاب مما أصابه من هؤلاء الصبية قبل أن يتخطفه الموت فيستريح· وأذكر أن أحد المثقفين الرقيقين جدا لم يطق منظر أحد الحمير وهو يحتضر على باب المدينة فأخذته الشفقة واتصل بالشرطة حالما وصل المدينة ليجدوا حلا لذلك الحمار المسكين ويريحوه من العذاب الذي كان فيه· لكن ذلك المثقف كان سابقا لعصر بعدة أجيال حيث أن رجال الشرطة لم يتمالكوا أنفسهم فانفجروا ضاحكين ساخرين من ذلك الطلب الذي عدوه غريبا، وربما مهينا لهم· المخضرمون من جيلي تمر بنا أحيانا مواقف طريفة لا تخلو من المفارقات التي لا ندري حيالها أنضحك على ما كان عليه وضعنا وطريقة عيشنا وأساليب تفكيرنا منذ عقود قليلة أم نحمد الله على ما أنعم به علينا وعلى ما وصلنا إليه في هذه الفترة الوجيزة·

الأمر الآخر الذي تداعى إلى ذهني وأنا أقرأ الخبر الأسترالي هو لماذا لا تسعى أحد الشركات المستوردة للحوم من استغلال هذه الفرصة الذهبية وتتفق مع الأستراليين بدلا من هدر لحوم هذه البعارين من توريدها لنا وللسودان ومصر ولبقية البلدان التي يستطيب أهلها لحوم الإبل· يستحسن أن لا نفوّت هذه الفرصة الاستيرادية مثلما فوّتنا على أنفسنا فرصة تصدير حميرنا السائبة إلى بعض البلدان الآسيوية التي نسمع أنهم يسمنون الحمير ويأكلون لحومها· وهناك فرص أخرى أضعناها· ألا تذكرون حينما كنا نحرق الغاز الطبيعي الذي ترى لهبه عن بعد إذا كنت متوجها إلى المنطقة الشرقية!

حتى الآن يبدو الموضوع تهكّميّاً يفتقر إلى الكلام الجاد الذي "يجمد على الشارب"· ولكن يمكن بسهولة تحويله إلى موضوع جدي لو غيرنا اتجاهه نحو ثقافات الشعوب· لا فرق عند الأستراليين بين الإبل والحمير، فهم يعاملونها الآن بعدما استغنوا عنها مثل ما كنا نعامل الحمير بعدما استغنينا عنها· لكننا نحن استغنينا أيضا عن الإبل مثلما استغنينا عن الحمير ومع ذلك فهي لا تزال عندنا حيوانات مدللة ومعظم المعارض والمهرجانات والسباقات في منطقة الخليج تتمحور حول الإبل و"مزايين الإبل"، بينما لا يوجد سباق واحد للحمير، علما بأن الحمير خدمتنا مثلما خدمتنا الإبل· ما مصدر هذا التمييز في المعاملة والاهتمام عندنا بالإبل مقابل الإهمال التام للحمير؟

طبيعة حياة الصحراء الرعوية تملى على العربي أن تنشأ بينه وبين البعير علاقة من نوع خاص تصل إلى حد أنسنة هذا الكائن والتماهي فيه واتخاذه رمزا لكل ما هو نبيل وكل ما هو مأساوي في حياة الصحراء واتخذوا منه رمزا للتوجد والتوجع· ملازمة البدوي للبعير جعلت منه كائنا دائم الحضور كعامل أساسي في تحمل حياة الصحراء، وكمثال يحتذى في الصبر والتكيف مع بيئتها القاسية الشحيحة، ولذا سمو الإبل "عطايا الله"· ومما يزيد من ترسيخ هذه الصورة قدرة الإبل على حمل الأثقال وقطع المفازات الطويلة والصبر على الطريق وتحمل حفى الأخفاف والمناسم وما تحدثه ظلاف الأشده من قروح غائرة على الأجناب· احترام ابن الصحراء للبعير وإعجابه به لا حدود لهما· وإذا أرادوا إطراء الرجل ومدحه سموه "هديب الشام" أو "بليهان" كناية على أنه في تحمله وصبره يضاهي الجمال القوية· والرجال الذين يتحملون ويصبرون على الشدائد يسمونهم "زمول المحامل" وهي الجمال المعدة لحمل الأثقال· وشيخ القبيلة المثقل بإدارة شؤونها والذي يتحمل همومها يسمونه "جمل المحامل"·

ومما يزيد من إعجاب ابن الصحراء بالبعير أنه بقدر ما يمثل بالنسبة له النموذج الأعلى في الصبر والقوة والقدرة على التحمل فإنه في الوقت نفسه يمثل النموذج الأعلى في العطف والحنان· فالناقة إذا ما فقدت حوارها أو فارقت أليفاتها صارت تصدر أصواتا أشبه بعبرات الإنسان تسمى حنينا، ومن هنا أصبحنا نقول عن شوق الإنسان إلى أحبته أو وطنه حنيناً· والناقة لا تدر إلا إذا رأت حوارها وشمّته، والبدو لا يقولون عنها "درّت" ولا "أدرّت" بل يقولون عْطِفَت على حوارها، ومنه اشتقوا المفهوم الإنساني للعطف، وهو أن يرق قلبك للمحتاج والضعيف وتجود له بما عندك كما تجود الناقة بحليبها لحوارها· وهناك كلمات مثل "يروم"، و"يألف" استعارها الإنسان من الإبل التي تجزع جزعا شديدا لفراق أليفاتها حينما ينهبها الغزاة وتتشتت في أيديهم بعدما كانت أذوادا متآلفة· مثلما استعاروا الهيام أيضا لشدة العشق والتي تعني في الأساس شدة عطش الإبل وشوقها لشرب الماء· ومن الصفات التي نقلوها من البعير إلى الإنسان للتعبير عن الألم النفسي والعضوي قولهم "مضهود" لمن ألم به ضيم أو حيف، وتعني في الأصل الحمل الثقيل على ظهر البعير الذي يزيد عن طاقته، وقولهم "ملهود" لمن يخفي حزنا دفينا، والملهود أساسا هو البعير الذي أصاب جنبه ورم من تحت الجلد من ضغط الحمل عليه إما لثقله أو لسوء وضعيته، وإن لم يعرّي ظهره من الحمل تفتحت اللهدة وصارت دبرة·

علاقة ابن الصحراء مع بعيره تفوق في كثافتها وقيمتها ومعناها علاقته مع المخلوقات الأخرى التي يتفوق عليها البعير في وظيفته الرمزية المحملة بالمعاني والدلالات، كما يشهد على ذلك تغلغله في الموروث الشعري العربي، فصيحه ونبطيه، وبالثقافة العربية عموما· العربي والبعير لا غنى لأحدهما عن الآخر ولا يستطيع أي منهما تحمل العيش في الصحراء بدون الآخر· لقد ترافقا في رحلتهما الطويلة عبر عصور التاريخ وكانا خير عون أحدهما للآخر على طبيعة الصحراء القاسية· ثقافة الصحراء ورموزها تسكن الموروث اللغوي والشعري لأبناء الجزيرة العربية، بدوهم وحضرهم· النسيج الخيالي في الشعر العربي بصوره ومجازاته واستعاراته مستمد من البيئة الصحراوية ومؤطر بروح البداوة ونظرتها التي تشكل مادة لا تنضب للاستلهام الشعري وتهيمن على رؤية العربي وتتغلغل في تكوينه النفسي والوجداني· ومهما حاولت الحضارة بمنظوماتها الفكرية والأيديولوجية أن تضرب سياجا بين العربي وبين البداوة ورموز الحياة الصحراوية فإن لغته وشعره لن يسمحا له بالانسلاخ منها تماما·

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>