Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

الكرم العربي: رؤية اقتصادية

سعد الصويان

كلما صعد الحضر درجات أعلى على سلم التطور الحضاري وكلما تطورت وسائلهم التقنية واقتربوا من المفهوم الخلدوني للحضر كلما اتضح التمايز وزادت الهوة بينهم وبين البدو وابتعدوا عن قيم الصحراء· نتيجة الاختصاص في العمليات الإنتاجية يصبح إنتاج الغذاء في المجتمعات الحضرية وقفا على عدد قليل من أفراد المجتمع بينما يتفرغ الباقون لمهام أخرى يجنون من ورائها الدخل الذي يحصلون به على ما يحتاجون إليه من الغذاء· يؤدي تقسيم العمل إلى فصل الوظيفة الإنتاجية لتصبح مستقلة عن الوظائف الاجتماعية الأخرى ويصبح هدفها الأساسي ومقياس نجاحها أو فشلها هو إنتاج الفائض وإمكانية تخزينه وتحقيق الأرباح من ورائه مما يجعل تكديس الثروة أمرا ممكنا، وهذا بدوره يقود إلى تعزيز مفهوم الملكية الفردية عند الحضر والفلاحين، خصوصا أن الأرض الزراعية ملك ثابت وحق خاص لا يجوز لأحد استخدامها إلا مالكها الذي له حق توريثها لأبنائه· لذلك نجد الحضري يميل في سلوكه الاقتصادي نحو الترشيد والتدبير.

المحددات البيئية لقيم الصحراء تتجلى أكثر ما تتجلى في حياة البدو الرحل حيث تظهر آثارها الدراماتيكية على الإنسان والحيوان والنبات بصورة مباشرة وسريعة· حياة البدوي ونشاطاته محكومة بشكل ملحوظ بتقلب المواسم والفصول والمناخ والمؤثرات الطبيعية الأخرى· القيم والمثل التي ينضح بها الشعر العربي، فصيحه ونبطيه، أكثر تواءما مع بيئة الصحراء وأشد توافقا مع طبيعة الحياة الرعوية ونشاطاتها وألصق بمعيشة البادية وسلوكياتها· حياة البدوي صراع مستمر مع قوى الطبيعة والأعداء وثروته الحيوانية سريعة العطب جراء الجوع والعطش كما أنها عرضة للنهب من الغزاة· ومن الأمور العادية في حياة البدوي أن يصبح غنيا يملك قطيعا من الإبل فينهبه الغزاة ويمسي لا يملك شيئا أو أن يفقد قطيعه في سنة مجدبة أو يهلك ظمأ· هذا مما ينمي لديه نزعة المشاركة التي تتمثل في النخوة والشهامة والنجدة والإغاثة "الفزعه".

حياة البداوة الارتحالية تحد من إمكانية التكديس والتخزين والتوفير وبالتالي من مفهوم الملكية الفردية· الأرض في المجتمعات البدوية، بكل ما فيها من موارد طبيعية، ملك مشاع يمكن لأي فرد ينتمي إلى الجماعة إما بحكم الجوار أو القرابة أن يستفيد منها ويستخدمها لمنفعته الخاصة· علاقة القربى التي تربط الفرد بالجماعة هي التي تعطيه الحق في استغلال الأرض والاستفادة منها· ابن القبيلة له حق الرعي والاحتطاب والقنص في أرض قبيلته واستغلال مواردها أو حتى زراعة قطعة منها ولكن ليس له حق البيع أو التأجير، ليس له حق التصرف المطلق في الأرض ومواردها الطبيعية سوى الحصول على متطلبات الحياة الأساسية والجميع في ذلك متساوون· أي أن حق الاستخدام فردي أما حق الملكية فهو مشاع.

طبيعة الحياة الرعوية المتنقّلة لأبناء البادية التي تحتمها بيئتهم الصحراوية تحول دون تكديس الفائض وتجميع الثروة وتحقيق الأرباح· هنا يصبح الهدف من الإنتاج هو مجرد الاكتفاء الذاتي والاشباع المباشر لحاجات أفراد الوحدة الإنتاجية، أي العائلة، وهذا ما يسمى الإنتاج الطبيعي أو العائلي· ولو أنتجت العائلة ما يفيض عن حاجتها فإنها لن تبيعه لتربح من وراءه لأن ذلك يتنافى مع التقاليد والقيم الاجتماعية السائدة التي تحد من تكديس الفائض، ولكنها ستصرفه في عمليات غير إنتاجية كأن تمنحه على شكل هبات وهدايا لتعزز من وضعها الإجتماعي· ولا يوجد هناك من دافع لتكديس الثروة في المجتمعات التقليدية لأن التمايز في هذه المجتمعات لا يقوم على المال وإنما على اعتبارات أخرى مثل الكرم والشجاعة· الاستثمار في هذه المجتمعات لا تحكمه اعتبارات مادية وإنما اعتبارات اجتماعية وقيم ثقافية تعمل على توسيع دائرة العلاقات الاجتماعية وتدعيمها· أي أنه لا توجد أهداف اقتصادية من وراء الإنتاج وإنما أهداف اجتماعية يتم تحقيقها عن طريق ممارسة نشاطات في المجال الاقتصادي مثل تعزيز الدور والهيبة والمكانة الاجتماعية· التعامل المادي في هذه المجتمعات ليس إلا حدث عابر ضمن علاقة اجتماعية مستمرة تحكم هذا التعامل المادي وتوجهه وتؤثر عليه مثلما تتأثر به· ومن الآليات المتبعة لتوظيف الثروات المتراكمة نحو أهداف اجتماعية، بدلا من الأهداف الاستثمارية والانتاجية، إنفاقها بكرم على شكل هبات وإقامة الولائم الباذخة والتفاخر والتباهي في البذل، كما كان يفعل عرب الجاهلية فيما يسمى المنافرة والمعاقرة كأن يتباروا أيهم يعقر عددا أكبر من الإبل للضيوف، ومنها كذلك نظام البوتلاش potlatch المتبع بين هنود أمريكا الشمالية.

في ظل هذه المعطيات تصبح مشاركة الفرد الآخرين فيما يملك سمة ثقافية متأصلة وقيمة اجتماعية تلازم حياة البداوة· الكرم هو الإسستثمار الوحيد الذي يمكن التعويل عليه في مجتمع لا يعرف التكديس والتخزين· الضمان الوحيد أمام الفرد في مثل هذه المجتمعات هو توسيع شبكة علاقاته ما أمكن مع أكبر عدد من الناس ويالارتباط معهم عن طريق تبادل الهدايا ومد يد العون وتقديم الخدمات المجانية "الفزعات"· إلا أن المشاركة هنا تبادلية، بمعنى أن الإنسان يتوقع من الجميع أن يبادلوه كرما بكرم وأريحية بأريحية· إنها تكديس الجمائل عند الآخرين ومحاسبتهم عليها عند الحاجة؛ فالإنسان يعطي طواعية حينما يكون قادرا ليكون له الحق في الأخذ حينما يكون محتاجا.

وفي قصائد المدح والفخر يسترسل الشعراء في وصف ما تجده في بيت الرجل الكريم من البذخ في الضيافة ومظاهر الكرم· بيته كبير متعدد الأعمدة مبني على ربوة عالية يراه المسافرون من بعد· ويجلس صاحب البيت إلى ناره العظيمة ونجره النحاسي الكبير الذي يطرقه بنغمات موقّعة تتفاوت بين الرنين إذا ضرب بيد الهاون على قاعه وبين الخنين إذا ضربها على الجنب· كما يتحكم بصوت الهاون عن طريق الإمساك بحافته لكتم الصوت أو إطلاقها لإطلاقه· وكلما كبر حجم الهاون كلما كان صوته أقوى وأبعد مدى وأبلغ تأثيرا في استدعاء أهل النجع والضيوف الذين يتوافدون إلى صوته ليجدون صاحب البيت قد نحر لضيوفه الإبل والغنم السمان، ويستطرد بعض الشعراء في وصف انشغال العبيد والإماء بتقطيع اللحوم، فلا تسمع إلا أصوات الفؤوس تقطع الجزر المنحورة للضيوف ولا ترى إلا الجفان الضخمة تمتد مملوءة بتلال من اللحم والطعام· منظر الشحم وشمه وتذوقه أحد المتع التي قلما تتاح للبدوي لذا فالشاعر يستلذ في وصفها والجمهور يتمتع بسماعها· الشحم والدسم والسمن والدهن، كلها رموز للخير والرخاء، والسنة التي يكثر فيها المطر والربيع يسمونها "سِنْةٍ دسمه"، على عكسها "السنة الشهبا"· ومن ملذات الدنيا التي يطمح لها البدوي أن يتناول طعاما دسما يتسرب دهنه من بين أصابعه إذا ضغط بيده على اللقمة· وبعد الأكل يمسح الضيوف أيديهم التي يغطيها الدسم بمقدمة البيت التي يتقاطر الدهن منها دائما لكثرة ما يمسح بها من الأيدي· وفي هذا المعنى كتب محمد العلي العبيد في مخطوطه النجم اللامع عن كرم هذال بن فهيد الشيباني يقول "وقد شاهدت مقدم بيته وهو ينطف من الدهن وذلك ان عادة الاضياف متى فرغوا من اكل طعامهم عمدو الى مقدم البيت يمشّون ايديهم به فيكون الدهن تحته كالحبل الممدود".

العلاقات الاقتصادية في المجتمع البدوي يسودها مبدأ المبادلة والمشاركة وتتحكم فيها القيم الثقافية والاعتبارات الاجتماعية أكثر من المادية والنقدية· هذا مما يشجع على تصريف الفائض الإنتاجي في عمليات قد تبدو غير مربحة بمفهوم اقتصاديات السوق، غير أنها تشكل رصيدا اجتماعيا، بل وسياسيا، يعزز من سمعة الرجل ومكانته ونفوذه في المجتمع القبلي· الكرم من الخصال التي تقود المرء إلى الزعامة وتخلد اسمه في عالم الشعر والأسطورة وفي أحاديث السمر و"التعاليل"، مثل ما خلدت اسم حاتم الطائي والجربا وابن مهيد الذي يحمل لقب "مْصَوّت بالعشا"· معظم الناس في البادية يعيشون على حافة الجوع، وما أكثر ما يمضون الليل، خصوصا في فصل الشتاء، يتضورون من الجوع ويرتعدون من البرد· كان الناس في حاجة وكان للبذل قيمة· كرم الرجل هو المحدد الأول لنظرة الناس إليه ومكانته بينهم وشهرته في أحياء العرب· إنه نوع من أنواع الاستثمار لكنه استثمار في السمعة الطيبة والذكر الحسن· وعبر عن ذلك بوضوح محمد بن منديل من قصيدة له يخاطب فيها ابنه زيد، خصوصا في البيتين الأخيرين من قوله:

        أوصيك بالضيف الذي قد لِفت به // بليلٍ وولد النذل باحلى رقوده

        قم له الى ما نام غيرك عن القْرى // ولا تحسّب للخساره وكوده

        قل مرحبا ياضيفنا وسط بيتنا // الاجواد تِقري ضيفها من وجوده

        فلا بد ما يقفون باكوار ضمّر // للاجناب ياعيد الهجافا بكوده

        يعدّون ما قد فات منّك من الثنا // الاجواد يبدون الثنا في ردوده

        لولا الثنا ما صار للجود باعث // ولا للمراجل طاريٍ ومعدوده

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>