س

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

صفراء فاقع لونها

 سعد الصويان

(وإذ قال موسـى لقومـه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هـي قـال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا لإن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)) (سورة البقرة)·

في تفسيره لهذه الآيات وشرحه لمفرداتها يورد عماد الدين أبو الفدا اسماعيل بن كثير قصة نبي الله موسى مع بني إسرائيل ثم يعقب قائلا إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخبر عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأت عنهم ووقعت الموقع عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ولم يجدوا بقرة بهذه الأوصاف إلا عند رجل رفض بيعها إلا بملء جلدها ذهبا (مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق: محمد علي الصابوني، المجلد الأول، ص ص 75-77· دار القرآن الكريم، بيروت، 1981)·

ترد على ذهني هذه الآيات الكريمة والعظيمة في مغزاها الإيماني كل ما استمعت إلى برنامج من برامج الإفتاء في المحطات الإذاعية والتلفزيونية· يقبل الناس على هذه البرامج بشكل ملفت للنظر على الرغم من أن مكتباتنا تزخر بكم ضخم من كتب التفسير ومصادر الحديث الشريف والسنة النبوية المطهّرة ومختلف المراجع الفقهية والشرعية وشروحاتها في كل المذاهب، وكلها في متناول اليد ويسهل الرجوع إليها والنظر فيها، خصوصا وأن الغالبية العظمى من الناس في يومنا هذا نالوا حظا وافرا من التعليم يمكّنهم من ذلك· إذا كنا نستطيع وبسهولة أن نعود إلى هذه المصادر والمراجع الميسّرة ونجد الإجابة لأي سؤال يرد في الذهن مشروحة ومفصلة، فلماذا نصر على الاعتماد على الغير بدلا من الاعتماد على أنفسنا؟ هل ثقتنا بأنفسنا مهزوزة إلى هذا الحد، أم أننا غير مستعدين لتحمل مسؤولية اتخاذ أي قرار بأنفسنا، حتى ولو كان هذا القرار يمسنا شخصيا، أم أننا لا زلنا نطبق المثل النجدي الساخر: حِط بينك وبين النار مطوّع! أنا لا أتحدث هنا عن الأصول والمسائل الجوهرية التي تمس صلب العقيدة وإنما أتحدث عن مسائل فرعية جدا تتعلق بالطقوس والشعائر وممارسات الحياة اليومية· تجد السائلين في هذه البرامج يلحّون في المسألة عن قضايا فرعية من النوع الذي ورد عنه في صحيح البخاري ومسلم حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي (ص) قال: إن أعظم المسلمين جُرما من سأَل عن شيءٍ لم يُحَرّم فحُرِّم من أجل مسألته· وفسر ابن كثير قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم، بقوله: فلعلّه ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق·

الإسلام لا يتضمن أسرارا مقدسة وليس فيه تعميد ولا ترسيم كهنوتي ولا تفويض إلهي، ولا يجوز لأحد في الإسلام أن يدّعي بأنه يملك الحقيقة المطلقة أو أن يحتكر لنفسه دون غيره حق تفسير النصوص وفهمها· وليس لأحد قدسية في ذاته ولا عصمة ولا أي ميزة يتميز بها عن غيره ولا فضل إلا بالعلم الذي هو متاح للجميع ويمكنهم تحصيله إذا اجتهدوا· إننا حينما نضع ضمائرنا وذممنا وقلوبنا وعقولنا تحت تصرف كل من نصب نفسه للفتوى ونرجع لهم في كل صغيرة وكبيرة في شؤون حياتنا ليوجهوننا فإننا بذلك نقيم كهنوتا دينيا شدّد الإسلام في النهي عنه والتحذير منه· والحكمة في نهي الإسلام عن الكهنوت أن الكهنوت لو تأسس لتحول مع الوقت إلى تنظيم يتمتع بقوة معنوية ومصالح دنيوية سوف يعمل أعضاؤه على حمايتها والدفاع عنها، وربما استغلوا الدين لتوسيع نفوذهم وتقوية قبضتهم، كما قد ينخرط بعض ضعاف النفوس في هذا التنظيم لا تدينا وإنما سعيا وراء هذه المنافع وطمعا فيها، وهذا ما حدث بالفعل لبابوية الكنيسة في القرون الوسطى· ولقد رأينا في الآونة الأخيرة كيف استغل بعض المفسدين سلطة إصدار الفتاوى ليحيلوها إلى عملية غسيل مخ وتحكم مطلق بالعقول يوجهونها كيفما شاءوا، أحيانا إلى التطرف المهووس والتزمت الذي ينتهي بالتكفير والتدمير· ونرى اليوم بعض البسطاء الأغرار يستسهل الأمر وينصّب نفسه مفتيا يحلل ويحرم بدون علم لا حبا في هداية الخلق إلى طاعة الخالق ولكن رغبة منه في السيطرة وفرض السلطة والهيبة التي يعلم أنه ليس له طريق إليها إلا هذا الطريق·

إن التقيد الشديد والحرص الذي يصل إلى حد الوسواس والهوس في تنفيذ الشكليات وأداء الطقوس والشعائر يفرغ الدين من محتواه الروحي ورسالته الإنسانية السامية· لقد انشغل كثير من الناس بهذه القضايا الفرعية ولم نعد نسمع عن المبادى العظيمة والجوانب الإنسانية المشرقة في الإسلام ولا عن مسائل العدل والإصلاح الاجتماعي والحيثيات التي تنظم علاقات البشر وتعاملهم مع بعضهم البعض·

من سلبيات الإفتاء على الهواء أن المفتي يلزمه استيعاب حيثيات المسألة وظروفها وسياقاتها وملابساتها مما يتطلب التحدث طويلا مع السائل وهذا ما لا يسمح به وقت البرنامج· ثم إن السائل قد يكون من بلد يتبع مذهبا غير مذهب البلد الذي منه المفتي مما قد يؤدي إلى اختلاف الفتاوى لو كرر السائل سؤاله على مفتي بلده، وهذا ربما يولد لديه بلبلة وحيرة فلا يطمئن قلبه لا لهذا ولا لذاك· إذا كنا نسعى إلى تطوير وتحديث كل شؤون الحياة فمن باب أولى أن نطور الخطاب الديني في طريقة الطرح والصياغة دون المساس بالثوابت، وذلك تمشيا مع معطيات العصر ومتطلبات وسائل الإعلام الجماهيري· لماذا لا نستعيض عن برامج الفتاوى على الهواء التي صارت في أيامنا هذه موضة إعلامية أكثر منها حاجة دينية ببرامج وعظية تحث الناس على البر والتقوى والإحسان والورع وإيمان القلب وطهارة النية والتعامل الراقي مع الآخرين!

لا أعتقد أن قوة المسلمين وعزتهم ومستقبلهم ومكانتهم في العالم يتوقف على الهروب إلى الشكليات والأمور السطحية وعلى تجاهل تحديات العصر الحقيقية والتركيز بدلا من ذلك على قضايا ثانوية· ما نحتاجه اليوم هو التأكيد على رسالة الإسلام العالمية وعلى قدرته في التكيف مع واقع العصر والتعامل مع التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية وإيجاد حلول عملية لمشاكل الشعوب الإسلامية· أما فيما يتعلق بالأمور الشخصية وأسلوب الحياة وطريقة العيش فلا أرى أن من الحكمة ولا من المصلحة الحجر والتضييق على الناس في أمور وسعها الله عليهم، فهذه مسائل إيمانية محلها القلب والله هو الذي يحاسب العبد عليها حسب نيته· فلنمنح الإنسان هذا القدر من الحرية الشخصية ونتركه لضميره· لا بد من فسح المجال للضمير والوازع الأخلاقي، إلى جانب طاعة الله، في توجيه السلوك والتعامل مع الآخرين· لكن هذا لا يتوفر ما لم تتوفر الحرية الشخصية التي من خلالها يتعود الإنسان على تحمل المسؤولية·

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>